صادق جلال العظم: الحياة القاسية والوفاة البعيدة

د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

تربيتُ في منزلٍ وسط دمشق، غَلَبَت عليه سمةُ التديُّن العادي عند افراد الاسرة. لم تكُن البيئة التي ترعرعت فيها؛ مُتشدِدة، وكان التسامُح الاسلامي غالباً عليها، واسرتي غير مُتمسكة بالطقوس الى حدودٍ بعيدة، لأن البعض من هذه الطقوس لا يتناسب مع العقلانية التي تدعوا اليها الديانات السماوية بمعظمها. تلك كانت كلمات صادق جلال العظم كما رواها لصقر ابو فخر وذكرها الاخير في كتابه” حوار بلا ضفاف” ص15 عن زمن البدايات في حياته الدمشقية، وقبل مرحلة ذهابهِ الى الجامعة الاميركية في بيروت وتخرُجِهِ من قسم الفلسفة عام 1957، ثمَّ ذهابه لاحقاً الى الولايات المتحدة الاميركية ونيله شهادة الدكتوراه في الفلسلفة العصرية من جامعة “ييل” بإشراف الفليسوف الفرنسي هنري بدغسون.
تلك العبارات التي قالها عن طفولته، تُعبرُ عن ملامح شخصيته المرِنة، وعن رؤيته التي تجاوزت بعض المُحددات التي كانت بمثابة الثوابت الدامغة عند معظم أقرانه من الكتاب، او العلماء، الذين عاشوا في تلك الحقبة، لاسيما العرب والمسلمين منهم.

قد تختلِف مع بعض توصيفات العظم للوقائع الميثولوجية، وقد تتفق مع جوانب عديدة من فلسفته، ولكن في الحالتين؛ لا يمكن تجاهل مستوى الإبداع والجرأة الذيّن كان يتمتع بهما، وفي الوقت ذاته؛ فإن مقاربته لبعض جوانب الإنغلاق والتعصُّب، وإنتقاده للكيفية التي تتم فيها المعالجات للقضايا السياسية، ومنها التعامل مع القضية الفلسطينية العادلة، وكذلك الامر نقده لبعض الفكر الديني المُنغلِق، كُل ذلك؛ لا يجوز تصنيفه إلا ضمن “العدَّة” او التوليفة التي تهدف الى تعزيز البُنيان الفكري العربي، وفقاً لرؤى علمية ومدنية، لا تتعارض مع جوهر المقاصد الدينية، إذا ما أخذنا فلسفة هذه المقاصد على غير التفسير الضيق الذي يحشرها البعض فيها. الم تكُن صحيفة المدينة التي أنشأها الرسول الكريم اول مَن تحدث عن العلمانية بمفهومها الواسع؟ وهذه المدنية – او العلمانية المُجرَّدة – تستنِدُ الى مُحدداتٍ واقعية، نظر اليها الاسلام على انها جزء من مقاصدهِ في إحترام المساواة والعدل بين الناس أجمعين.

لقد حفرت أبرةُ صادق جلال العظم في صخرةٍ من الصوان بحثاً عن الحداثة العصرية المُحصَّنة في وجه الغرائز والطقوس الشكلية البالية. كتب عن رؤيته التحرُرية التي توافقت مع اليسار خلال سنوات طوال، عندما كان العالمُ مُنقسِماً الى شطرين، يُغذي كل منهما الغرائز لمواجهة الشطر الآخر، فانهزمت القطبية اليسارية (او الاشتراكية المادية) التي ساند بعض افكارها العظم، ولكن القُطبية اليمينية الثانية لم تنتصِر.

تعرَّض صادق جلال العظم للإضطهاد خلال سنوات عديدة من حياته الفكرية المُنتِجة، ودخل السجن في بيروت بعد اصداره لكتاب ” نقد الفكر الديني ” عام 1969، ولولا تعاطف اليسار بقيادة كمال جنبلاط معه؛ لكان مكث فيه سنواتٍ طوال. اما إبان ترحاله من بيروت الى عمان الى دمشق كمدرِّسٍ في افضل جامعات هذه العواصم؛ فقد أصيبَ بالوهنِ من جراء مُضايقاتٍ عديدة، كانت ترنوا الى إخضاعه فكرياً، من خلال إستخدامِهِ كمُنظِّرٍ لهذه الرؤية السياسية او العقائدية او لتلك، لكنه خرج سالماً من هذه التجرِبة الشاقة، ولم يبيع قناعاته لإحد، وحافظ على موضوعيته الفكرية، وعلى تميُزاته العلمانية.
ان مهادنته السياسية لبعض الأنظمة ساهمت في تباطوء مستوى إنتاجه الفكري والسياسي خلال عدة سنوات، و فيها ذهب مطواعاً خلف مواهب ادبية وإنسانية وتاريخية كانت كامنة لديه، وكتب روائع إنتاجه، خصوصاً كتاب ” الحُب والحُب العذري “وكتاب” الصهيونية والصراع الطبقي ” .
دفعهُ عشقهُ للحرية الى الهجرة من جديد، فلجأ الى المانيا هرباً من التضييق الذي حاصره في موطنه سوريا، وتحديداً في دمشق الحبيبة كما كان يقول، ورأى في الإنحرافات الطائفية – على حدِ تعبيره – خطراً مُحدقاً على الاستقرار السياسي في سوريا وغيرها، وزادت بعض المظاهر من قسوة الالم الذي عاشه في الغربة القسرية، واشهر مواقفه المؤيدة لإرادة الشعب في الإنعتاق من مسيرة التضييق، ومن الإختناقات المعيشية التي كان يرزح اغلبية الناس تحت وطأتها.
هاجم بعضهم صادق جلال العظم على مواقف مُتعدِدة أعلنها بمواجهة ما أطلق عليه اسم “الاصولية الاسلامية” فكان رده الشهير، والذي ينمُّ عن شجاعةٍ فكرية وعلمية، حيث قال: ” نحن نُعارض اليمين المُتطرِّف، واليسار المُتطرِّف، فمن الطبيعي ان نعارض الحركات الاسلامية الراديكالية التي تؤدي بنهجها الى ذات النتيجة” بينما الاسلام يدعوا الى التسامُح والانفتاح على العلم وهو ليس بديلاً عن هذا العلم، وكذلك بالنسبة للمدنية بمفهومها الواسع والذي يرتكز على إحترام الذات الانسانية وخياراتها الفكرية والدينية والفلسفية.
فارق صادق جلال العظم الحياة في 11/12/2016 على سرير المستشفى في المانيا عن 82 عاماً، كان ذلك خبراً مؤلِماً لمحبيه ومُريديه، وللثقافة العربية برمتها، وسيتركُ غيابه فراغاً فكرياً يؤلِم العروبة المنفتِحة برمتها.
حلِم صادق جلال العظم بأن يرقُد في ثرى دمشق، لكن القدر عاكس رغبته، وكانت وفاته البعيدة عن ارض الوطن بمثابة الجرح الإضافي الذي اصاب بُنيان ذكراه .
بين الحياة القاسية والوفاة البعيدة؛ مسافةٌ طويلة من دروب الآلام، تشابهت فيها مسيرةُ العظم مع مسيرة العظماء.

اقرأ أيضاً بقلم د. ناصر زيدان (الخليج الإماراتية)

واشنطن وبكين وبحر الصين الجنوبي

إدلب والحسابات الاستراتيجية الدولية

مصر والتوازنات الاستراتيجية الجديدة

موسكو تحصد نجاحات غير متوقعة

قرية «بانمونجوم» ومستقبل المخاطر النووية

العدوان المتجاوز كل الحدود

سكريبال والحرب الدبلوماسية الساخنة

عن العقيدة السياسية للدول الكبرى

لماذا صواريخ «إس 400» في جزيرة القرم؟

روسيا في العام2017

الحوار الأوروبي الإفريقي والقنابل الموقوتة

استراتيجية روسية جديدة في الشرق الأوسط

استفتاء كردستان ليس حرباً عربية – كردية

أفغانستان الجريحة

مؤشرات التطرُّف المُقلِقة

توازن الرعب في أقصى الشرق

أخطر مُربع في الصراع

الموصل مدينة العذابات الكبرى!

واشنطن وبيونج يانج و«الصبر الاستراتيجي»

جُزُر الكوريل وتوترالعلاقات الروسية اليابانية