مواسم التفاح بين الحاضر والماضي… قصة عزّ وقهر!

محمود الأحمدية

في منتصف الستينات كنّا نملك جنينة للأشجار المثمرة والموسم الرئيسي فيها كان موسم التفاح… كان إنتاجها السنوي حوالي الألف صندوقة وزن كلٍّ مها حوالي العشرين كيلوغراماً وكان مصيرها الضامن أي الشاري إلى البرادات أو المرفأ تهيئة لتصديرها للخارج…

أتذكّر أيامها بمناسبة أسبوع القطاف كنّا نتهيأ له قبل عدّة أسابيع وأثناءه كان عدد اللذين يقطفون يتعدّى العشرة أشخاص وكان في يد كل شخص ورقة كرتون تتوسطها دائرة مثقوبة تجسد القطر الأصغر الذي يجب أن تتميز به التفاحة ومن غير المقبول عند الضامن أن تدخل التفاحة في هذه الدائرة…

أتذكّر جيّداً وبعد انتهاء موسم القطاف كنّا نتحلّق حول الوالد وكلٌّ منّا يمني النفس بمبلغ يمثّل (خرجيتنا) حسب التعبير الجبلي أو المصروف الذي كان يكفي جيبتنا عدّة أسابيع… وكان التفاح ملكاً بين ثمار الفاكهة وكان يقال: يا عمي فارس سلمان مين قدّو؟؟!! أي اسم الوالد مع الجد وهو التعبير الدارج في القرى عند تسمية أحدهم…

المفارقة الأساسية أن سعر البيع في قلب الجنينة لا يقل عن سعر بيعه في السوق عن 35 بالمئة أي التاجر الضامن سيضع ضمن هذا الربح كل مصاريفه ومن ضمنها البراد قبل البيع إذا لم يتيسَّر البيع بسرعة…

المضحك المبكي والذي أجبرني على كتابة مقالتي الحالية بعدما كنت مصمّماً على كتابة موضوع آخر سأكتبه الأسبوع المقبل، هو ومنذ يومين تفاجأت بابني يأتي إلينا بصندوقتين من التفاح الأحمر الغامق ذات الحجم الكبير ويسمّى في كندا كنوعية Double Red وكانت ددهشتي الكبيرة عندما علمت بأن ثمن الصندوقتين عشرة آلاف ليرة لبنانية لوزن يتجاوز الـ 40 كلغ أي ثمن الكيلوغرام الواحد حوالي 250 ليرة لبنانية… وهو نفس نوعية التفاح في السوبرماركت الذي يباع بـ 4000 ليرة لبنانية للكيلوغرام الواحد! وأنا أعني ما أقوله بالأرقام ودهشت أكثر عندما شرح لي ابني كيف أن صاحب الجنينة قطف التفاح مباشرة ووضعها في الصندوقتين والعرق يتصبّب من جبهته وقال حرفياً لإبني: يا ابني ما تتعجب أحسن نبيع الصندوقة بـ 5000 ليرة لبنانية ولا أنه تهر على الأرض ولا تجد من يشتريها!!

c12-n2

انطلاقاً من هذه الرواية الشخصية التي حدثت معنا والتي عانينا من واقعها وأبعادها أكثر من الشعور بالسعادة ولذة الطعم…

وهنا السؤال الذي يطرح نفسه وعلى مدى عمر استقلال الوطن منذ عام 1943 كان للتفاح اللبناني سمعة عالمية وفي مصر بالذات كان للتفاح اللبناني قيمة واعتداد به عند العائلات التي كانت تشتريه… التفاح والزراعة في لبنان توأمان… قصة عشق قديمة… قصة نجاح قديمة… قصة سمعة وصيت قديمة…

ليس من باب المزايدة ولا من باب الانتقاد في سبيل الانتقاد ولكن أي الخطط الاستباقية لتأمين تصدير التفاح… وأين الحفاظ على المزارع اللبناني وهل يعقل أن يرتقي سعر البيع من حديقة المزارع إلى السوبرماركت ستة عشر ضعفاً مما يشكل شراهة وبطراً وتيهاناً وسيباناً لا مثيل له… أثناء لقاء كفرذبيان الأخير وعندما اجتمع مزارعو التفاح للمناقشة في مصير موسمهم قال أحدهم حرفياً: موسمي يعادل حوالي خمسة عشر ألف صندوق تفاح ولا أملك ثمن الصناديق الفارغة وإذا اقترضت ووضعتها في البراد ما هو الضمان لي لبيعها ودفع ثمن تبريدها؟؟

المأساة كبيرة والواقع يحتاج همماً وتحمل مسؤولية وإلا سيأتي يوم وتتغير فيه كل المقاييس والناس بين الحيطان الأربعة تعيش كبرميل بارود ينتظر أول ولعة… ولن ينفع بعدها كل التنظير ولا “التوك شو” السياسي ولا تفشيخات البعض… أقول ذلك بأمانة ورياحة ضمير ولن أزيد!.

(*) رئيس جمعية طبيعة بلا حدود

(**) عضو اللجنة البيئية في نقابة المهندسين في بيروت

اقرأ أيضاً بقلم محمود الأحمدية

القلم الحر والانتصار في زمن القهر

عصام أبو زكي… الرجل الأسطورة… بطل من بلادي

انسحاب واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ ونتائجه الكارثية

في الذكرى 43 معلومات جديدة مذهلة عن عالمية فريد الأطرش

كمال جنبلاط البيئي: سابق لعصره

من كمال جنبلاط إلى الربيع الصامت إلى فرنسا

مَنْ أَحقّ من فريد الأطرش بنيل جائزة نوبل للفنون

كمال جنبلاط البيئي سابق لعصره

كيف لوطن أن يشمخ وفيه كل هذا العهر في مسلسلاته

حرش بيروت تحت رحمة اليباس… والتاريخ لن يرحم

مصنع الإسمنت في عين داره ونتائجه الكارثية على البيئة والإنسان

كمال جنبلاط البيئي  وثقافة المواطن الحر والشعب السعيد

أولمبياد الريو والحضارة وعرب ما قبل التاريخ

مصنع الإسمنت في عين دارة: جريمة بيئية موصوفة

هل أحسنت؟ هل أخطأت؟ لا أعرف!!

حكايتي مع كرة القدم وفريق ليستر الانكليزي الذي هز اعتى الامبراطوريات

شكراً مسيو هولاند… أعطيتنا درساً في الحضارة والأخلاق!

غسان سلامة و”اليونسكو” وزواريب السياسة اللبنانية!

أنا علماني ولكني لي ملاحظاتي!

الدلع السياسي … إن لم نقل أكثر!!