مبادئ الحزب

التقدمية الإشتراكية والمنهج الجدلي

*لماذا ضرورة توضيح بعض المفاهيم المرتبطة بفكرنا؟

لأن الحزب “وجهة نظر في الحياة على إطلاقها: وجهة نظر إقتصادية، إجتماعية وروحية”. فالرؤية يجب أن تكون رؤية شاملة وتعبير الإشتراكية لا يكفي للإحاطة بكل جوانب الفكر التقدمي الاشتراكي، فهدفنا أكبر وأشمل من مجرد نظرية إقتصادية.

في مواجهة التحديات الجديدة المختلفة عن تلك التي كانت سائدة في مرحلة تأسيس الحزب، نرى أن التقدمية هي الأساس والمقياس وهي التي تؤهلنا للتفاعل مع متغيرات العصر وعدم التمترس خلف نظريات وإيديولوجيات جامدة ترفض الإعتراف بالتحولات. أما الإشتراكية فهي نتيجة لتبنينا للفكر التقدمي وسعينا لخدمة الإنسان وهي تبقى عنوانا لانحيازنا إلى جوهر الإنسانية.

* ما هو معنى التقدمية؟

إن انتشار تعبير التقدمية بشكل مبهم يفقده معناه ويعطل فعاليته. لذلك نؤكد “إن الحزب تقدمي باعتبار أنه يتبنى نتاج العلم والتطور ومستتبعاته العملية في جميع الحقول”.

تلخّص ركائز هذه التقدمية بأربعة:

1. تبني نتاج العلم:

ان العودة إلى العلم مقياس أساسي لتقدمية أي اختيار. العلم هو مجموع العلوم وحصيلتها في تضافرها على كشف غوامض الكون والعوامل التي تتحكم بمساره ومسار البشرية. إن العلم نشاط وضعي عقلاني لا تتداخل فيه الأهواء أو الأفكار المسبقة وهو يقدّم لنا معطيات وحقائق عن تحولات المجتمع. إذا استوعبنا هذه المعطيات العلمية، لتجنبنا التحجّر والسقوط في فخ المقولات الجامدة. هذه النقطة تشكل أساس خلاف جذري مع الفكر الغيبي أو الظلامي الذي يكرس الخزعبلات ويرفض الإحتكام إلى العلم والعقل في فهم أمور الدنيا لا بل يعتبر أحياناً العلم خصماً يستوجب المقاومة أو على الأقل الريبة والحذر.

2. تنوّع مصادر الفكر:

“العمل آخر الفكر”. تستوجب التقدمية الإنفتاح على كل ينابيع الفكر العالمي، بدءاً بالفكر الفلسفي اليوناني القديم وصولاً إلى التيارات الفكرية المعاصرة مع التركيز على الفكر الإشتراكي في القرن التاسع عشر ونماذجه التي طبقت في القرن العشرين. المطلوب هو التفاعل الخلاق وليس مجرد الإقتباس من هذه المصادر الفلسفية والإجتماعية والعلمية. ضمن هذا السياق، يندرج موضوع العلاقة بين الأصالة والحداثة وضرورة التصدي لنزعة الإنغلاق على الذات بدعاوى متهافتة مثل الخوف من ذوبان الهوية أو فقدان منظومة القيم والأفكار التقليدية.

فالعديد من حركات التحرر فشلت عندما هادنت البنى المتخلفة في مجتمعاتها أو لم تقتنع أصلاً بضرورة تغييرها، وهذا ما شكل شرخاً كبيراً بين بعض طروحاتها وواقع لم تفعل الكثير لتغييره. كما أن الفكر التقدمي يحتاج إلى تجدد دائم خصوصاً أنه يواجه اليوم تحدياً هائلاً في ظل العولمة الرأسمالية.

3. الإيمان بالجدلية في الكون والفكر:

فكرنا خصم عنيد لكل جمود. هو ضد المعتقدات الجامدة لأن الجمود مناقض بشكل مطلق لمبدأ التحول الدائم ومنطق الحركة المستمرة. فالجدلية أكبر محرّك للتاريخ في الكون والفكر وهذا ما عبر عنه قديماً هيراقليطس بقوله: “الإنسان لا يغطس في مياه النهر ذاتها مرتين”. كل شيء يمضي في صيرورة التحول. كل ظاهرة في الوجود لا تبقى على حالها. إذا كان العنصر البشري يتطور فبفضل صراع الضدين: الموت والحياة, فالموت يخرج من الحياة كما أن الحياة تخرج من الموت, والمجتمع يتطور بصراع الأضداد فيه. تنظر الجدلية إلى الطبيعة على أنها حالة من الحركة والتغيير الدائمين والتجدد والنمو المستمرين حيث يولد شيء بينما ينحل شيء آخر ويزول. وهي خلاف ما تراه الفلسفة الغيبية التي تنظر إلى الطبيعة على أنها حالة من الهدوء والثبات والركود وعدم التغير. لذلك تفرض الجدلية بأن لا ننظر إلى الظواهر فقط بالنسبة لترابطها ببعضها البعض بل يجب أن ننظر إليها بالنسبة لحركتها وتغيرها. إنطلاقا من هذه الجدلية, ليس هناك مجتمع أبدي لا يتغير ولا نظام إجتماعي خالد ولا مبادئ أبدية طالما العالم يتحرك, وكل نظرية لا يمكن أن تظل على إنسجام مع الواقع المتبدل الذي أفرزها أو ساهم في ولادتها. فضبط حركة المجتمع بقوانين جامدة مستحيل, والنظريات المتعلقة خاصة بالتحليل الاجتماعي والاقتصادي هي نسبية وليست مطلقة فلا حقائق اقتصادية نهائية تنطبق على كل زمان ومكان.

إن إيمان المعلم كمال جنبلاط بالجدلية ورفضه للجمود الفكري يفسّران موقفه المتحفّظ على كل المذاهب التي أصابها التحجّر وأعماها التعصب. رفض إستعمال كلمة مذهب أو إيديولوجيا للتعبير عن موقعه الفكري أو لتحديد مواقفه على صعيد فلسفة الحياة والسياسة. “عندما أتحدث عن العقيدة لا أعني بها الإيديولوجيا, كما أصطلح على تصورها بعض أتباعها, والتي إستعاضوا بها عن المعتقد الديني, فأقاموها صنما جديدا في فكرهم… بل أعني إتجاها واضحا وعلميا, أي واقعيا وموضوعيا في التفكير والتحليل, وفي النضال, وفي التصرف, يلتزم بالعلم والإختبار”.

إذن في عقيدتنا, لا دوغمائية ولا تحجر بل فكر منفتح ومتجدد, والعلم مرشدنا في البحث عن الحقيقة.

4. تعزيز الإتجاهات الكبرى للتطور البشري:

في عرضه للعوامل التي تفعل فعلها في تطوير الحياة والجماعة والإنسان, يبرز الفكر التقدمي الإشتراكي ثلاثة إتجاهات لمجرى التطور ينبغي العمل على تعزيزها لأن التقدمية لا تكتفي بمحاولة تفسير العالم بل تسعى لتغييره.

أ- الإتجاه الأول لمجرى التطور: الوعي والحرية:

إنطلاقا من الفكر الجدلي المرتكز على مبدأ التحول الدائم والحركة المستمرة, تبدو ولادة الإنسان, كجنس, مرتبطة بتطور حاسم في الخليقة، بل إن الطبيعة ربما تكون قد عدّلت من نزعتها للإمتداد والتنوع بفصائل جديدة لكي يتجسّد تطورها بهذه القفزة النوعية التي هي ولادة الفكر والحرية. منذ تلك اللحظة الفاصلة، تعدل إتجاه التطور في الطبيعة ليتحول من تطور بيولوجي إلى تطور إجتماعي وأخلاقي ونفسي هدفه إستنباط القيم وإنشاء الأنظمة الإجتماعية. في مواجهة هذه الحقيقة العلمية، لا يتردد الحزب في إدراك الأهمية العظمى لهذا التحول وفي كونه مرتكزا لأي نشاط يستهدف التقدم بالبشرية. الأفكار والنظم والمؤسسات إنما هي وسائل في خدمة الإنسان لا أكثر. وهذه الوسائل تأخذ قيمتها وتستمد مبرر وجودها من مدى خدمتها لتفتح هذا الإنسان بصورة متناسقة وشاملة. في هذا دعوة إلى رفض كل ما يعوق تفتح الإنسان وكل ما يمكن أن يرتهن إرادته وحريته.

عن طريق الوعي, إنسحب الإنسان من عالم الحيوان. لكنه إنجاز لم يتحقق منه إلا الشيء اليسير. فتاريخ البشرية غالبا ما كان تاريخ صراعات وإقتتال وطغيان وإستعباد… مما جعل هذا الجوهر، هذه الإمكانية القائمة في صلب البشر بعيدة عن ظروف تفتحها الكامل في الإنسان. ان استكمال انسانية الإنسان يمر عبر التصالح الشامل بين البشر وبين البشر والطبيعة.

من أسس هذا التصالح:

1- المساواة جوهريا في الحقوق والواجبات: الإنسان واحد في الجوهر- توفير فرص متكافئة- مساواة تأخذ بعين الإعتبار “التفاوت الطبيعي في المواهب والمقدرة والكفاءة والأخلاق” – حوافز مادية ومعنوية.

2- إحترام “جميع حريات الفرد المحدودة بحريات الأخرين”: يصر الحزب على ضرورة بناء الإشتراكية في أجواء الحرية والديمقراطية لأن التقدمية الإشتراكية وعد بالإنعتاق الكلي وليس المادي فحسب. إذا كانت الحرية في مجالات الإجتماع والسياسة والإقتصاد “مفهوما نسبيا يتحدد ويتطور بالنسبة إلى الجماعة والتقنية والمدنية القائمة”، إلا أن الحرية في مجال الفكر يجب أن تكون مطلقة لأن مصدرها العقل ولا يجوز تقييدها بأية ذريعة.

3- إعلاء شأن المعرفة: “المعرفة حق لكل فرد وواجب عليه”. إن الحزب يؤكد على هذه الحقيقة البسيطة التي توجهه: “إن الغاية الوحيدة لكل مجتمع إنما هي تفتح كامل لمقدور الفرد”. إن هذا التفتح مستحيل بدون المعرفة الحقيقية “إعتبار الفكر قيمة بحد ذاته وموضوعا لكرامة الإنسان ومرتكزا لكل نشاط بشري”. هذه النزعة الحضارية العميقة تشكل فهما ثوريا لعملية التعليم ونشر المعرفة. إنها مدماك أساسي في الحضارة الجديدة المرتكزة على بناء الإنسان الجديد في المقام الأول. الحزب يرهن بناء المجتمع الجديد ليس فقط بتغيير علاقات الإنتاج بل بتغيير جذري في مفاهيم الناس وعقليتهم.

4- تطويع الآلة ورفض الحضارة الإستهلاكية والحفاظ على البيئة: كان للحزب تحذيرات مبكرة ورائدة إزاء مخاطر النمو الصناعي وحضارة الآلة وابتعاد الإنسان عن قوانين نموه الطبيعي والسليم. إن في الآلة إمكانية واقعية هائلة للتقدم بالبشرية لكن شرط تطويعها والسيطرة على مجرى تطورها, والنمو ليس غاية مجردة منفصلة عن تحديد عقلاني للحاجة الإنسانية. إن تنبه الحزب لهذه المشكلة منذ تأسيسه ينم عن شفافية في التحسب والإستشراف المستقبلي, والنضال من أجل تغيير جذري في كيفية الحياة ونوعيتها.

ب- الإتجاه الثاني: تيار التجمع البشري

إن البشرية وصلت إلى درجة من نموها نسميه مرحلة التجمع البشري,عاكسة نزعة الفرد إلى التجمع في وحدة عضوية مميزة.تجمع البشر بداية في أسر ثم في جماعات صغيرة مستقلةوصولاً إلى القبائل. وأدى ارتباط الإنسان بالأرض عبر النشاط الزراعي إلى نشوء المدنية.وفي العصر الحالي, إنتقل مركز الثقل من الفرد إلى الجماعة القومية, حيث لكل فرد وظيفة معينة. عوامل عديدة تفاعلت في الأوضاع التي يقوم عليها المجتمع فزادته توحيدا منها كثافة السكان والتطور الإقتصادي والروابط الإجتماعية. وهذا التوحيد نتيجة محتومة لتطور قوى المعرفة والعمل البشريين ولإستغلال شامل أكثر وأكثر لموارد الكون. وهكذا صار كل مجتمع بشري يشكل وحدة عضوية مع تخوف من تضاؤل نطاق حرية الفرد.

يتبنى الحزب هذه الظاهرة الإجتماعية للجماعات البشرية دون أن ينقص شيئا من قيمة إتجاه التطور الأول, وذلك بإعتماده لأنظمة توفق بين هذين التيارين المتعاكسين ظاهريا بينما لا يمكن فصلهما جوهريا عن بعض “فإنسانية الإنسان التي يرمز إليها هذا الوعي وهذه الحرية لا تتحقق بصورة عامة إلا بإنسجام الإنسان مع المجتمع.”

“إن المجتمع كل عضوي”. “لا حيوية إلا بتنوعه”. الحيوية لا تتحقق إلا بتنوع الأفراد والجماعات, والإنتظام للجميع يهدف صوب ترقيه إلى الكمال لا حشده “خلية ضمن خلايا قفير النحل”. هذا هو الفاصل بين النظام التقدمي الإشتراكي وبين الأنظمة الكلية التي يكون فيها الفرد جزءا من كل لا قيمة له ووسيلة لا غاية. من الوسائل المعتمدة للتوفيق بين نزعة الفرد إلى الحرية وحاجة تنظيم الجماعة:

– الإبتعاد عن المساواة الحسابية إلى “المساواة العضوية أو الوظيفية” التي تأخذ بعين الإعتبار المواهب والكفاءة وتطوير وتنمية هذه المواهب الطبيعية.

– ديمقراطية تشمل المساءلة والمحاسبة وفصل السلطات وجعل القضاء الملاذ للحريات الشخصية.

– عدم إستئثار الدولة “بكل النشاط الشعبي العملي” وهذا ما نترجمه بالمجتمع المدني القوي والفعّال الذي يلجم الدولة حين تخرج عن مسار دولة الحق. لا يمكن أن تعيش تجربة ديمقراطية دون مجتمع مدني فاعل كما لا يمكن تصور مجتمع مدني متقدم في ظل حكم إستبدادي أو شمولي.

– نشر هذه الثقافة كي يصبح إنتماء الفرد إلى الجماعة إنتماءا طوعيا إختياريا.

ضمن ظاهرة التجمع, تندرج الظاهرة القومية بوصفها الطابع المسيطر ووجهه الأكثر تحديدا وتجذرا. والحزب يعتبر أن هذه الظاهرة ليست ظاهرة عابرة بل هي مظهر أصيل من مظاهر تنوع الشخصية البشرية. لكن نظرتنا تختلف جذريا عن القومية المتعصبة والشوفينية المبنية على القوة والإستئثار والإنكماش على الذات والحقد على الجماعات الأخرى. هكذا نفهم العروبة رابطة طوعية حضارية متجددة منفتحة تأخذ في الإعتبار تنوع المجتمعات العربية وتعددها السياسي.

ج- الإتجاه الثالث للتطور: مظهر وحدة الإنسانية وتكورها: والتحسس أكثر وأكثر بوحدة الكون الذي نعيش فيه.

يدعم الفكر التقدمي الإشتراكي إتجاه الجماعة البشرية برغم التنوع القومي إلى الدخول في صعيد إنساني مشترك والتصرف كجماعة انسانية موحدة المصالح والمشاعر والمفاهيم الإساسية مرجعيتها تجارب الإنسان فوق هذه الأرض, أياً كان انتماؤه الجغرافي أو الديني أو الفكري. “عالمية” فكرنا ترتكز على التنوع القومي وهي بالتالي حصيلة تعاون شعوب وقوميات وأنظمة تدخل في تكتلات فوق قومية أوسع فأوسع. وهي مناقضة لمعظم توجهات العولمة الحالية التي هي مرحلة متقدمة جدا من الرأسمالية المتوحشة التي تفرض مفاهيمها وقيمها, خاصة على الصعيد الإقتصادي والنظم الإجتماعية والسياسية، وتمحي الخصوصيات القومية وتؤدي – رغم كل الإدعاءات المغايرة – إلى مزيد من التفاوت بين البشر, سواء بين الدول الغنية والدول الفقيرة أو بين أبناء الدولة الواحدة، وتعزز بالتالي النزعات الفردية المنعزلة عن أي حس إجتماعي وتبقي على أسباب العنف والحروب في العالم.

على السعي لتعزيز وتطوير هذه الإتجاهات الثلاثة الكبرى التي تتفاعل في صميم حياة الكون ولدفعها بإتجاه تحققها, ضمن إيمان بالجدلية وبالإختبار الإنساني في حقول العلم والإجتماع والإقتصاد والسياسة وبالتالي إغناء دائم ومتجدد للفكر، تكون التقدمية الأساس في فكر الحزب التقدمي الإشتراكي.

تأسيس الحزب التقدمي الإشتراكي الظروف التاريخية – المصادر الفكرية

نعيش زمناً اليوم يحلو للبعض فيه أن يجادل بأن لا قيمة للفكر ولا علاقة له بالسياسة وهذا مظهر من مظاهر الإحباط بعد ان كفر الناس بالسياسة والسياسيين في جو مفعم بالفساد والتراخي الأخلاقي والمعنوي وفقدان المثل والمبادئ. وتشكل النماذج المقدمة من معظم رجال السياسة خير دليل على ذلك . أما زمن كمال جنبلاط الذي عشنا نحن جزءاً منه فكان زمناً آخر، أكثر اشراقاً لجهة التعلق بالقيم والمبادئ والدفاع عنها بشرف وايمان.

ومن هنا يمكن القول بأن لا سياسة حقيقية بدون مبادئ. إن أهمية كمال جنبلاط التاريخية تكمن في أنه كان رجل معرفة بإمتياز، يظهر هذا بشكل جلي من قراءة آثاره وانتاجه الفكري الرائع الواسع والمتشعب. تقرأ سيرته ونشأته فترى انك أمام رجل نهم الى المعرفة، جدلي في معالجة ما يعرف وما يقدم لك من مخزون فكره ، قلق دائماً للتثبت من حقيقة ما يعرف، متيقظ دائماً في سعيه لمواكبة الزمن المتطور، غير قانع على الإطلاق بما يعلم، منفتح لتلقي الجديد ومنطو لهضم ما تلقى . من هنا جاءت الشهادات فيه، وعلى الأخص تلك التي صدرت وتصدر بعد رحيله، لتعطيه حقه وتضعه في المنزلة التي هو أهل لها وان أصدق الشهادات هي التي تعطى بعد رحيل المعنيين بها حيث لا يخالطها تزوير ولا تملق .

سنقسم لقاءنا اليوم الى ثلاثة أقسام :

الأول – الظروف التاريخية التي نشأ فيها الحزب التقدمي الإشتراكي.

الثاني – المصادر الفكرية التي استوحى منها كمال جنبلاط عقيدة الحزب.

القسم الثالث – سيخصص لمناقشة الإسئلة.

بادئ ذي بدء لا بد من القول بأن الإقتناع العقائدي الراسخ هو دافع أساسي من دوافع النجاح في العمل السياسي حيث أنه لا يمكن لأي شحص إقناع الآخرين بأمر هو نفسه غير مقتنع به أصلاً .

المسألة ليست في كمية أو عدد الناس الذين يسيرون معنا أو يؤيدون رأينا بل في نوعيتهم ومستوى إقتناعهم بما ندعو اليه. المثل على ذلك هو تاريخ الثورة الكوبية لقد قامت هذه الثورة على أكتاف ثوار لا يتجاوز عددهم الــ 80 شخصاً ونمت وتعاظمت وانتصرت . كذلك كان هو الحال فيما يتعلق بالثورة البلشفية التي حققت هدفها بإستلام السلطة سنة 1917 . إذن فالنجاح في العمل السياسي يرتبط إرتباطاً وثيقاً بصدقية وإقتناع وحماسة الداعين اليه.

لمحة سريعة عن الظروف التاريخية التي عاش فيها كمال جنبلاط

إن تحدر كمال جنبلاط من عائلة لعبت دوراً أساسياً في تكوين تاريخ لبنان الحديث جعله مؤهلاً بشكل طبيعي لقيادة عمل سياسي يؤمن استمرارية هذا الدور وقد ساهمت والدته الست نظيرة مساهمة فعالة في تحضير الظروف لذلك.

في معرض تَـتَـبُّعنا لحركة تطور المجتمعات وأهدافها، لا بد من العودة الى صور تَـشَـكُّـل هذه المجتمعات وفق ما نقله لنا التاريخ عن الإنسان الأول مروراً بالتجمعات البشرية الأولى وإرتقائها الى مجتمعات أكثر تعقيداً وتطوراً في أساليب حياتها وانتاجها وعلاقاتها وصولاً الى مجتمعاتنا المعاصرة الشديدة التعقيد في حركة تطورها ونموها .

الهدف الجامع لكل هذه التشكيلات الإجتماعية البدائية منها والمتطورة هو الصراع في سبيل البقاء وبلوغ الأفضل. في حمأة هذا الصراع ومن أجل بلوغ الأفضل والحصول عليه يرى الإنسان نفسه منخرطاً في صراع مرير من أجل السلطة التي تسعى بدورها الى مراكمة الخيرات والنفوذ. هذه هي الفكرة العامة بشكلها المبسط جداً .

عبر التاريخ، بدأ الإنسان الأول حياته في صراع مع الطبيعة من أجل الإستمرار في الحياة. تطورت حركته هذه بإتجاه السيطرة على ما هو أكثر من حاجته لتأمين هذه الإستمرارية، فتطور صراعه مع الطبيعة ليصل الى مرحلة اضطر فيها الى الصراع مع الآخرين وكانت الغلبة للأقوى. لم يكن هناك أي مفهوم للقانون أو الحق أو العدل أو المساواة كانت الشريعة “شريعة الغاب” فعلاً. هكذا بدأ صراع الفرد مع الفرد والعائلة مع العائلة والقبيلة مع القبيلة والشعب مع شعب آخر وكانت الغزوات والحروب والسبي والعبودية. كانت حضارات شعوب تبنى على حساب مآسي شعوب اخرى وكانت عظمة الملوك مجبولة بعرق ودماء أبناء شعوبها. لم يكن للفرد حقوق ولا للمجتمعات حقوق ولا للإنسان قيمة.

هذا الظلم وهذا القهر دفع بالإنسان قسراً للبحث عن أنظمة إجتماعية وسياسية أكثر عدالة. كان هناك فلاسفة ومفكرين وفنانين دعوا لأفكار مختلفة، لمثل مختلفة وكانت الصرخة الأولى الأقوى دوياً، صرخة الثورة الفرنسية عام 1789 التي دعت الى شعارات إعْـتـُبرت ثورية ولا تزال وستبقى وهي العدالة والحرية والمساواة .

فبعد أن كان الملك هو ظل الله على الأرض وهو السلطة المطلقة وهو المتحكم بمصير الأفراد والمجتمع دعت الأفكار الجديدة الى ما يناقض ذلك تماماً والى سَـنِّ تشريعات تحمي شعاراتها وتدافع عنها.

إن هذه الحركة التغييرية التاريخية المفصلية جعلت عالم ما بعد هذه الثورة يختلف إختلافاً جذرياً عن عالم ما قبلها.

ترعرت فلسفات جديدة وأفكار جديدة وكانت البداية لإجتياحات فكرية شملت المجتمعات الأوروبية وانتقلت منها الى العالم، في وقت لاحق.

على أهمية هذا الحدث التاريخي العظيم لا بد من التذكير بحدث تاريخي آخر يأتي في سياق الرغبة نفسها في التحرر والإنعتاق، وقد سبق الثورة الفرنسية، الا وهو إعلان إستقلال الولايات المتحدة الأميركية عن العرش البريطاني في الرابع من تموز 1776 على أثر حرب شـُـنت ضد سلطة الملك جورج الثالث وإعلان الدستور الأميركي عام 1787 الذي أرسى مثالاً متقدماً في الدعوة الى الحرية وصيانة حقوق الفرد والمجتمع وإختيار مبدأ التطور الديمقراطي الجمهوري وقد دعَّم هذا العمل الشجاع مشاعر رفض التسلط والإستعباد والملكية المطلقة لدى شعوب اوروبا والعالم.

على أثر هذين الحدثين التاريخيين بدأت الأفكار الثورية التحررية تختمر في الوعي الجماعي للشعوب والتجمعات البشرية، على قلة وسائل التواصل والإحتكاك ولكن الصراعات الفكرية على المستوى الفلسفي بين كبار المفكرين والمنظرين في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر وحتى نهايته كانت في أوجها فتمحورت هذه الصراعات حول توجهات ثلاثة: الفلسفة المثالية، الفلسفة المادية، والإتجاه الميتافيزيكي في الفلسفة.

تكمن أهمية هذه الصراعات ليس في الجدل الفكري الذي نتج عنها بل في التطبيقات السياسية العملية التي كانت تبشر بها وفي مساهمتها في الدعوة الى التحرير وتأمين حقوق المجتمعات والأفراد في نظام إجتماعي جديد كان حلماً في تلك الحقبة من الزمن. فكان إعلان المانيفست عام 1844 وكانت كومونة باريس 1871 وكانت الثورة الروسية الأولى 1905. كل هذه المحطات البارزة كانت ترمي الى أهداف مشتركة الا وهي رفض الإستغلال، تأمين العدالة الإجتماعية، تأمين الحقوق الأساسية للفرد والجماعة، خلق أفضل الفرص لتأمين المساواة، رفض الإستعمار والتسلط ونهب خيرات الشعوب ولكنها في نفس الوقت أكدت على التقسيم الطبقي للمجتمعات وهذا ما خالفه كمال جنبلاط في رؤيته الفلسفية عند تأسيسه للحزب في 17 آذار 1949 والذي أعلنه رسمياً في الأول من أيار من نفس العام ليتصادف مع عيد العمال العالمي الذي أعلن في العام 1886 في الولايات المتحدة الأميركية على أثر “حفلة شاي بوسطن” من ضمن السياق التاريخي الذي سلف ذكره.

استمرت حرارة هذا الغليان الفكري في التصاعد واستمرت الشعوب على إختلاف مكوناتها المسحوقة في تغذية آمالها في التحرر والإنعتاق وفي صراعها المرير مع نماذج السلطة المتحكمة المتنوعة حتى تمكنت السلطة البلشفية من فتح ثغرة كبيرة في جدار تلك النماذج من السلطة عام 1917، بانتصارها على الحكم القيصري في روسيا وتعاقبت الإنهيارات في دول متعددة من اوروبا وغير اوروبا، على أثر ذلك الطوفان الهادر الذي غذته طموحات الشعوب وتوقها لبناء مجتمع يؤمن لها حقوقها في العمل والعلم والطبابة والمسكن والضمانات الإجتماعية الأخرى في جو من المساواة وحفظ كرامة الإنسان وانسانيته. بفعل انتصار هذا النموذج، بدأت نيران التحرر تفعل فعلها في البلدان المستعمرة فتحرر العديد من دول العالم من نير الإستعمار المباشر ليقع فيما بعد تحت نير استعمار اقتصادي وثقافي جديد (هو العولمة).

انهارت امبراطوريات ونشبت حروب ولكن الأساس كان واحداً – على الرغم من وجود مسببات متعددة – الا وهو رفض التسلط والقمع والنهب وامتهان كرامة الإنسان والمجتمعات والتوق الى الحرية. انهارت الأمبراطورية العثمانية والإستعمار الفرنسي والإستعمار الإنكليزي والإسباني والبرتغالي الخ…

في هذا الجو دخل كمال جنبلاط على السياسة وبالتحديد في مرحلة كانت الحرب العالمية الثانية تجمع حطامها وتدفن جثث ضحاياها من أفراد وأنظمة وكان الفكر الإشتراكي بوجه عام يشكل حلماً رومنسياً لكل معذبي الأرض.

قد يطرح السؤال عن أهمية هذا السرد التاريخي وموقعه في معالجة الموضوع الذي نحن بصدده الجواب بسيط ومنطقي، إن نشؤ أي فكر أو أية حركة سياسية أو فكرية لا يمكن أن يكون معزولاً عن الظروف والأحداث التاريخية التي سبقته وأحاطت به من قريب أو بعيد فلو أردنا التحدث عن لبنان اليوم لما أمكننا ذلك دون العودة الى ظروف الحرب وما قبلها وما بعدها حيث أن تأثير ذلك سيكون أكثر أهمية وأكثر التصاقاً من تأثيرات حرب فيتنام علينا مثلاً وهي البعيدة عنا جغرافياً. ولو أردنا التحدث عن المؤثرات التي ساهمت في نمو التوجهات القومية العربية أبان الإحتلال التركي لما أمكننا تجاهل دور الكتاب والمفكرين القوميين كالأمير شكيب أرسلان وغيره مثلاً. كذلك هو الحال اذا اردنا البحث في الظروف التاريخية لنشؤ الفكر والممارسة المقاومة للإحتلال الفرنسي أو الإنكليزي على خارطة الوطن العربي فأننا لا نكون موضوعيين إذا ما تجاهلنا ثورة 1925 في سوريا التي كانت محاولة جدية ولكنها جنينية للتأسيس لمقاومة تتسع الى أجزاء اخرى من الوطن العربي المحتل. إذن، لذلك السرد التاريخي أهمية بالغة في فهم الإيحاءات التاريخية ومصادر إقتناع كمال جنبلاط وإعتناقه للفكر الإشتراكي الرحب النظرة، الواسع الأفق، الإنساني الأساس وفي فهم الدوافع الكامنة وراء تأسيسه للحزب التقدمي الإشتراكي.

مصادر كمال جنبلاط الفكرية المؤسسة لعقيدة الحزب التقدمي الإشتراكي 

تشبه شخصية كمال جنبلاط في منحى تشكلها الموسوعي شخصية عمالقة الفكر والفلسفة والعلم في عصور الإزدهار والنهضة. فهي تذكرنا بالشخصية الأسطورية للأديب الفرنسي “رابلي” في اواسط القرن السادس عشر في شخصية Gargantua. هذه الشخصية القادرة على القيام بأعمال خارقة نتيجة تربية خاصة، مكنتها من التمتع بإمكانات خاصة لا يتمتع بها عامة الناس. إنها ليست مبالغة ناتجة عن التقدير أو المحبة لهذه الشخصية إنها حقيقة يعترف بها كل من عرف كمال جنبلاط عن كثب أو تابع نشاطه الفكري والسياسي بدقة. فكمال جنبلاط هو الفيلسوف وهو الأديب وهو السياسي والمحامي والكيميائي والمتصوف والشاعر الخ… .

إنه يذكرنا بإبن سينا الكيميائي والطبيب والفيلسوف والعارف بعلوم عصره. تجسدت ثقافة كمال جنبلاط الواسعة، بنتاج غني، عميق وغزير، من الكتب والمقالات والمحاضرات التي تعد اليوم مرجعاً أساسياً من مراجع تلك المرحلة التي عاش فيها، نسبة الى علميتها وموضوعيتها ودقتها، فأين من تلك الشخصية شخصيات سياسيي اليوم .

استقى كمال جنبلاط معلوماته الأولى في جو الرهبنة ومحيطها فتأثر بما دعا اليه الإنجيل وتعاليم السيد المسيح من محبة وتسامح وتأثر بصرامة الآباء اليسوعيين وبإعتمادهم لنظام قاس في بناء الذات وتهذيب النفس الإنسانية . صقل شخصيته على التواضع المناقض لمسلكية الإقطاع واهله وهذا ما ميزه عن السياسيين الآخرين وقد كان يتمتع بقدرة عجيبة على مزج هذا التواضع بكبرياء وعزة نفس قل نظيرهما .

تأثر كمال جنبلاط الى حد بعيد بفلسفة تيلارد وشاردن التي تؤكد على التفاوت الطبيعي في قدرات البشر وميزاتهم وان كانوا متساوين من ناحية القيمة الإنسانية وهذا ما يناقض بشكل واضح الفلسفة المادية التي لا تأخذ هذا التفاوت وهذه الخصوصية بعين الإعتبار من هنا كانت الفكرة المركزية عند كمال جنبلاط عن دور النخبة في قيادة المجتمع على المستوى العام وقيادة الحزب على مستوى الحزب . من هنا كانت معايير كمال جنبلاط للشخصية القيادية ، قاسية ومتنوعة . وبنظرة متفحصة للشخصيات التي عاصرت كمال جنبلاط وساهمت معه في تأسيس الحزب التقدمي الإشتراكي نتأكد من دقة مراعاته لهذه الفكرة في أغلب الأحيان .

تأثر كمال جنبلاط بفلسفة باسكال وبرغسون التي تقر بعدم قدرة العقل على الإحاطة بكل شئ وتفسير كل الظواهر فهو بالرغم من نهمه الكبير الى المعرفة والإطلاع على العديد من المذاهب الفلسفية الغربية والشرقية كان يقر بالإعجاز في الخلق فيحتمي بهذه السكينة وبهذا الإطمئنان الداخلي اللذين كانا يميزان شخصيته.

تأثر كمال جنبلاط تأثراً عميقاً بفلسفة الشرق وبلغ هذا التأثر ذروته مع المهاتما غاندي وفلسفته السلمية وتجلى كل ذلك في حياته اليومية وفي ممارسته للسياسة التي لم يعتبرها يوماً مهنة يمكن لها أن تصرفه عن إهتماماته الأخرى وعن تصوفه واستزادته من بحار المعرفة الواسعة. تراه متأملاً في كتاباته وفي صومعته معاً، مستشرقاً للمستقبل وأحداثه، داعياً للعودة الى الينابيع في الثقافة والفلسفة ومن هنا كان تأثره بالفلسفة اليونانية القديمة. أعطى كمال جنبلاط الجانب الروحي حيزاً مهماً من حياته ولكنه فهم الدين من الجانب الفلسفي الرحب لوحدة الوجود وليس من زاوية الطقوس والمظاهر المنفرة التي تعبر عن محدودية الفهم، من هنا كانت محاضراته في هذا المجال تعبر عن فهم هادئ عميق يبعث على الراحة النفسية إذا ما تعلق الأمر بالرؤيا الجدلية لترابط الفلسفات الدينية فيما بينها.

وهنا ايضاً تعارض كمال جنبلاط مع الفلسفة المادية دون أن يقع في ميثاليات الميتافيزقية ويظهر هذا الجانب في ميثاق الحزب. آمن كمال جنبلاط بالتطور وبتبني نتائج العلم على إطلاقه دون تحفظ أو تردد، حيث ادرك يقيناً بأن الوقت يفعل فعله في تغيير المجتمعات والنظم والتشريعات والإنسان ايضاً. كان ديناميكياً دائم الحركة في فكره ونظرته للأمور دون أن يساوم مرة على المبادئ. وهذا ما أكد عليه في ميثاق الحزب التأسيسي في أكثر من موقع.

تعارض كمال جنبلاط في فكرته التأسيسية للحزب التقدمي الإشتراكي مع الفلسفة المادية، في نظرته الإقتصادية بشكل عام وفي موضوع الملكية بشكل خاص. كما تعارض معها في تقسيمها الطبقي للمجتمع وفي تركيزها على مبدأ حكم البروليتاريا وقد رأى في ذلك حافزاً للصراع بين طبقات المجتمع، التي يفترض بها ان تعمل في انسجام وتكامل تامين، دون أن يكون هناك أي شعور بالعداء والعدوانية لأية مجموعة ضد اخرى لأن ذلك ينفي غاية الفكر الإشتراكي الجوهرية والتي هي الإنسان بعنوانه العريض.

آمن الرئيس المؤسـس برحابة الفكر وتعدده ولم يكن متزمتاً ابداً. فهو المتعدد الثقافة، المتنوع الفلسفة، الجدلي المقاربة، المنفتح على الآخر، الذي لم ينظر الى الحزب يوماً على انه غاية في حد ذاته كما كان النمط السائد في ذلك الزمان وهو الذي أكد على إختيار الضمير في حال التعارض مع الحزب وهذه شجاعة متميزة وخروج على المألوف في فهم الإلتزام الحزبي الكلاسيكي وفي هذه النقطة ايضاً وايضاً كان متفرداً وموضوعياً الى الحد الأقصى.

ختاماً لا بد من القول بأن ما أوجزناه هو عناوين عريضة لمواضيع شائكة إن لجهة فكر كمال جنبلاط وفلسفته في السياسة والحياة وإن لجهة المذاهب السياسية والفكر السياسي بشكل عام.

ولكن لعل هذه الإحاطة السريعة تشكل حافزاً للجهد الشخصي والتأمل الذاتي والبحث الفردي وهي أمور لا غنى عنها في معرض بحثنا عن الثقافة والمعرفة ولا يمكن لأي محاضر أن يكون بديلاً عنها.