“دولة فلسطين” بنسختها اللبنانية في “عاصمتها” الأولى بيروت

عزت صافي (الحياة)

تستحق فلسطين ذلك الاستقبال الذي جرى لرئيس دولتها محمود عباس يوم وصوله إلى بيروت زائراً رسمياً (بين 23 و25 شباط/ فبراير الماضي)، ويستحق رئيس الجمهورية اللبنانية الجنرال ميشال عون التقدير والامتنان على ما أحاط ضيفه الفلسطيني من تكريم كرئيس دولة على مستوى الدول الكبرى. وإذا كانت دولة فلسطين الحرّة المستقلة لم تولد بعد، فإن شعبها ماثل في وجدان اللبنانيين وسائر العرب.

ومع هذه المقدمة، تُستعاد ذكريات اللبنانيين في مراحل وجود قيادة منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة المغفور له ياسر عرفات في بيروت ورفاقه الأمناء العامين للمنظمات والفصائل المسلحة، متعددة الأسماء والمراكز والقواعد، واستراتيجيات المقاومة.

في ذلك الزمن، كانت بيروت عاصمة المنظمات الفلسطينية، وكان أمراً عادياً أن تنشر الصحف اللبنانية أخباراً من نوع «عاد إلى بيروت رئيس منظمة التحرير ياسر عرفات بعد جولة شملت عواصم عربية وأجنبية عدة، أو أنه استقبل في مقر قيادته سفراء وزائرين بصفة رسمية».

وإذ يتذكر اللبنانيون اليوم قوافل الشهداء الفلسطينيين واللبنانيين في مواجهة قوات العدو الإسرائيلي يستعيدون الذكريات المرّة وصور الخراب والدمار والتشتت نتيجة تعدّد مراكز القرار، وأمرة السلاح، وتغييب القرار الوطني اللبناني، وصولاً إلى كوارث حرب 1982 ومجازر المخيمات، وخروج أبو عمار والقادة من رفاقه إلى عرض البحر تحت مراقبة العدو الإسرائيلي المحتل.

خمس وثلاثون سنة مضت، ولا بدّ أنها حضرت في ذاكرة الرئيس الجنرال عون وضيفه الرئيس الفلسطيني محمود عباس وهما في وقفة التحية لعلم لبنان وعلم فلسطين. فإلى أين من هنا بعد «أوسلو»، وبعد قمة «كامب دايفيد» بين الشهيد أبو عمار و «الضحية» إسحق رابين، وبعد لقاء «البيت الأبيض» في خريف عام 1996 بين أبو عمار وبنيامين نتانياهو برعاية الرئيس الأسبق بيل كلينتون؟ وماذا بعد رحيل عرفات وبقاء نتانياهو معاهداً الشيطان على دفن مشروع «حل الدولتين» والالتفاف على ما بقي من أرض فلسطين لمن بقي عليها من أهلها المنقسمين خلف خط الانفصال في الاتجاهين بين غزة ورام الله؟

في بيروت، وخلال زيارة الرئيس عباس الرسمية، حضرت فلسطين بكل أطيافها، ووجوهها، وأزيائها، وأصواتها، وأناشيدها، وألحانها، غناء وبكاءً ورقصاً، على شاشة محطة تلفزيونية عربية. ولقد فاضت عيون فلسطينية ولبنانية بالدموع، فمن طبائع العرب أن ينتشوا في حضرة الموت حين يأتي بالشهادة.

كانت فلسطين قد حضرت في لبنان مع أول رئيس جمهورية استقلالي. ومنذ ذلك العام (1948) توالى الرؤساء على القصر الجمهوري. أربعة عشر رئيساً في تسع وستين سنة، ونكبة فلسطين تكبر مع الأجيال اللبنانية، فما ضاقت بها مدينة أو قرية، ولا تعادت معها جماعة، أو حزب، أو طائفة، إلا في حدود فردية، لكن المتاعب بدأت مع أول خطيئة ارتكبها شاب فلسطيني من اللاجئين عندما رمى عبوة يدوية من خلف الحدود اللبنانية على الأراضي الفلسطينية المحتلة. حدث ذلك في منتصف الخمسينات من القرن الماضي، وكانت العاقبة فظيعة على الشاب الفلسطيني (الشهيد جلال كعوش) فقد فارق الحياة تحت الضرب في دائرة الشعبة الثانية في الجيش اللبناني. وكما في كل حادثة مشابهة لا تنفع العقوبة على الجرم غير المقصود. لكن كان من حق قيادة الجيش اللبناني، ومن واجبها، أن لا تسمح لأي جهة أن تخرق، لأي سبب أو دافع، اتفاقية هدنة دولية مع العدو الإسرائيلي فتوفر له ذريعة لشن عدوان.

ثم كان من حق الجماهير اللبنانية والفلسطينية أن تقوم بتظاهرات احتجاج ودعم لقضية الشعب الفلسطيني الممثل بالشاب الشهيد الضحية. ومنذ تلك الحادثة نشأت حالة نزاع مع السلطات اللبنانية على حق الفلسطينيين وأنصار قضيتهم من اللبنانيين بالكفاح المسلّح ضد إسرائيل.

لكن حادثة أخرى حصلت وقلبت المقاييس في ذلك الزمن. فقد استشهد شاب لبناني من آل الجمل في معركة مواجهة مع العدو الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإذ نقل الصليب الأحمر الدولي جثمان الشهيد إلى نقطة الحدود الفاصلة بين قوات العدو والقوات السورية في الجولان تهيأت جماهير لبنانية لاستقباله في بلدة «الكحالة» على الطريق بين بيروت وعاليه.

في ذلك اليوم سجل اللبنانيون تظاهرة تضامن، وقد نُقل النعش مباشرة إلى المسجد العمري الكبير في قلب بيروت حيث صُلّي عليه في حضور أركان الدولة وقادة الأحزاب السياسية اليسارية واليمينية من جميع الطوائف والمذاهب.

أكثر من نصف قرن مضى على تلك الأمثولات اللبنانية التي حمت قضية فلسطين في لبنان، إلى أن دخل النظام السوري في تفاصيل السياسة اللبنانية حتى حصل الانفجار الكبير في 13 نيسان (أبريل) 1975. ومنذ ذلك التاريخ لم يتوقف الوطن الصغير عن الغوص في الفتن، وعن تقديم الشهداء الكبار، ومن حولهم وخلفهم مواكب غابت، فوجاً بعد فوج، فيما أركان الدولة ومؤسساتها تتهاوى، ويعم الدمار والحزن وجه العاصمة والمناطق، وقد تبعثرت قوى الثورة الفلسطينية وتنظيماتها ومؤسساتها، ومقوّمات دفاعاتها. وما الانفجار الكبير الذي حصل في قلب العالم العربي منذ ست سنوات حتى اليوم إلا تتمة لمسلسل النكبات التي بدأت في لبنان، والنتائج شواهد على ما يرى العرب ويقرأون ويسمعون كل ساعة على مدى نهارهم وليلهم في حروب لا تبدو لها علامات نهاية.

وكما في البدء كانت فلسطين ولا تزال مستمرة، نقطة كل بداية في كل محنة عربية، حتى وإن كانت فلسطين غائبة، أو مغيبة. وللمرّة الأولى يسمع اللبنانيون كلاماً فلسطينياً من مستوى الكلام الذي صدر عن الرئيس محمود عباس خلال الأيام الثلاثة التي أمضاها في ضيافة لبنان، وقبلها كان ضيفاً على فرنسا في مؤتمر باريس حول السلام في الشرق الأوسط، وقد استقبله الرئيس فرانسوا هولاند في قصر الإيليزيه، وهو سمع من «الصديق هولاند» تأكيداً على رعاية دينامية دولية دائمة تعمل لإنجاح عملية سلام في الشرق الأوسط غايتها قيام دولة فلسطينية مستقلة «قابلة للحياة والبقاء وفقاً لمبدأ حل الدولتين»، وكان هولاند قد جعل هذا الحق الفلسطيني بنداً في برنامج ترشحه للرئاسة في العام 2012، وهو اليوم في أواخر أسابيع رئاسته التي تنتهي مع نهاية شهر نيسان المقبل، وقد عزف عن الترشح لدورة رئاسية جديدة، لكنه مستعد للاستمرار في دعم مشروع دولة فلسطينية، معلناً حرباً على بؤر الاستيطان التي تنفذها حكومة نتانياهو على أملاك شرعية للفلسطينيين.

خلال إقامته القصيرة في لبنان، كان محمود عباس يكتم حسرة في أحاديثه عن الوضع الفلسطيني داخل الأراضي المحتلة. ففي حين يعمل نتانياهو على «دولة يهودية من النهر إلى البحر» تفشل مساعي أهل العقل والضمير الفلسطيني للجمع بين «فتح» و «حماس» في حكومة موحدة قادرة على التصدي لأخطر مشروع يرمي إلى «تذويب فلسطين». في هذا السياق، لا يخفى على المراقبين المتابعين القلق من مرحلة «ترامب – نتانياهو» التي تهدد ما بقي من فلسطين أرضاً وشعباً.

… وماذا يستطيع محمود عباس أن يفعل أكثر من إمكاناته المحدودة؟ فهو حاول أن يسجل «مبادرة حسن نية» نحو دونالد ترامب فوجّه إليه رسالة تهنئة بفوزه رئيساً للولايات المتحدة الأميركية، وقد حرص على أن يذكر في رسالته استعداده للعمل مع الإدارة الأميركية الجديدة من أجل تحقيق عملية سلام عادل في منطقة الشرق الأوسط، وقلبها فلسطين، لكنه لم يتلق رداً على رسالته. ومع ذلك وجّه إليه برقية تهنئة بتنصيبه رئيساً في البيت الأبيض، ولم يلق أي جواب. والأسوأ من ذلك أن ترامب أمر بتجميد مساعدات مالية لحكومة فلسطين تقدّر بـ221 مليون دولار عن العام الماضي. وإضافة إلى ذلك منعت إدارة ترامب الأمين العام للأمم المتحدة من تعيين رئيس الوزراء الفلسطيني السابق سلام فياض مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة لشؤون ليبيا. ولم تنفع مداخلات مراجع دولية، ولا فائدة من استنكار قادة سياسيين لهذه المعاملة الأميركية السيئة لدولة فلسطين الممثلة في الهيئة العامة للأمم المتحدة، وهي راعية شعب مشرّد خارج وطنه، وقد مضت سبعة عقود تضاعفت أعداده خلالها، وهو يقاوم ويضحّي ويصبر فيما دولة إسرائيل العنصرية تمضي في محاولات تصفيته، ولا تنجح، ولن تنجح.

هل يفيد طرح هذه الوقائع؟

يتساءل محمود عباس ويمضي لإكمال مسيرته على طريق القضية التي لا قبلها، ولا بعدها، قضية.

وربما كان لديه كلام كثير ليقوله عن لبنان، لكنه قال القليل منه: «لبنان عنوان النضال، والحضارة، والثقافة. إنه البلد الذي تحمّل الكثير الكثير… وضحّى بالكثير الكثير من أجل فلسطين» وهذا كافٍ.

اقرأ أيضاً بقلم عزت صافي (الحياة)

العهد اللبناني «الجديد» لم يبدأ بعد

«حماس» × «فتح» = إسرائيل «فتح» + «حماس» = فلسطين

وثيقة برنامج رئاسي لبناني للاطلاع

جمهورية سوريّة ديموقراطية تولد في الخارج

لبنان «الطائف» على شبر ماء

فلسطين الثالثة في عالم عربي آخر

هـل أخطأ سعد الحريري؟

الديموقراطية على الطريقة اللبنانية

«حماس» ترمي نكبة غزة في ساحة رام الله والمهمة الأولى إعادة الإعمار

رؤساء الجمهورية اللبنانية وعلاقاتهم بفرنسا منذ الاستقلال

بوتين «القيصر» غير المتوّج على … سورية!

لبنان: لكل عاصمة وَفدٌ … و «دولة» وخطاب!

ما بين جمهورية ماكرون وجمهورية ديغول

هل بدأ ترسيم سورية «المفيدة لإسرائيل» ؟

صيف لبنان من دون عرب… ووعود السياسيين المتوارثة لا تتحقق

أي دور لإيران في المنطقة بعد تغيّـر كل شيء في سورية ؟

كمال جنبلاط مُستعاداً في مئويته

الجزائري حين يكون ناخباً فرنسياً

ترامب على أبواب القدس وعباس على باب البيت الأبيض!

سبعون سنة تحت الحكم العسكري: أي معجزة يمكن أن تنقذ سورية؟