عن عروبة الهلال الخصيب

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

كان أول مَن استخدم مصطلح «الهلال الخصيب» هو عالم الآثار الأمريكي جيمس هنري برستد، من منطلق جغرافي ليس إلا، على اعتبار أن هذه البقعة من العالم العربي غنية «أو خصبة» بالمياه والتربة وبالآثار، ومنها تمددت حضارات مُتعددة عبر التاريخ، والهلال يمتد من البحر الأبيض المتوسط في الغرب إلى الهضاب الإيرانية في الشرق، ويضم حالياً: العراق وسوريا والأردن وفلسطين. وفي ثلاثينات القرن الماضي؛ كثُرَ استخدام المُصطلح عندما تأسس الحزب السوري القومي الاجتماعي، مُعتبراً أن الهلال الخصيب هو ذاته «سوريا الكبرى» التي تُشكِّل جزءاً من الامتداد العربي الذي يتكامل مع الأجزاء الأخرى في الجزيرة العربية ووادي النيل والمغرب العربي.
الجذور العربية «السامية» واضحة في تلك المنطقة، وشعبها يتمتع بمُميزات واحدة من حيث الثقافة واللغة والتاريخ وفي عادات الطعام والشراب، وغالباً في فن العمارة وفي ممارسة مِهن الصناعة والتجارة والزراعة.

وكانت تلك المنطقة ركيزةً في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية، ونشأت فيها الدولة العباسية والدولة الأموية اللتان أغنتا التاريخ العربي بالعلوم والفنون، وتواصلت بلاد الشام وحوض دجلة والفرات مع المساحات العربية الأخرى في بلاد الجزيرة ومصر والمغرب، لتُشكِل ما يُشبه الوحدة السياسية، بحيث كان استهداف أي من هذه المناطق؛ استهدافاً للعرب عامةً.

وفقاً لهذه الاعتبارات كانت الغزوات الصليبية للمنطقة مع بدايات الألفية الثانية، وعلى تلك القاعدة ذاتها كانت غزوة المغول في منتصف القرن الثالث عشر. أما الدخول التركي في القرن السادس عشر؛ فقد كان احتلالاً لبلاد العرب، ولو كان مغلفاً بالطابع الإسلامي.

في فلسطين – قلب الهلال العربي الخصيب – هُزم الإفرنج في معركة حطين التي قادها صلاح الدين الأيوبي عام 1187م، وفيها أيضاً هُزمت جحافل الغُزاة التتار والفرس والمغول بقيادة هولاكو في عين جالوت في العام 1260م، وتراجع الأتراك منهزمين عن هذه البقعة العربية عام 1919. أما الاستعمار الغربي (البريطاني والفرنسي) فقد فشِل أيضاً بالبقاء على هذه الأرض، لكن الكيان «الإسرائيلي» الذي زرعه هذا الاستعمار مازال قائماً.

كل الغزوات والاحتلالات، كانت ترتكز على محو المعالم العربية عن هذه البلاد. وبعضهم كان يدَّعي زوراً: أنه «يستعيد بلاداً احتلها العرب». لم يتمكن كُل هؤلاء من النيل من العروبة الصافية التي تتجذَّر في شعوب بلاد الشام وحوضي دجلة والفرات. أما الهلوسات والمُغالطات الصهيونية حول فلسطين، فهي ستلاقي ذات المصير من الهزيمة، ومهما طال الزمن.

مناسبة الكلام عن هذا الموضوع اليوم؛ هو تعرُّض دول في «الهلال الخصيب العربي» إلى اضطرابات واسعة، لم تشهدها المنطقة من قبل، خصوصاً في سوريا والعراق. وتترافق هذه الاضطرابات مع اختلالاتٍ بنيوية تُصيب التركيبة الديمغرافية في هذه الدول بتشوهاتٍ واسعة، وتُباعِد ما بين المكونات السكانية، كأنهم لا ينتمون إلى مرجعيةٍ حضارية عربيةٍ واحدة، كما هو عليه الحال. فنسمع مثلاً أن العراق يتألف من «العرب الشيعة» ومن «العرب السُنة» ومن الكلدان والأكراد. بينما واقع الحال، أنه يتكون من شعبٍ عربي واحد، يعيش في كنفه منذ زمنٍ بعيد مجموعة من المسلمين الأكراد وغير المسلمين. أما سوريا التي تعتبر قلبُ العروبة النابض فقد شوَّهت الحرب معالمها، ودخلها الغرباء من كلِ حدبٍ وصوب، وأصبح شعبها العربي الأصيل؛ مجموعاتٍ متباعدة، وهي تحتاج إلى جهودٍ جبارة لاستعادة اللُحمة الوطنية والقومية إلى صفوف شعبها.

فكما الصهاينة يحاولون تفريق شعب فلسطين الواحد؛ بين عربٍ ودروز وغيرهم، بينما هم شعبٌ واحد، ويتمسكون جميعهم بهذا الانتماء. تحاول بعض الجهات المستفيدة من بعض الضياع العربي؛ أن تبُثَ السموم في الذاكرة العربية والمشرقية، مستغلةً المآسي التي أصابت العرب في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان.

فهل يستفيق بعض الغافلين، ويتعاون جميع العرب لمواجهة الأخطار الوجودية المُحِقة؟

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية