الساهر الذي لا ينام

د. محمود صافي

في قرية صغيرة من قرى لبنان المتميّزة بمواقعها الرائعة الجمال، وفي تضامن سكانها، ومحبّتهم للطبيعة التي يجنون من خيراتها بعرق جبينهم لكي يقتاتوا هم وعائلاتهم. عاش رجلان جاران في كوخين متجاورين، يعملان في الزراعة، ولكلّ منهما عائلة يعيلها من تعب سواعده. وفي ليلة من ليالي الربيع، كانا مجتمعان مع بعضهما في سهرة في الهواء الطلق، يتناقشان في أمور العيش ومتطلّبات العوائل من غذاء ولبس وتعليم ودواء وغيرهما، فاضطرب أحدهما وقال همسًا:”ماذا سيحلّ بزوجتي وأولادي الصغار إذا مرضت أو متّ؟”، فاستحوذ هذا السؤال على تفكيره، وأصبح هاجسه الوحيد الذي لم يفارقه، وبدأ يدمي قلبه وينقر فيه كما تنقر الدودة الثمرة. أما الآخر الجالس معه أخذ يفكّر قائلاً:”الله وحده، هو الساهر على مخلوقاته، يحيي ويميت، ويرزق كلّ مخلوق وُجِد في هذه الدنيا”، هذا هو الإيمان عينه، لكنّ صديقه لم يعرف معنى الراحة الفكرية.

شاء القدر يومًا، أن يُظهر للجار الذي يعاني من هواجسه أنَّ تفكيره خاطئ، بينما كان يعمل في الحقل كئيبًا يائسًا، يسيطر عليه الخوف من مجهول قد يداهمه وعياله، شاهد طيورًا تدخل في (علّيقة) وتخرج منها وهي تغرّد ثمّ تعود إليها، فتقدّم من (العلّيقة) ووقع نظره على عشّين قرب بعضهما وفي كلّ واحد منهما فراخ عديدة. وكانت هذه الطيور تغرّد ذهابًا وإيابًا حاملة الغذاء إلى الصغار، فبينما كانت إحدى هذه الأمهات آتية لتطعم فراخها، انقضّ عليها عقاب وذهب بها بعيدًا، وعند هذا المشهد اضطربت نفس هذا الرجل التعيس الخائف من نكبات الزمن، وأيقن أنه بموت الأم ستموت الفراخ، وقضى يومه كئيبًا، ينتابه الخوف من نفس المصير. وفي اليوم الثاني ذهب إلى الحقل وعند وصوله ذهب إلى (العلّيقة) ظنًّا منه أنَّ صغار الفراخ الذي اختطف العقاب أمّهم قد ماتوا، وما كان أشدّ دهشته عندما رأى الفراخ على أحسن حال، فتعجّب وتساءل ما الذي حصل؟ اختبأ وراء شجرة يراقب ما يجري، فلاحظ أن الأم الثانية للعش الثاني جاءت حاملة الطعام ووزّعته أوّلاً على الفراخ اليتامى قبل فراخها، عندها أدرك أنَّ الأيتام لا يتركون في بؤسهم. فالله هو الساهر على مخلوقاته. عاد إلى كوخه وقصّ على جاره ما رأى قائلاً:”كنت محقًّا عندما قلت لي على الإنسان أن لا يقلق ويخاف، وأن يسير بسلام في هذه الحياة، لأن الله لا يهمل أحدًا”. تعاهد الجاران على إعالة أطفالهما في حال موت أحدهما، أما إذا تولاّهما الله سويًّا فيكون لهم أب واحد لا يتخلّى عن مخلوقاته هو الله عزّ وجلّ.

أين نحن من هذه العِبرة، وأين هو الإنسان الذي لا يراعي أخيه الإنسان، فلنعتبر من هذه الحكمة ونترأف ببعضنا كما فعلت الطيور.