في ذكرى ميلاد المعلِّم كمال جنبلاط

د. محمود صافي

ويأتي السادس من كانون الأوّل كما في كلّ عام… وتهبّ الذكريات الحواني إلى زمانك المضيء الذي أشرق في عام 1917 ولم يتوقّف عند سنة 1977، بل نجده هادرًا، متفجّرًا كما الحياة، في كلّ يوم، وفي كلّ ساعة، وفي كلّ غدٍ آتٍ نحن له بالانتظار.

يا أيّها المعلِّم، يا باني هيكل المحبّة؛ محبّة الإنسان والأوطان… يا باني هيكل الاستقلال والسيادة في عقول عارفيك، أتأمّل ذكراك وأغرق في محطّات ومحطّات جمعتنا، فكنت على الدوام مراقبًا، مدركًا للأمور حتّى من قبل أن تحدث. أنت يا من رفضت السياسة في ربيع أيامك، وكان همّك الأوحد أن تصبح طبيبًا أو مهندسًا لتساعد الإنسان ولتبني الوطن، ولكنك وفي ذروة رغبتك تلك، امتثلت للواجب ولإرادة العائلة التي بتَّ أنت وريثها السياسي الوحيد، فدخلت معترك السياسة وكنت سيّدًا نبيلاً فيها؛ توّجتَ حياتك السياسية باستقلال لبنان عام 1943، يوم اعتقل المنتدب الفرنسي الرئيسين بشارة الخوري ورياض بك الصلح، بالإضافة إلى الأمير مجيد أرسلان وغيرهم، يومها نزلت إلى بيروت في طريقك إلى مجلس النوّاب، فلم تتمكّن من الوصول، واتّجهت إلى منزل الرئيس صائب بك سلام، حيث اجتمع بعض السياسيين، وتداولتم بالأمر الطارئ، وشُكِّلت حينها حكومة ظلّ استقلالية لتحافظ على الاستقلال الغالي.

أيّها المعلِّم… لقد مارست السياسة، ولو كنت كمن يُغرِّد خارج سربه، واتُّصفت بالسياسي الديمقراطي الاجتماعي الاقتصادي، وكانت أدبيّاتك تتوِّج كلّ تحرّكاتك؛ فالحرية مقدّسة، والمعرفة هي المنهل والمعين الدائم، والترفّع عن صغائر الأمور هو رأس الحكمة وزاد النور والوعي. ولقد جمعت كلّ ذلك ووضعته ميثاقًا ودستورًا لحزب سياسي أردته وسيلة نحو التغيير الإنساني البنّاء، والإصلاح الاجتماعي والسياسي العادل، الحامي أبدًا لوطنك الذي أحببت وعَمِلْتَ من أجله، ومن أجل إنسان يكبر بوطنه ويستقوي به، رافعًا الرأس شامخه، لتبقى الشريعة في حرم عظمته، ولتنتصر الحرّية على آخر معاقل الظلم والاستبداد والارتهان.

المعلم كمال جنبلاط
أيّها المعلِّم كمال… يا من رفضت الأحلاف المشبوهة والأقفاص الذهبية التي تسعى إلى خنق الحرّية والتعايش ما بين أبناء الوطن الواحد، يا من وقفت كالطود الصامد أمام أعتى العواصف التي أرادت أن تُزيل هذا الوطن عن خارطة التاريخ، يا من اشتريت الخلود بدمك ورفضت بيع الضمير، يا من كرّست دمك وجسدك وقودًا لأسمى قضية ولأقدس مطلب لا نزال نلهث في إثره، يا أمير الشهداء، ويا سيِّد القلم والكتابة والكلام، ماذا نقول لك في هذه الذكرى؟ كان بودّي أن أحمل إليك أخبارًا مفرحة، أن أقول بأن حلمك بوطن متكامل، تقدّمي إنساني، قد تحقّق، وأنَّ المحبّة والسلام يرفرفان في هذا الشرق، وأنَّ فلسطين القضية قد استعادت أرضها المسلوبة، كان بودّي أن أقول كلّ هذا ولكن، ويا للأسف، لا زلنا في لبنان نعيش في دائرة التجاذب، ونرثي زمن الاستقرار والهدوء. ويستحضرني، وأنا في هذه العجالة، كلامك لي وللرفيق المرحوم توفيق بركات، يوم اجتمعنا في بهو قصر المختارة في بداية الحرب اللبنانية، وقلت لنا يومها: إنّني أخشى من هذا الذي يجري على خطوط التماس وفي الفنادق في بيروت. إنّها حرب ستطول، وسيُسفَك دم محازبين وأبرياء. ليتنا نستطيع وقف هذا النزف. حرام كلّ نقطة دم تُهدر في سبيل أطماع خارجية. لقد حاولت مع خصومنا في السياسة، بواسطة أصدقاء مشتركين، أن نتحاور لنزع فتيل الاقتتال، وتجنيب الوطن الانهيار، والشعب استبداد الآخرين، ولكنّنا لم نُفلح. وقلت أيضًا يومها: “الحرب في أوّل الطريق” – والألم بادٍ على وجهك، والحسرة مرتسمة على شفاهك – ” وستعمّ كلّ لبنان، وسيدخل الجيش السوري تحت شعار وقف الاقتتال. وتذكّروا أنَّ إسرائيل ستدخل أيضًا وربّما تصل إلى مشارف بيروت”! فيا أيّها المعلِّم، لقد تحقّقت رؤيتك كما وصفتها لنا، وما زلنا نعاني إلى يومنا هذا من ضربات موجعة يسدّدها إلينا طرف خارجي من هنا وهناك، ولا زالت أهوال الحروب تلاحقنا في حياتنا، على الرغم من دحر جيوش الاحتلال الإسرائيلية إلى خارج حدود الوطن، تحت ضربات المقاومة اللبنانية والإسلامية، ومن ثمّ خروج الجيوش السورية إثر ثورة جديدة نادت باستقلال لبنان وحريّته وسيادته، وعلى أثر سقوط شهداء كبار رووا أرض هذا الوطن المتألَّم لجراح أبنائه.

هذا في لبنان، أمّا قضية فلسطين، فلن أخفيك بأنّه بات لها دولة في الضفّة الغربية وغزّة، أمّا اقتتال الأخوة، فلن أثقل عليك بأخباره المؤلمة لنا جميعًا.

وفي العالم، أيّها المعلِّم، توحّدت الألمانيّتين، وهُدم جدار الفصل بين أبناء شعب واحد، كما توحّدت القارة الأوروبية بدورها، تمامًا كما تنبّأت عام 1945. وماذا أخبرك عن الاتحاد السوفياتي الذي انهار وتفتّت ولم يتّعظ في حينها يوم انتقدتَ عمل السوفيات وقلت بأنَّ عليهم أن يرعوا ثورة ديوبتشيك في تشيكوسلوفاكيا، لأنَّ الثورة لا يقمعها العنف، بل الاستيعاب والتفهّم وتغيير التصرّف، ولأنّها إذا ما جوبهت، كانت رحمًا يولِّد ثورات متلاحقة، وفي كلّ مكان، بحيث تعجز أيّ قوّة أن تردعها أو أن تخمدها. وهذا بالفعل ما أصاب الجبار الكبير الذي ناء تحت ضربات متلاحقة من “ديوبشتيك” آخرين!

ولن أنسى يا معلِّمي الولايات المتّحدة الأميركية التي اعترفتَ لها بأنّها ستكون القوّة العظمى الوحيدة في العالم، ولكنّك، بالمقابل حذّرت من سلبيّات النظام الرأسمالي البراغماتيكي، ومن هشاشته، في وجه الأزمات، وخصوصًا الاقتصادية منها، وها هي أميركا، بعظمتها، تنوء تحت أزمة مالية لم تعرف لها مثيلاً في تاريخها.

ونقول ونقول، ولكن لا مكان يتّسع لما نعاني ولما يعاني منه هذا الكوكب من أزمات سياسية واقتصادية وبيئية! فعفوك أيّها المعلِّم، وعذرًا منك كوننا لم نتّعظ، ولم نفقه العبرة في أحداث الزمن، عذرًا لأنّنا تركنا لأنانيتنا العنان ونسينا أنّ المهمّ والأهمّ هو الإنسان، وأنَّ الهدف الأسمى هو الحقيقة! عذرًا يا معلِّمي، ولكن يبقى لدينا هذا النور الذي يضيء علينا أيامنا الحالكة، ألا وهو المبادئ التي زرعتَها في نفوسنا وأحلامنا ورحلت، ومنه، من هذا النور، لا زلنا نتعلّم كيف نموت من أجل الوطن!

عيدك مبارك يا معلِّمي!

(الأنباء)