كيف إستذكر طلال سلمان علاقته بكمال جنبلاط بعد أربعين عاماً؟

كنت يافعاً حين التقيته أول مرة، في دار المختارة، فبهرني بداية بتواضعه: سلوكاً ولباساً وصوتاً خفيضاً وابتسامة تلتمع بداية في عينيه قبل أن تضيء وجهه، ثم بقدرته على الجمع في الاهتمام بين بسطاء الناس المحتشدين في القصر ومن حوله، الذين شدتهم الشعارات المدوية بوعدها المثير: وطن حر لشعب سعيد.. وبين كبار القوم، في الداخل والخارج، من ساسة ومفكرين ودبلوماسيين، يجيئونه للتشاور او للاستنارة برأيه.

كنا نقطع الطريق الى قصر الست شمس، متسلقين درج الدار نفسها لنبلغ مدرسة المعارف الابتدائية الصغيرة تلك التي ألح المعلمون المعدودون فيها على تحدي أنفسهم وتحويلها الى تكميلية، فكافأهم كمال جنبلاط بتقديم القصر ليكون المدرسة.

كنا، نحن الفتية الآتي بعضنا من البعيد الى مدرستها الرسمية، نعبر متسلقين درج القصر، وقد غطته الشعارات التي لها في قلوبنا رنين: وطن حر لشعب سعيد، والعلم الأحمر تتوسطه الكرة الأرضية وقد تقاطع فوقها المعول والقلم.

كان قبو ملحق القصر الذي غدا الآن متحفاً قد تحول الى “سينما الشعب”، وكانت جريدة “الأنباء” أول طريقنا الى القراءة السياسية المباشرة، وكانت بالنسبة اليّ أول منبر يتاح لي أن اكتب بتوقيعي، وفي بريد القراء، بعض الخواطر الوجدانية التي استولدتها الشعارات والأعلام وموقع القلم عليها، خصوصاً أنني لست على علاقة وطيدة بالمعول.

وكنا نسمع ونردد الحكايات عن عادات كمال جنبلاط وتقاليده الثابتة وهو الزعيم، وقد كان آنذاك يعاني صدمة التحول الذي نقل كميل شمعون الذي بات بفضل الجبهة الوطنية الاشتراكية رئيساً للجمهورية من موقع الحليف اللصيق الى موقع الخصم الشرس…

كنا ننتظره عصر كل خميس وهو قادم من بيروت بسيارته المرسيدس السوداء، ونسمع انه مُنع من قيادتها لأن أفكاره قد تشغله عن الطريق.

وكنا نراه في الصباحات المشمسة لأيام الجمعة والسبت أحياناً وهو يضرب أرض الحديقة تحت القصر بمعوله، ووليد الطفل آنذاك يمسك بمعول صغير ويحاول أن يداري الشمس عن عينيه الزرقاوين بكفه اللدنة بينما تطارده مربيته السويسرية بالقبعة.

وكان يأتينا من يهمس في آذاننا أحيانا ان “كمال بيك” قد قصد “كوخه” في أعلى المختارة، تحت بطمه مباشرة، ليختلي بكتبه وأوراقه وأفكاره، يقرأ ويفكر ويكتب، فنحرج من رفع أصواتنا، مهابة، بوهم انها قد تزعجه!

******

من الصعب ان يتحدث جيلي عن كمال جنبلاط، السياسي والمفكر والكاتب والشاعر أحياناً، بلا عاطفة… حتى بين خصومه كان الإعجاب يخالط الاعتراض، وكان التقدير يحفظ للخصومة كرامتها، ذلك ان كمال جنبلاط كان صريحاً في خصومته او معارضته السياسية من دون إسفاف، وكان حاداً في رفض ما لا يقتنع به وقد يقسو على الحكام ممن يرفض مسلكهم او قراراتهم، ولكن اسلحة هجومه كانت دائماً سياسية يتجنب معها الانزلاق الى الطائفية او المذهبية او التشهير الشخصي. وكان كثيراً ما يلجأ الى الكاريكاتور في توصيف خصومه، ولكنه لم يصل ابداً الى رفض الآخرين ولم يخطر بباله ان يلجأ الى غير الكلمة والموقف في حروبه التي نادراً ما هدأت.

ولقد طال الزمن واستطال النقاش واستفاض حتى توقف كمال جنبلاط عن اعتراضه على استخدام السلاح في المواجهة السياسية… وحتى عندما سال الدم غزيراً، حاول اللجوء الى سلاح السياسة فقال “بعزل” حزب الكتائب كعقوبة سياسية، قد تمنع تحول الصدامات المحدودة، حتى يومها، الى حرب أهلية تذهب بالوطن وتضيع الأخوة الفلسطينيين عن طريقهم الى تحرير فلسطين.

في ربيع 1974 وعشية اصدار “السفير” ذهبت الى كمال جنبلاط في منزله أشرح له تصوري للجريدة الجديدة.

قال وقد أخذ بحماستي للعروبة: يا عمي، أقرن العروبة بالديموقراطية. شرط انتصار الفكرة العربية أن تتواكب فتتكامل مع الديموقراطية. إن الأنظمة التي رفعت شعار العروبة قد حكمت غالباً بالقمع فأساءت الى فكرة العروبة وشوهتها ونفرت الناس منها. صارت العروبة تشبه الحاكم الذي يدّعي تجسيدها والناطق باسمها، فنفر منه الناس.

وافقته بطبيعة الحال وذكّرت بتجربة جمال عبد الناصر فقال جنبلاط بشيء من الحسرة:

خسرنا بطلاً عربياً عظيماً، وفي تقديري ان نظامه قد قتله. ان عبد الناصر أرقى من نظامه كثيراً، ولكن نظامه كان لسنوات طويلة أقوى منه. لعله لم يتحرر من قيود النظام القمعي إلا بعد النكسة. لو كان نظام عبد الناصر ديموقراطياً لما توفرت لإسرائيل فرصة ذلك الانتصار الهائل الذي سيفرض علينا القهر لزمن طويل.

بعد صدور “السفير” اتصلت طالباً موعداً فقال: بل انا سأجيء لزيارتكم…

وجاء كمال جنبلاط فسمعنا منه امتداحاً لاتساع “السفير” للآراء المعارضة لنهجها السياسي. قال: هذه نبرة لبنانية تفيد العرب في تحركهم نحو المستقبل، لا تخافوا ممن يخاصمكم، الضعيف لا يخاصمه أحد.

وعلى امتداد السنوات الثلاث بين صدور “السفير” وغياب القائد الكبير كانت صلتنا به مستمرة: نسترشد بأفكاره، ونستمع الى وجعه وهو يندفع مكرهاً الى قبول مبدأ المواجهة بالسلاح مع الذين حاولوا ان يفرضوا سياستهم بالمدافع والسيارات المفخخة والقتل على الهوية.

******

يمكن القول بامتياز إن كمال جنبلاط هو شهيد الديموقراطية بامتياز، كما هو شهيد العروبة بامتياز. بل انه شهيد الغلط الذي أوقع التصادم بين شعار العروبة والديموقراطية.

وها نحن بعد أكثر من اربعين عاماً من الغياب نستمر في دفع ضريبة الدم الباهظة، نتيجة الافتراق بين الشعار العربي الذي رفعه الكثير من الأحزاب والحركات السياسية في ظل حد أدنى من الديموقراطية كانت تتمتع به في بلدانها ذات الأنظمة المدنية شبه الديموقراطية، وبين الممارسة القمعية التي لجأت اليها حين تسلقت الدبابة الى السلطة بذريعة حماية العروبة… في حين أن الدبابة التي حمت السلطة قد سحقت اول ما سحقت العروبة ومعها الديموقراطية بذريعة حماية النظام من أعدائه الذين تحولوا فجأة من حلفاء وأصدقاء بل ورفاق في العقيدة، الى عملاء للاستعمار والإمبريالية والصهيونية.

إن دماء كمال جنبلاط ترسم لنا الطريق الى الغد: فلا مقاومة للاحتلال الإسرائيلي ومشاريع الهيمنة الأميركية التي بات لها الآن عنوان ناصع مكتوب بالنجيع العراقي، إلا بإعادة الاعتبار الى العروبة لتكون حركة بناء الغد…

وإعادة الاعتبار تقضي أول ما تقضي بإنهاء الفصل التعسفي بين الديموقراطية والعروبة.

ان العروبة الآن في المعارضة… معارضة في الشارع لنظم الطغيان، ومعارضة مقاومة للاحتلال الأجنبي، لا فرق بين ان يكون أميركياً او اسرائيلياً. وليس جديداً الاكتشاف ان الطغيان حليف موضوعي للاحتلال، يمهد له ويحميه، وان الاحتلال حليف موضوعي للطغيان يرعاه ويزينه للناس ويحميه.

وبين المزايا النادرة لهذا النظام اللبناني ان بقية من ديموقراطية فيه، بفضل التنوع، قد وفرت مناخاً صحياً لمقاومة الاحتلال الصهيوني، بالسلاح كما بالعقيدة والصمود الشعبي… وهكذا تضم قوائم الشهداء مجاهدين من حزب الله وحركة امل كما من الحزب الشيوعي والحزب القومي والحزب التقدمي الاشتراكي وحزب البعث وتنظيمات أخرى تؤمن بأرضها وبشعبها.

ان كمال جنبلاط يسكن في الديموقراطية وفي العروبة وفي الشعار الذي استذكره بهياً مكتوباً بالأحمر على مدخل “سينما الشعب” في المختارة التي تعرفت فيها وعبر العلم الذي يتقاطع فيه المعول مع القلم، إلى كل لبنان: وطناً حراً لشعب سعيد.

لنواصل المسيرة نحو كمال جنبلاط الذي ينتظرنا في غدنا غد العروبة والديمقراطية والتحرر.

كمال جنبلاط

من الذاكرة..

شرفني زماني بأن أتاح لي أن التقي الزعيم – المفكر- المثقف- المتواضع كمال جنبلاط وأنا تلميذ..

لم أجد مدرسة رسمية تكميلية في بعقلين، التي كان والدي الرقيب في الدرك رئيساً لمخفرها، فنصحه زميله وصديقه وابن بلدته -رئيس مخفر المختارة آنذاك، بأن “يوفدني” اليها لأدرس فيها. وهكذا كان، سكنت في غرفة استأجرتها في منزل “العيوقة” المتحدرة من آل قهوجي، والتي كانت آنذاك قد جاوزت في عمرها المائة وخمس سنوات.

ولقد امضيت في المختارة سنتين دراسيتين نلت في ختامهما الشهادة التكميلية (البريفيه)..

ولعل المصادفة وحدها هي التي أتاحت لي أن التقي كمال جنبلاط، ضمن وفد من التلامذة، لنشكو اليه أن انتقام الرئيس الراحل كميل شمعون منه قد اصابنا نحن، في المدرسة، اذ امر بنقل الاساتذة جميعاً، ومدير المدرسة إلى جهة أخرى مما يهددنا بالتشرد.

كانت “الادارة” قد كلفت تلميذاً جهوري الصوت أن يقرأ “عريضة” تشرح الحال، فاذا ما ارتبك وقف تلميذ ثان، فأكمل المهمة.. لكن الاول اضاع النص المكتوب فأخذ يبحث عنه عبثاً، بينما ارتج على الثاني أن يتحدث في حضور الزعيم المهيب، برغم تواضعه الجم.

عندئذ التفت كمال جنبلاط إلى جمعنا وقال من خلال ابتسامة:

– يا عمي، اليس بينكم من يخبرني ما القصة؟

وتشجعت بانني “الغريب” الوافد والذي لن يكون سهلاً عليه ايجاد مدرسة بديلة، فوقفت، ورويت ما فعله كميل شمعون بالمدرسة ومدرسيها انتقاماً من كمال جنبلاط، نتيجة الخصومة السياسية..

ضحك كمال جنبلاط قبل أن يسألني عن هويتي ولماذا انا في المختارة، فلما رويت له حكايتي اظهر تعاطفه، وطلب إلي أن أزوره صباح كل سبت..

وخرجت منفوخ الصدر، متباهياً على اقراني التلامذة بهذا التكريم الاستثنائي..

وصرت أزوره صباح كل سبت، فأفطر معه، ثم يهديني كتاباً… وشرف اللقاء.