التقدم الصامت في مجال غاز شرق البحر الأبيض المتوسط

في كانون الثاني/يناير، ومن دون صخب، بدأ تدفق الغاز الطبيعي من حقل “تمار” البحري الإسرائيلي عبر الحدود بالقرب من الطرف الجنوبي للبحر الميت، حيث سيوفّر الكهرباء لمحطة برومين ومصنع بوتاس في الأردن. وعلى الرغم من أن كميات الغاز المتدفقة ضئيلة نسبياً، إلا أن التطور كان مهماً لأنه جاء في وقت يساور فيه الملك عبدالله قلق شديد إزاء عزم إدارة ترامب الجديدة على نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس. وكان لدى البلاط الملكي أسباب كافية للتقليل من شأن علاقات الأردن بجارته الغربية، لكن إبرام اتفاق الغاز اعتُبر أكثر أهمية على ما يبدو. وفي حين ربما تشرح حساسية العاهل الأردني سبب عدم موافقة عمّان علناً على شراء الغاز من حقل “ليفياثان” الإسرائيلي الأكبر حجماً، يبدو أن المقاربة السرية نفسها إزاء تطوير موارد النفط والغاز تطبّق في هذه الحالة أيضاً.

هل يتمّ إبرام المزيد من الاتفاقات؟

يُعتبر احتمال إبرام اتفاق مهم مع شركة توليد الطاقة الكهربائية الرئيسية في الأردن “الكهرباء الوطنية” عنصراً أساسياً في قدرة حقل “ليفياثان” على الاستمرار، وكان المراقبون قد توقّعوا الإعلان عن إعطاء هذا المشروع الضوء الأخضر في أواخر عام 2016. وبعد أن بدأ العام الجديد ثم ذهب، بدا أن غياب أي أخبار في هذا الخصوص لا ينبئ بالخير بالنسبة للاتفاق، تماماً كالمعارضة المحلية الشديدة في الأردن لشراء الغاز الإسرائيلي (على الرغم من أن هذه المشاعر يجب أن تُخفَف بسبب اعتماد السكان على مياه الشرب من إسرائيل).

غير أن شركة “نوبل للطاقة” ومقرها هيوستون – التي تترأس اتحاد الشركات المسؤول عن تطوير حقلي “تمار” و”ليفياثان” – أعلنت فجأة في 23 شباط/فبراير، أنها ستمضي قدماً في تطوير هذا الأخير. ولم تشر الشركة مباشرة إلى أي انخراط من جانب الأردن، لكنها ذكرت عوضاً عن ذلك وبطريقة غير مباشرة أن المشروع سيوفّر “موارد طاقة للمواطنين الإسرائيليين وللدول المجاورة بأسعار معقولة”، وأن الغاز سيصل إلى “أسواق المنطقة عبر خطوط أنابيب برية للتصدير”. غير أن الشركة ألمحت بشكل واضح أن الملك عبدالله وافق سراً على شراء الغاز من حقل “ليفياثان”. ومن وجهة نظر “نوبل”، يبدو أن التزاماً غير معلن حتى من قبل الأردن مقبول مصرفياً، مما يمكّنها من تأمين التمويل للمشروع.

السياق الإقليمي المعقد

إن تزويد مصانع الأردن في البحر الميت بغاز إسرائيلي يواجه أيضاً معارضة على نطاق أوسع في الشرق الأوسط. فعلى الرغم من أن عمّان ومصر قد وقّعتا على معاهدات سلام مع إسرائيل تسمح لهما بإجراء مبادلات تجارية، إلا أن معظم الدول العربية الأخرى واصلت مقاطعتها الدائمة لإسرائيل. وبالفعل، سحب مصرف سعودي استثماره من أحد المصانع – “شركة البوتاس العربية” – عند بروز أول مؤشر على أن الشركة ستستخدم الغاز الإسرائيلي. لكن وفق موقع “البوتاس العربية”، لا يزال مجلس إدارة الشركة يضمّ ممثلين عن مساهمين شبه حكوميين إماراتيين وعراقيين وليبيين وكويتيين على ما يبدو . كما أن “شركة البوتاس العربية” هي مالك جزئي لمصنع آخر يستورد الغاز من حقل “تمار” ألا وهو “شركة البرومين الأردنية”.

ومن المفيد أن نضع التقدّم الذي أحرزته إسرائيل مع الأردن في مجال الغاز في سياق تجاري وتنظيمي أوسع نطاقاً أيضاً. ففي الشهر الماضي، أعلن وزير الطاقة يوفال شتاينتز، بسبب خيبة أمله على ما يبدو من عدم إبداء الشركات الأجنبية أي اهتمام، عن وضع إطار زمني جديد لتقديم العطاءات من أجل التنقيب في “المنطقة الاقتصادية الحصرية” الإسرائيلية. ونتيجة لذلك يبدأ الموعد الجديد لتقديم العروض في أواخر أيار/مايو على أن ينتهي في 10 تموز/يوليو، ويجب أن تكون الضمانات المالية صالحة لغاية آذار/مارس 2018. ويشير ذلك إلى أن التراخيص قد لا تُمنح في الواقع قبل العام المقبل.

إن أحد العوامل التي أدّت إلى هذا القرار هو التردد المستمر من دون شك، لشركات النفط والغاز الدولية إزاء المخاطرة بمصالحها التجارية وآفاقها المستقبلية مع الدول العربية وإيران من خلال مزاولة الأعمال مع إسرائيل. على سبيل المثال، على الرغم من المخاوف حول دور طهران في إثارة الاضطرابات في المنطقة، تُعتبر الجمهورية الإسلامية وجهة جذابة على نحو خاص بالنسبة لشركات الطاقة لأنها تختزن أكبر احتياطيات الغاز المؤكدة في العالم، نحو 180 مرة من حجم الاحتياطي الذي تملكه إسرائيل.

فضلاً عن ذلك، يمكن القول إن إسرائيل سببت الضرر لنفسها عن غير قصد عندما غيرت الإطار الضريبي لإنتاج الغاز. وبغض النظر عن المبرر المحلي وراء هذه الخطوة، قد تترتب عواقب على هذه التغييرات عندما تكون شركات التنقيب بصدد اتخاذ قرار بشأن المخاطرة برأس مالها للبحث عن احتياطيات من النفط والغاز تكمن عميقاً تحت قاع البحر في مياه تزخر بالتحديات ويفوق عمقها الميل.

“حوض النيل” و “حوض دول المشرق العربي”

لا تمثّل كميات النفط والغاز في المنطقة التي تُعرف جيولوجياً بـ”حوض النيل” و”حوض دول المشرق العربي” سوى جزء صغير من تلك المكتشفة في دول الخليج. وحتى مع ذلك، فإن التوقعات الحالية والمستقبلية في شرق البحر الأبيض المتوسط (وخصوصاً الغاز، ولكن بعض النفط أيضاً) قد تحسّن بشكل كبير اقتصاديات مصر وقبرص ولبنان فضلاً عن إسرائيل والأردن. وتدعم التطورات الأخيرة في المنطقة هذا التفاؤل.

أولاً، تعمل مصر بسرعة من أجل وضع حقل الغاز البحري “الظُهر” في الخدمة. وتدّعي القاهرة أن الحقل أكبر من “ليفياثان”، رغم المستويات المرتفعة من كبريتيد الهيدروجين الذي يجب إزالته في منشأة برية قيد الإنشاء حالياً. يُذكر أن شركة “بي پي” البريطانية وشركة “روسنفت” الروسية اشترتا حصصاً في الحقل وسوف تعمل “إيني” الإيطالية على تطويره. ولكن في حين تأمل مصر باستعادة مكانتها كدولة مصدّرة للغاز، إلا أن الطلب المحلي المرتفع قد يجعل هذا الأمر حلماً بعيد المنال. وفي الوقت الراهن، يتمّ توجيه جميع الإنتاج المحلي نحو توليد الكهرباء، ويجب أن يتم شحن الغاز الطبيعي المسال الإضافي إليها أسبوعياً من قطر لهذا الغرض. ومع ذلك، لا تزال المنشآت الصناعية في مصر تعاني من نقص، كما أن محطتي تصدير الغاز الطبيعي المسال في دلتا النيل عاطلتان تقريباً. وعلى أساس هذه الخلفية، تبدو واردات الغاز الاسرائيلي جذابة تجارياً، على الأقل في هذا الوقت.

ثانياً، تأمل قبرص – التي تقع “المنطقة الاقتصادية الحصرية” الخاصة بها على مسافة قريباً جداً من حقل “الظهر” – أن تقوم الشركات الدولية باكتشافات جديدة بعد أن خيّبت الآفاق المحلية أملها في السابق، علماً بأنه لم يتمّ بعد استغلال الحقل الوحيد المكتشف وهو “أفروديت”. ونظراً إلى عدد سكان الجزيرة الضئيل، سيكون معظم – إن لم نقل كامل – إنتاجها من الغاز في النهاية مخصصاً للتصدير، وهو أمر لا يمكن تحقيقه إلا من خلال التعاون مع إسرائيل و/أو مصر. وربما تكون موافقة تركيا ضرورية أيضاً.

ثالثاً، بعد سنوات من التأخير، صدّقت الحكومة اللبنانية على مراسيم في كانون الثاني/يناير قسّمت “منطقتها الاقتصادية الحصرية” البحرية إلى عشر مناطق امتياز استكشافية كما أعدّت عملية تجارية لمنح التراخيص. غير أن ثلاثاً من هذه المناطق تقع على طول الحدود البحرية الجنوبية التي أعلنتها لبنان من جانب واحد، والتي تكمن وراءها المياه الإسرائيلية. ولكن بيروت لا تعترف رسمياً بعد بإسرائيل، ولم تتضمن مستندات استدراج العروض اللبنانية أي من الاقتراحات التي أُعدّت بوساطة الولايات المتحدة لتقسيم المنطقة البحرية المتنازع عليها، لذلك قد تواجه عملية منح التراخيص بعض المشاكل. ووفقاً لخبراء في هذه الصناعة، فإن واحدة من الكتل الثلاث موضع البحث هي الأكثر احتمالاً لاحتواء الغاز بكميات تجارية، ولكن من الصعب تصوّر وجود رغبة لدى أي شركة تنقيب دولية في الحصول على ترخيص في منطقة قد تكون موضوع نزاع قانوني بل حتى عسكري. وتشمل العراقيل المحتملة الأخرى اتخاذ القرار بشأن المناطق اللبنانية التي ستستفيد في البداية من أي تدفقات جديدة للغاز، وكيفية تقسيم أي إيرادات قد تنتج في النهاية عن عمليات التصدير بين الفصائل المسلحة المختلفة في البلاد.

رابعاً، يملك قطاع غزة التي تسيطر عليه حركة «حماس» حقلاً بحرياً غير مستغل يُعرف باسم “غزة مارين” يمكن استخدامه لتوليد الكهرباء في القطاع وكذلك في الضفة الغربية. غير أنه من الناحية التقنية، تعود ملكية الحقل إلى السلطة الفلسطينية التي مقرها في رام الله، والتي تتردد في الاستثمار في مشروع قد يدعم منافسيها في «حماس» من الناحيتين الاقتصادية والسياسية.

خيارات تصدير أخرى

يكمن خيار تصدير الغاز الأكثر جاذبيةً في الشرق الأوسط في خط أنابيب مقترح تحت سطح البحر يمتد من حقل “ليفياثان” الإسرائيلي إلى تركيا، سواء عبر قبرص أو من خلال الالتفاف حول الجزيرة من ناحية الشرق. فالطريق الأول قد يطرح مشاكل كبيرة نظراً إلى غياب أي تسوية سلمية في البلد المقسّم، الذي احتلت فيه القوات التركية شمال الجزيرة منذ اندلاع أزمة مع اليونان في عام 1974. وقد تحسّنت علاقات إسرائيل مع تركيا في الآونة الأخيرة لكن ربما ليس بالقدر الكافي لتوقيع اتفاق لإمداد الغاز أمده عشرين عاماً يرافقه استثمار كبير في خط أنابيب باهظ الثمن.

ويتمثّل احتمال آخر (رغم أنه من الصعب تصديقه) في مد خط أنابيب تحت سطح البحر من حقل “أفروديت” و/أو “ليفياثان” إلى قبرص، وجزيرة كريت اليونانية وبرّ اليونان الرئيسي. وسينطوي أي تغيير على إمداد كابل بحري يُعرف باسم “الموصل” من أجل ربط شبكات الكهرباء الإسرائيلية والقبرصية واليونانية.

الحقائق الاقتصادية مقابل السياسية

يقيناً، أن أحدث المشاكل التي تمر بها المنطقة تطغى على كل هذه التطورات البطيئة والمحدودة. فالأردن يرزح تحت وطأة ضغوط اللاجئين السوريين، كما أن شكل لبنان المستقبلي يرتبط على الأرجح بولاية الرئيس بشار الأسد في دمشق. وفي الوقت نفسه، تؤثّر إيران من بعيد على الوضع في شرق البحر الأبيض المتوسط من خلال تزويد الجهات المعادية بالصواريخ الموجّهة القادرة على ضرب الحفارات النفطية البحرية ومنصات الإنتاج، من بين الإجراءات الأخرى المزعزعة للاستقرار.

ومع ذلك، فإن الضوء الأخضر الذي أُعطي لحقل “ليفياثان” في شباط/فبراير يعني أنه أصبح بإمكان إسرائيل جلب الغاز إلى الشاطئ في وسط البلاد بدلاً من القيام بذلك في عسقلان، حيث تقع المنشآت ضمن نطاق صواريخ غزة. وعلى نحو مماثل، من شأن وجود إمدادات ثابتة للغاز الإسرائيلي أن يقلّص اعتماد الأردن شبه الكامل على الإمدادات التي تصل عبر البحر في العقبة، وربما تنهي مخططاته لاستيراد الغاز العراقي براً أو بناء مفاعلات نووية روسية.

إن أمن الطاقة يتعلق بتوافر بدائل بقدر ما يتعلق بأي رغبة في الاستقلال في مجال الطاقة. وكانت الدبلوماسية الأمريكية قد لعبت دوراً محدوداً وغير فعال دائماً في تشجيع التنقيب التجاري عن الغاز الطبيعي في شرق البحر الأبيض الأوسط. لكنه دور لا بدّ من مواصلة الاضطلاع به حتى لو بقيت المصالح التجارية المحرّك الرئيسي لإبرام الاتفاقات المتعددة الأطراف.

(معهد واشنطن)