الجرّاح اللبناني الدكتور برنار / بقلم كمال جنبلاط

يعلّق اللبنانيون- هذا القسم من اللبنانيين الذين لا يزالون ينخدعون بالأنظمة البرلمانية القائمة- أهميّة على الاستشارات التي تقوم بشأن تأليف حكومة جديدة. قبل أن يتلهّى الناس، معظم الناس، في عمليّات الانتخابات، فيتحمّسون بسبب تناقضاتهم العائلية والحزبية، فترة من الزمن، ليأتوا إلى المجلس من جديد بمعظم الوجوه النخرة، البالية، التي كانت ولا تزال السبب المباشر في انحطاط النظام البرلماني، وفي تدهور الأسس الديمقراطية الرئيسة للحكم.

ويجب الاعتراف أنّ النظام الديمقراطي واجه في السنوات الأخيرة، وفي هذا العهد بالذات، نكسة بليغة تعود إلى أنظمة التمثيل الانتخابي نفسها، التي لا تبرز النخبة، صاحبة الكفاءات المعنوية والعلمية والإدارية، الضرورية لممارسة سلطة التشريع وصلاحية الأحكام.

فبعد أن تطرّقنا في الأسبوع السابق إلى ضرورة إصلاح نظام الإعلام الشامل للصحف وللإذاعة، وللتلفزيون، والذي في حالته الحالية، يسهم إلى حدّ كبير في تشويش الأفكار، وتضليل الاتّجاهات الشعبية، وفي إفساد الضمائر والقلوب، نرى بوضوح كلّي أنّ الإصلاح الآخر يجب أن يتناول أنظمة التمثيل والدستور، فالتزوير قائم في الحقيقة في نظام التمثيل الذي يشوّه نتائج كلّ اقتراع نيابي، ويجعل لكبار الرأسماليين حصّة في كلّ قائمة- نظراً لكلفة النقليّات الانتخابية المتفاقمة سنة بعد سنة- فيفرّقون السيطرة الرأسمالية الاحتكارية على قسم كبير من المجلس النيابي، وعلى الحكومة وبالتالي على الدولة بأسرها.

فإذا بالحكم يصبح في لبنان صراعاً بين هذه الفئة من الرأسماليين، وتلك الفئة تتجاذب التشريع وتتنافس على التأثير في حكم البلاد، فنشهد هذا الجمود المروّع في مبادرة الدولة في حقل الإصلاح الاجتماعي، والتنظيم الاقتصادي، فتظلّ البلاد متأخّرة تأخّراً هائلاً من حيث ذهنية الحكم العامّة والتخطيط ونشهد مآسٍ في المجلس النيابي، وفي مستوى الحكم من امتداد شبق المال، يخجل كلّ مواطن أن يكون في بلاده، أو أيّ بلاد أخرى، شيء من ذلك.

فقصص بعض اللجان البرلمانية وارتباط وجهات نظرها، والتصويت فيها ببعض المؤثّرات الرأسمالية والمالية أصبحت معروفة، وكذلك خضوع هذا الرئيس للحكومة أو ذاك، أو هذا الوزير أو ذلك، لفئة معيّنة من الرأسماليين المحتكرين، يفعل ما تريده هذه الفئة، ثمّ تعود هذه الفئة فتمدّه بالعون الانتخابي مادّة وأصواتاً.

وهكذا، ومن فعل السياسيين- بعض السياسيين أنفسهم في مستوى النيابة والحكم- ينتشر الفساد في الإدارة اللبنانية، ولا يلبث هذا الفساد أن يصبح حلقة مفرغة من الرشوة والارتشاء بين المواطن العادي والإدارة، وبين بعض أرباب المال والاقتصاد والنائب والوزير.

ممّا لا شك فيه، أنّ العهد الشمعوني بلغ قمّة في ممارسة هذا الانصياع للفئات الاحتكارية والمالية في البلاد، وللاشتراك في أعمالها وأرباحها، حتّى أضحى القصر الجمهوري ذاته، تنطلق منه الزبائن والسماسرة قبل توقبع مراسيم القوانين، أو قرارات تأسيس الشركات لكي تضمن لصاحبه وأعوانه مبلغاً محترماً من المال، أو حصّة من أسهم الشركة مجانية، قبل توقيع المرسوم أو إصدار القرار.

في هذا الواقع المرير الذي نعيشه، وفي هذه الدوّامة التي لم يتجرّأ بعد الرئيس شارل حلو على ضربها والنفاذ بسلطة الحكم من تطويقها وسيطرتها، ترتدي الاستشارات، لتأليف الحكومة العتيدة، طابعاً من المضحك المؤسف، وهكذا الانتخابات النيابية المقبلة، واهتمام الناس أنفسهم البالغ بنتيجة ذلك عليهم وعلى بلادهم.

هذا الذي يجب أن تقوم به الحكومة المقبلة علينا، إذا شاء رئيس الجمهورية أن يفي بوعده للّبنانيين في ضمان حريّة الانتخابات، واقعاً وفعلاً، أي أن يباشر إصلاح النظام الانتخابي، بما في ذلك بعض مواد الدستور المتعلّقة بهذا الإصلاح.

أمّا أن نظلّ نتسلّى على طريقة الجرّاح الشهير الدكتور “برنار”، بأن نلصق رأساً من داخل المجلس على جسد وزاري من خارج المجلس، ثمّ نأتي في أوج البراعة والفنّ، برأس من خارج المجلس النيابي، فنلصقه بجسد من داخل المجلس- وقد يأتي زمن من التفوّق والبراعة في الجراحة بحيث نستطيع مثلاً أن نلصق رأسين في آنٍ واحد على جسد حكومة واحدة- فقد نستطيع بفضل ذلك أن نربح في لبنان جائزة “نوبل” في فنّ جراحة نقل الرؤوس وتطعيمها على الأبدان الغربية، لسبقنا جميع الجرّاحين في إنجاح هذه العمليّات وقبل الدكتور برنار ذاته. ولكن قد يأتي يوم يصبح فيه الرأس وحده دون جسد أو كما هو معظم الأحيان واقع الحال، يظلّ فيه حكم البلاد جسداً دون رأس.

*الأنباء 10\2\1968