خطابات

نص الكامل لكلمة الرئيس المؤسس كمال جنبلاط في إعلان ولادة الحزب التقدمي الإشتراكي في الأول من أيار1949 

سادتي،
في يـوم أول أيار المبارك الذي شئنا أن نبرز فيه إلى الناس والذي تنفتح له في كل نفس كوة مطلة على فسحة من الأمل وعلى هدى الطريق الصاعدة وعلى قداسة الجهد البشري المستمر منذ مئات الألوف من السنين أي منذ فجر الإنسانية الأولى والمتحول ـ وهو تمرس وتكييف وابتكار للواقع ـ إلى إتصال مباشر بأسباب الخليقة وبنبضة الحياة كما لو أننا منها الأداة والصيرورة والشعلة.
في يوم العمال ـ وبينهم الفلاحون الذين يستقبلون بصدورهم شمس الحياة، وبينهم الصناع وأرباب الحرف القابضون بأيديهم والمسيطرون على القوى الهائلة الكامنة في صميم الكون بحيث تتحول وتمدد بمشيئتهم حتى لتضحي وكأنها جزء منهم ومن أعضائهم أو كأنهم منها الحركة والأعضاء .

في هذا اليوم الذي أصبح يوم ذكرى التعاسة والبؤس والإرهاق نتيجة أن الإنسان لم يعدل بأخيه الإنسان، واستحال في نظر مئات الملايين من البشر وكأنه مصدر للتفرقة والضغينة ورمز للفجيعة الكبرى واستقطاب للألم المادي والأسى النفساني العميق وصورة للتخوف من الغد المجهول وذعر من المرض والتخلي المتنكر والموت .

في هذه الساعة الكبيرة من حياتنا التي اتفق لنا فيها شرف قيادة حركة التحرير والسعي في سبيل هذه العدالة وهذه الأخـوة وهذه المسـاواة الجوهرية بين البشر، نرحب بكم بإسم الحزب التقدمي الإشتراكي الذي أولانا فضل تمثيله : إعلاناً للحركة وإذكاء للصراع العقائدي المرتقب وإيذاناً ببدء إنتظام جماهير رجال الفكر والعمال والفلاحين في سيرورته .
سيقرأ البعض هذا الميثاق المرتكزة جذوره على نظرة شاملة في الحياة، أسسها العلم والإختيار الإنساني المتراكم على التاريخ الذي أوضحناه وأعطيناه فعالية التحقق . هذا البعض يقرأه بحذر، ويقرأه بعض آخر بتخوف أو يقرأه بقليل أو كثير من الإيمان. ونحن مغتبطون بهذا كله لأنه دائماً شأن إقتحام الطريق . وأن كل ما نتمنى ليس إلا التوفر عليه بإخلاص . أما نحن فبكل إطمئنان وبثقة وادعة نعلن بأن الحزب التقدمي الإشتراكي قد أصبح قطب حياة نفـر ليس بالقليل وأنه أيضاً تمثيل وتجسيد لآرائه .
بأنفسنا نحن نبدأ من حيث أن الحزب مدرسة في الواقع لإعداد الفرد والجماهير ولتنظيم الجماعة وهي تتطلب القـدوة .
والجماعة لن تصفى ولن تنتظم إلا إذا تحقق فيها الفرد وآمـن بنفسه ولا سيما وسط موجة الخوف المسيطرة هنا في لبنان وفي أنحاء الشرق العربي وفي سائر أنحاء الدنيا، وأنه ليصح لنا أن نقرر بأن المعضلة البشرية الكبرى هي في التخلص من الخوف.
إن مشكلة المجتمع الحاضر والمدنية القائمة والمتحولة ومشكلة السلم والحرب على السواء ماثلة في أن نصف الكرة الأرضية يتخوف من التقدم ويسعى لتأخير صيرورة التطور والحد من عمله في مضمار العدالة والأخوة … بينما يتحرك النصف الآخر نازعاً للصيرورة متطلباً للحركة ناهضاً مع الحياة. ونحن نريد أن نكون من هذا النصف الشعبي الذي يتوق للتطور والصيرورة والحياة .
ليس هذا مجالاً لتوضيح المبادئ وأهداف الحزب، ولكن حسبنا أن نعلن بأن لا باطنية في الحزب، نقول ما نضمر. فالحزب هو هذا التوافق الضمني الداخلي الذي يكفل إتصال الحزب وأفراده بتيار الحياة وبتطورها، وبالتالي يضمن لنا الإنتصار .
إن الصراع التاريخي بين الطبقات الذي استنفد قوى المجتمع البشري وإمكانياته واستنزف جهوده في خلافات ونزاعات داخلية مستمرة يجب أن يزول وأن تتحول هذه القوى والجهود والإمكانيات، وتعمل متآزرة لتفهم أسرار الطبيعة والنفس، وبالتالي لإستكمال مجرى التطور في تحقيق وتتميم الكائن البشـري. وهـذا لا يتم إلا إذا صهرنا الأفراد والجماعات في وحدة إجتماعية مستقرة واعية لمصـيرها ـ والحزب صورة عنها ــ تسندها قـوى المحبة والتقـارب أي قـوى التطـور الـجامـع .
في حلبة النضال العقائدي قد يكون لنا أعداء ولكنهم في الوقت نفسه سيكونون أعداء التطور والتقـدم والحياة .
أن يـوم العمـال هؤلاء هو يومنا أيضاً وشرف أن نطبع في تذكارات هذا اليوم تذكاراتنا، تذكارات الإعلان عن هذا الحزب .
أنا إشتراكي ؟
لأنني أحب العدل والإخاء والحرية .
لأنني أشعر إن عدلت مع غيري فكانني عدلت مع نفسي ، وإن ظلمت غيري ظلمت نفسي.
لأنني أنزع إلى التوافق مع الجميع والإنسجام الشامل ، كاللحن الذي لا يتم إلا إذا تحققت هذه التسويات والموازنات بين الأنغام المختلفة التي تكونه ، وكذلك يجب أن يحل الإنسجام والتوافق بين الناس وبين ما إعترف لهم به القانون والشرعة الطبيعية من حقوق ، هذا الذي نسميه عدالة .
أنا إشتراكي ، لأنني أعتقد ان الهمل بدون رأسمال لا يقوم .. والعمل ذاته المدخر في القوى الطبيعية وفي زند الفرد الذي هو من ضمن هذه القوى – هو رأسمال … والرأسمال لا تتنفذ إمكانياته ويظل مجرد طاقة إلى أن يتحول إلى عمل … فالعمل لا يمكن أن ينفصل عن الرأسمال ، أي رأسمال إطلاقاً، ولولا الرأسمال لما كان العمل ، والعمل ذاته تحقق لرأسمال ، أي لقوة أو إمكانية إنتاج مدخرة … ولكن هي الطبقية – طبقية العامل وطبقية رب العمل – هي التي فصلت وميزت بين الرأسمال وبين العمل ن وهل يفصل الإنسان عن فكره وجسده وماله في نطاق العمل ، أو فكر غيره وجسد غيره ومال غيره ، وكلها طاقة ، رأسمال .
إن هدف وغاية الحزب ليست في إستشارة الطبقية ، ولا في إستثمارها وإستخدامها نهجاً أو هدفاً ، بل هو محو الطبقية ، وفق ما ورد في الميثاق :
” إن الصراع التاريخي بين الطبقات ، الذي إستنفد قوى العنصر البشري وإمكانياته ، وإستنزف جهوده في خلافات ونزاعات داخلية مستمرة، يجب أن يزول ، وأن تتحول هذه القوى والجهود وافمكانيات وتعمل متآزرة لتفهم أسرار الطبيعة والنفس وللسيطرة عليها ، وبالتالي لإستكمال مجرى التطور في تحقيق وتتميم الكائن البشري ، وهذا لا يتم إلا إذا صهرنا الأفراد والجماعات في وحدة إجتماعية مستقرة واعية لمصيرها ، تستندها قوى المحبة والتقارب أي بالتالي قوى التطور الجامعة “.
أنا إشتراكي ، لأنني أؤمن بأن الشر ، كل الشر ، والخطيئة الأولى ، في النظم الشيوعية وفي النظم المسماة بالرأسمالية الفردية ، هو في الفصل الإعتباطي بين الرأسمال وبين العمل ، هذا الفصل الذي كرس أفضلية فئة على فئة في هذا النظام وأفضلية فئة على فئة في ذاك النظام .
أنا إشتراكي ، لنني أؤمن بضرورة التأليف والإنسجام والتوحيد بين العمل وبين الرأسمال ، بإعتبارها عناصر لا يمكن طبيعياً وعفوياً ان ينفصل بعضها عن بعض .
أناإشتراكي،لأننيأعتقدانالإشتراكيةروحيةيجبأنتتحققفيالنفوسفوقوقبلتحققهافيالنفوسفوقوقبلتحققهافيالأنظمةوالمؤسسات .
نـص الخطـاب الـذي ألقـاه حضرة الرفيق الأول كمـال جنبـلاط رئيس الحزب التقدمي الإشتراكي
في المهرجان الذي أقيم يوم الأحد في 27/ تشرين الأول/1974 إحتفالاً بذكرى نشوء الحزب الشيوعي اللبناني
حضرة الأمين العام وأعضاء اللجنة المركزية ،
أيها الأخوان،

في عيدكم الخمسين، يطيب لنا باسم الحزب التقدمي الإشتراكي وباسمنا الشخصي أن نرفع إليكم أفضل التهاني بعبوركم المستمر لهذا الجسر الزمني من ” التعب ” على حد تعبير شاعرنا العربي، ومن الالام والتحديات في مختلف المجالات .

وبالحقيقية كيف يستطيع الإنسان أن يعيش، أو أن تنمو طاقاته الجسدية والفكرية والنفسية ، إن لم يواجه وتواجه التحدي الدائب الذي يبرز وظائف العقل والجسد، ويجعلها تتطور وتنشط … وقد تكون أكبر مشاكل البشرية، في المستقبل الوسيط أو البعيد، أن يجد الإنسان نفسه ــ بعد أن تصبح الآلة تنتج كل شيء، ويغرق هو في بحبوبة الرفاهية أن يجد الإنسان نفسه بدون عامل للتحدي يتصدى له، أو يتجاوزه … فكل ما في الكون من أحداث وكائنات جماد أو حيَّة يقوم في كنهه على هذا التوازن بين الطاقات الداخلية للكائن أو الخاصة بصورته ومثاله، وبين الإنفعالات التي يتلقاها من الخارج في مجرى مسيرته في الحياة .
إن نضالكم العامر بالجهد وبالتضحيات يستحق كل تقدير . وقد أسهم في توعية الناس وخاصة الفئات الكادحة إلى بعض مصالحهم الأساسية في العيش . ولكن يبقى أن تتوضح لنا جميعاً ــ في ضوء تقدم العلم الحديث ودراسة الإنسان في العالم الغربي والإشتراكي على السواء ـ المصالح التي تنتسب إلى حقيقة الإنسان إلى طبيعته، وتلك التي لا تشكل إلا هوامش وعوائق ونفايات في طريق تقدمه وتحقق إنسانيته ومؤسساته …
إن الحياة تنقية واختيار واختبار ، ثم تجاوز واستدامة … فما هو الذي يجب أن نختاره ، وما هو الذي يتوجب أن نودعه سلة مهملات التاريخ …
تواجهنا ولا شك، على الصعيد العربي مشاكل عديدة ، وقضايا معقدة وصعبة ، وأهمها الخروج بالقضية الفلسطينية بحل يرضي الضمير، ويتوافر فيه حق تقرير المصير، واستعادة الأرض العربية والفلسطينية كلها …
والوضع القائم يختلف اليوم، بشكل أساسي، مع الوضع السابق لحرب تشرين … فقد انقلبت إلى حد كبير المقاييس المعنوية، وأظهر العرب في مصر وفي سوريا قدرتهم على الصمود وكفاءتهم في القتال ومكنتهم من التقدم والتحرير، إذا توفر لهم السلاح الضروري لأجل ذلك، وإذا كان لهم المال الوافر لأجل تمويل المعركة، ولأجل دعمها إقتصادياً …
وإننا نرجو، بالنسبة للسلاح، أن تعود فتتوثق العلاقات بين مصر والاتحاد السوفياتي، وأن تتوطد الصداقة والتعاون، كما كانت عليه في عهد الرئيس الخالد جمال عبد الناصر، لكي يحصل العرب على كل ما يحتاجونه من عون وعتاد بما يتفوقون به كلياً على إسرائيل، فتفتح أمامهم مجالات التحرير الواسعة لجميع أرضهم المغتصبة سنة 1967 وسنة 1948 …
فالظروف قد تغيرت كثيراً في مدى سنة ونيف من التاريخ، إذ خرج العرب، في الشق المتعلق ببلدان النفط، كأقوى قوة مالية في العالم، من حيث المال المتجمع والفائض الذي سيبلغ هذه السنة ما لا يقل ــ مـالاً فائضـاً عن الحاجـات وعن التنمية فحسب ــ أكثر من خمس وأربعين ملياراً من الدولارات . كما يتوقع الخبراء أن يبلغ مجموع المال العربي المتراكم والفائض حتى سنة 1980 الستماية ملياراً من الدولارات …
لقد أضحى للعرب طاقة يستطيعون بها، ليس فقط أن يحرروا إسرائيل واحدة، بل ربما ثلاثة دول في قوة إسرائيل ..
فالمقاييس قد تبدلت منذ حرب تشرين، فيجب أن يدرك العرب طاقتهم الهائلة، وأن يستوعب حكام النفط مسؤوليتهم التاريخية التي تتوجب عليهم في دعم المجهود العربي كلياً، وفي إعانة وعون العالم الثالث، وفي إقراض أوروبا والإتحاد السوفياتي ما يحتاجونه، لأجل التنمية المستمرة، من مال، ولرفع الإرتهان الصهيوني عن وسائل الإعلام العالمية وخاصة في الولايات المتحدة وفي أوروبا .
ولنقف صامدين، غير عابئين، ولا مكترثين في وجه التهديدات الإميركية باحتلال منابع النفط، لأن جميع هذه التهديدات هي عناوين سياسية لا أكثر … ولنسلك سياسية العون المادي للعالم الثالث ولأوروبا فوراً، لكي نعزل الولايات المتحدة عن العالم كله . فلتكن لنا سياسة كبيرة وعلى قدر حجمنا الحقيقي ولو مرة واحدة …
فالمطلوب، بالنسبة لدول المجابهة، هو إعطاء مصر وسوريا ما لا يقل عن عشرة مليارات من الدولارات، في مقابل وفي موازنة الخمس مليارات تقريباً التي تتألف منها موازنة إسرائيل هذه السنة والخمسة مليارات أخرى للقرض الأميركي الطويل المدى .
والمطلوب، بالنسبة للعالم الثالث، توفير مبلغ معادل أي عشرة مليارات أيضاً للهبات والإعانات المجانية، ومصرف عربي كبير للإقراض الدولي، يتجاوز، في حجمه ومكناته، المصرف الدولي العالمي.
والمطلوب، هو تمكين دول العالم الثالث ــ في افريقيا وآسيا بشكل خاص، الدول الفقيرة والنامية ــ من استرداد نصف ثمن مشتريات النفط … وإذا ما قسنا ذلك على مداخيل سنة 1974 المقدرة للعائدات النفطية، لا تبلغ صادرات النفط العربي لدول العالم الثالث النامية أكثر من 9.3 بالماية من مجموع الصادرات العربية، أي ما يوازي الست مليارات من الدولارات، من مجموع الـ 64 ملياراً من الدولارات المقدر للعائدات النفطية العربية .
ويجب أخيراً لا آخراً تخصيص مليار من الدولارات لرفع الإرتهان الصهيوني والسيطرة الصهيونية عن الاعلام الأوروبي والاميركي .. وإذاك تسقط الضغوط، التي تتعرض إليها جميع دول العالم تقريباً، من الصهيونية الدولية، ويقف تيار الهجرة من جميع الأقطار إلى إسرائيل، هذه الهجرة التي تشكل باستمرارها عبئاً ثقيلاً على العرب وعلى الفلسطينيين .
وإذا ما فكرنا بالعلاقات السوفياتية الأميركية في بعض الشؤون المتعلقة بتنمية المساحات الهائلة السيبرية، نرى أن ما يحتاجه الإتحاد السوفياتي لأجل تحقيق هذه التنمية لا يتجاوز الست مليارات من الدولارات، وأن هذا المال متوفر لدى دول النفط، فلماذا لا تقدمه قرضاً للدولة الكبرى الصديقة التي كادت تكون السند الوحيد ــ وعملياً السند الوحيد ــ للعرب أبَّان محنتهم ونكبتهم باسرائيل .
ولماذا لا يتعاون العرب والاتحاد السوفياتي من الوجهة التقنية في استنبات محاصيل الحبوب الزراعية في السودان، وفي المساحات الواسعة القابلة للزراعة في العالم العربي، فيسهم العرب في مد العالم بما أسميه ” النفط الأصفر “، ــ وتبلغ مساحة السودان الزراعية أو القابلة للزراعة ضعفي ونصف مساحة فرنسا ــ فنلبي بذلك حاجة نصف دول العالم العربي للحبوب، وحاجة الدول الإشتراكية كلها للحبوب، ونشترك في تخفيف عبء الحرمان والجوع عن العالم الثالث . ألا يدرك حكام دول النفط العربي أن مئات الألوف يموتون هذه السنة من الجوع، وأن عدداً من الملايين الآخرين يتضورون جوعاً ؟ . وتدل تقارير الأمم المتحدة أن ملياراً من البشر سيلقون حتفهم حتى سنة 1992 نتيجة لحرمان لقمة الغذاء . ألا تتوجب الزكاة لهؤلاء، ألا يتوجب العون، ألا تتوجب النصرة باسم الإسلام، باسم المسيحية، باسم البرهمانية والبوذية، باسم كل دين، باسم حق مشاركة الإنسان لأخيه على وجه الأرض .
فلنناضل جميعنا لأجل تحقيق هذه المطالب التي يفرضها الواقع العربي المعاصر ويقضي بها الواجب ؟.
فلنناضل جميعنا لأجل إستعادة كامل الأرض العربية والوطن الفلسطيني السليب كله …
فلنناضل جميعاً لأجل الوحدة العربية الفيدرالية التي تضمن توزيع الموارد والطاقات وتمكن من وضع وتنفيذ خطة عامة لاستخدامها على الصعيد العربي، وعلى الصعيد الدولي .
فلنناضل لأجل توطيد الصداقة العربية السوفياتية، والصداقة والتعاون مع شعوب ودول العالم الثالث .
أما بالنسبة للمشاكل التي تعترض توجهاتنا، وتطرح نفسها على الصعيد النظري والعملي فلا بدَّ أنها اختلفت عما كانت عليه منذ خمسين سنة … وتطوير العقيدة الاشتراكية الماركسية أصبح متوجباً لاستيعاب هذه القضايا الجديدة . ولا أجد بدّاً من الإشارة إلى ذلك لماماً لكي ندرك جميعاً التبدلات التي طرأت ولكي نستطيع الرد عليها .
إننا نواجه في عصرنا المتقدم، وفي مرحلة تسارع نمو الإقتصاد والعلم والتطبيق التقني والمواصلات والثقافة، وتواجه الحركات الإشتراكية والدول الإشتراكية، بل الإنسان في معناه الواسع، تحدياً لم نطلع على مثيله عبر تاريخ البشرية كله، ويتشخص بألوان من الرفض، غير الرفض الناجم عن الصراع الطبقي، يتوجب علينا الجواب عليها :
أولاً : هل نقبل بإقتصاد حضـارة الإسـتهلاك لأجل الاستهلاك ــ أية كانت نوعية الأنظمة ــ أم سنرفضها ؟ إن هذا التساؤل لم يطرح نفسه على الماركسيين في القرن التاسع عشر، أو في بداية القرن العشرين ؟
ثانياً : كيف يكـون الرد الموافق على ما كان يعنيه ابن خلدون بظاهرة تضاد الأجيال البشرية ــ الأبن والوالد، الأجيال القديمة والجديدة ــ وأثر ذلك في المجتمع ونعني مشاكل الشباب المعاصر ومظاهر رفضهم ؟
ثالثاً : كيف يكون الحل لظاهرة الرفض التي يشعر بها سكان المدن وما تثيره في نفوسهم من نفـور وتشـتت ومن حساسيات فردية وجمـاهيرية، ومن أمراض جسدية ونفسية ؟
رابعاً : كيف سيرد الإنسان المعاصر، والحكم الإشتراكي على استمرار إستخدام الآلة للإنسان واستعبادها إياه في أبشع صور للإرتهان شرحها وسبق أن ندد بها، بعد تصويرها لنا، كارل ماركس وسواه من علماء الإقتصاد ؟
خامساً : كيف سيكون ردنا على الفئات الإجتماعية الجديدة التي تولدت من هذا الرفض وفي طليعتها الطلاب والمثقفين وتلك الفئات التي انبثقت من نمو مجتمع وإقتصاد الخدمات والخبرة العلمية المتقدمة ؟
سادساً : كيف سيكون الرد على تفشي السلاح النووي والسلاح الجرثومي والتلاعب العلمي بالخلايا الوراثية لبعض الحشرات التي فضح أخطاره أخيراً بعض كبار العلماء ؟
سابعاً : كيف سيرد الإنسان المعاصر على التقدم التقني، وملابساته وأخطاره، أم سيحاول إيقاف هذا التقدم، ويضع حداً لإيمانه بهذا الصنم ؟
ثامناً : كيف ســـنحل مشـكلة الحريـة التي تطرح نفسها بأشـكال مختلفة في العالم الإشتراكي وفي العالم الديمقراطي الغربي لكي يبرز نظام الحكم السياسي الجديد بكل مكناته التحررية ولكي يتلاءم مع الإشتراكية ويرفع الإرتهان عن حقوق الفرد والجماعة ؟
تاسعاً : ما هو مصير التضامن الإفريقي الآسيوي ومصير العالم الثالث، في منطق ملابسات المنتصف الأول من النصف الأخير للقرن العشرين ؟.
عاشراً : ما هو شكل الحكم السياسي الديمقراطي الذي يجب أن تتميز به وتحاول تحقيقه الأنظمة الإشتراكية في المقبل من هذا الجيل لكي تتحرر من بروقراطية وتستطيع باستمرار إبراز النخبة؟.
إحدى عشر: كيف نجعل الحضارة أقل تعقيداً وأكثر عفوية وبساطة، وأقرب من الطبقية، وأوفق للوظائف التكييفية للإنسان ــ الجسدية والنفسية ــ؟
إثنا عشر : ما هو مصير الإنسان المعاصر في ضوء العلم الحديث وهل يمكن ترقيته وتبديله،أم أننا سنظل، كما يرشدنا إلى ذلك العلماء، نواجه الإنسان ذاته، الذي لم يتغير أبداً عبر التاريخ، وعلينا إذن أن نحتاط للأمر في خلق المحيط المتوافق والبيئة الملائمة لهذا الإنسان ولطبيعته ؟.
ثالث عشر : ما هو ردنا الملائم، والشامل في تطبيقه، على مشكلة التلوث التي أضحت الخطر الأكبر على حياة الإنسان، وعلى بقائه واستمراره على وجه الأرض؟ وهل سنخلق جهازاً دولياً للرد على هذه المشكلة الخطيرة التي تهددنا ؟
رابع عشر: ما هو ردنا على مشكلة تكاثر السكان، التي أصبحت أيضاً خطر العالم المداهم، وقد انقضى عصر المجادلة في صحة أو عدم صحة نظريات مالتوس الشهيرة، وأثبت الواقع أنه كان على حق ؟ إذْ المهم هو التوفيق بين الموارد الطبيعية للغذاء وحاجة الإنسان، لا ابتكار الموارد الإصطناعية ــ بما فيها منتوجات النفط ومنتوجات الأسمدة الكيماوية ــ الذي أثبت الطب المعاصر خطرها على حياة جسد الإنسان!
خامس عشر: كيف سنعالج قضية التغذية على نطاق عالمي، ومئات الملايين لا يزالون يتضورون جوعاً، وهل سنعمد إلى إنشاء وكالة عالمية للزراعة تعنى مباشرة بهذا الشأن كما يقترح علينا ذلك المؤرخ طوينبي وذلك قبل فوات الآوان ؟
سادس عشر: كيف سنعالج مشكلة ضرورة تحقيق الدولة العالمية التي تفترضها المشاكل العالمية المطروحة، والتي لها شمول عالمي ؟
سابع عشر: كيف يكون الرد على مـوجة الرفـض المتزايد للإلتزام الإجتماعي والقومي؟ وهل يمكن للإنسان، في مجـال إستقامة حيـاته وتصويب تصـرفه واستقطاب ذهنيته وتوحيـدها ، أن يعيـش بدون مثل هـذا الإلـتزام الإجتمـاعي والقـومي والأخلاقي ..؟.
ثامن عشر: هل سنكتفي باقتصاد الكفاية والعدل ـ أي توفير الغذاء والثياب والمسكن للمواطن ـ أم سنعتمد الطريق الخطر والمسلك الوعر في زيادة دخل الفرد المستمر وفي زيادة طاقته الإستهلاكية بتصاعد مثابر، فيغرق هذا الإنسان في الترف وفي البحبوحة وفي الكسل . وينجم عن ذلك ــ كما رأينا سـابقاً في التـاريخ ــ إنحلال العنصر البشـري وخاصة بـين سـكان المدينة، وانتشار الفـوضى الفـرديـة والإجرام والأمراض ، وإنقراض الحضـارة ؟ .
تاسع عشر: كيف سنرد على سياسة التبذير الإستهلاكية للمعادن، للموارد، للطاقات، كما كان يجري ولا يزال بدون حسبان، وهي كلها محدودة محصورة، ولا يفيد أبداً تبذيرها ؟.
عشرين : كيف سنواجه العلم الحديث في إستيعاب تقريره بأن العائلة والمجتمع والقومية والنظام الأخلاقي والدين، هي ثوابت تاريخية ومفاهيم نفسية واجتماعية يفرزها كل إجتماعي بشري متقدم..؟
واحد وعشرين: كيف سنستوجب، في عقيدتنا الفلسفية والإجتماعية، التقرير المذهل لعلماء أميركا وأوروبا والاتـحاد السوفياتي بأن المعرفة، أي الوعي، كانت في صميم التكوين والإبداع تواكبه وتقوده وتلازمه، وكأن الآية الشهيرة ” في البدء كان العقل وبه أبدع كل شيء” أصبحت حقيقة علمية ثابتة ؟
هذه أسئلة عديدة ودقيقة وخطيرة تطرح نفسها علينا، وتلاحقنا إلى أي نظام انتسبنا، لأن الآلة قد فرضت نفسها وتقنيتها واقتصادها الموحد على جميع الأنظمة ..
فلنناضل جميعاً لحل هذه المعضلات .
وفقكم الله، وسدد خطانا جميعاً، وجعلنا أقرب من الواقع باستمرار قرب النظرية التي اتخذت لها من الواقع إنطلاقاً وارتكازاً ومحكاً وعودة دائمة …
وفي النهاية إن العقيدة الصحيحة العلمية يجب أن لا تتحول في أي حال إلى تمذهب، أو تحزب، أو عقدة في النفس أو تركيب إنفعالي في نطاق العاطفية … بل هي تجربة مستمرة وعودة دائمة إلى حقيقة الإنسان وإلى الواقع، وإلى إستياغة هذه الحقيقة وتحليل العلاقات التي تربط الإنسان بالمحيط، وتوفير البيئة الموافقة للإنسان ــ جسداً وحساً ونفساً ــ …
الماركسية هي نهج في التحليل والتفكير أكثر مما هي إلتزام في التعبير … ولذا توجب تطوير واستكمال الماركسية ذاتها … ألم يقـل ماركس :
” الإنسان أضخم وأثمن رأسمال في العالم “

مواضيع للمعلم كمال جنبلاط