التسوية وحدها طريق الخلاص

د. محمود صافي

لا يمكن للوطنيين اللبنانيين الأحرار الواعين والمدركين أن يبقوا واقفين مكتوفي الأيدي، مطبقين الفم، أمام ما يجري في وطنهم من صراع لا طائل منه ولا فائدة سوى الخراب، كونه صراعًا يفتقد إلى أسس قواعد الحوار المبنية على المنطق الإنساني والوطني البحت. ولقد غاب عن أذهان أولئك الذين يدّعون بأنهم رجال دولة وحكم، بأنَّ الشعب الذي عانى ما عاناه طوال سنين الحرب المؤلمة بات قادرًا على التمييز بين الرجال الرجال، والرجال الأقزام، الذين لا همَّ لهم سوى اقتناص الفرص من أجل تحقيق مآربهم الشخصية التي يحلمون بأنها ستوصلهم إلى شاطئ الأمان والاستقرار؛ فيعملون على استدرار خيرات الدولة ليحافظوا على بقائهم المهزوز ردحًا من الزمن؛ وعندما يحين الوقت سوف يقولون كلمتهم، وسيؤدّون دورهم الملتزم باختيار ممثّليهم الذين يعّبرون عن آمالهم وأمانيهم بالوحدة والاستقرار والحرّية والتعالي فوق الانقسامات المذهبية.

وبما أنّنا موجودون على الساحة السياسية، في هذا الوطن الذي أصبح لا شكل له ولا لون سوى التزمّت والتقوقع، أيّ متى يحين لنا الوقت لنعمل بجهد لكي نحقق الانتصار على ذواتنا، ونصل إلى ما نرتجيه للأجيال من إعلاء صوت الحقّ والحرّية والعدالة والمساواة. نقول هذا ونحن على يقين بأن للشعب حاجاته المتعدّدة والمتنوّعة، والتي يصعب الوصول إلى تحقيقها بمعزل عن وحدة التعاون والاتّحاد، التي تحقّق غاية النهوض وتعمل على تأمين الرفاهية والسلام لأبنائه.

leb_ta2ifiya
وعليه، فإن كلّ إنسان يخوض هذا الخضم مدعو إلى أن يدنو من أخيه في المواطنية بروح المحبة والتفاهم لكي ندحض الأهداف الموتورة للذين تألّبوا على الشعب وما زالوا، وعملوا على تقسيمه وإذكاء نار التفرقة بين صفوفه تحت ستار من الشعارات التي لا روح لها ولا جسد، فتركوه في ما مضى مرميًا بجسدٍ مثخنٍ بجراح الحرب والويلات والألم، يعيش الفساد من حوله الآمال نوائب، والأمنيات صفعة زمن بقيادة رجال لا يعرفون معنى الإنسانية، ولا يعرفون أنَّ الفقير في وطنه غريب.

أما اليوم، فها نحن نرى غبار الماضي الذي تلبّد سماء لبنان وعقول أبنائه، بعد أن راعنا ما رأينا من واقع مؤلم يضجّ بأصوات التجزئة والانحلال حتى الاضمحلال، فكلّ ما سعت هذه الفئة اللاطائفية بكلّ ما من قوة لرفض الطائفية السياسية والعصبية الدينية والمذهبية البغيضة لنزعها من أذهاننا التي طالما ترسّخت فيها؛ وسواء أكانت هذه العصبيات قد أصلحت أم أفسدت في الماضي، غير أننا نرى أن لا مبرّر لوجودها اليوم ونحن في قمّة إدراكنا للوعي الوطني ولضرورة استقلال السياسة والخروج من كل الشوائب التي تحيق بماكيناتنا السياسية السليمة، والتي تتمثّل بالشعور بالمسؤولية الوطنية المنبثقة من المفهوم الوطني الحرّ المتجسّد في تاريخ الشعوب الحضارية والروابط المشتركة النابعة من وحدة تكوين الشعب بتشعّباته كافة، وذلك انطلاقًا من إيمانها المطلق بطاقاته الفكرية والإنسانية الضخمة التي مكّنته من أن يحتل مكانة مرموقة عبر الدول.

وفي هذه الفترة الهامة التي نعيشها من تاريخنا، وأمام استحقاق كبير لتحديد إمكانياتنا كشعب له حقوق ومتطلبات وهوية، المطلوب إعلاء الصوت الهاتف بالحوار وتكثيفه واعتباره غاية إنسانية وطنية وحدوية متآلفة من أجل صون كرامة الإنسان. فعلى المواطن أن يختار طريق النضال من أجل الحرية، بإرساء القواعد الديمقراطية لرفع القيود من أي جهة أتت، تحقيقًا لأقصى ما يمكن من التضحية لتصويب الحكم وآليته ووضعه على الطريق القويم الذي يعيد الهيبة للدولة والكرامة للشعب. ولكن هل يتحقّق كلّ هذا في عدم وجود رأس للوطن؟!

الحوار
إنَّ طريق الحوار يعبّد بالتفاهم بمنطوق الكلمة الحرّة الصادقة التي تسمّي الأشياء بأسمائها والأعمال بأهدافها ومراميها. فمتى أطعمت الوعود جائعًا؟ ومتى أفلحت في تحويل البؤس إلى سلسبيل نِعَم؟! من هنا، فعلى الشعب واجب ملح بأن يقف مجدّدًا أمام مسؤولياته الجسام ليعمل بصدقٍ وحزمٍ على تخطي حواجز البؤر الهدّامة التي تطل من هنا وهناك لتعبث بأمنه وإدراكه، لاصقةً بالبعض منه شتّى التهم المركبة الباطلة التي أخذت تطاول رمزًا من رموز الوطنية والعروبة الكبار، والذي رفع مع رفاق له وزملاء بيرق الدفاع عن حقوق هذا الشعب بكل فئاته، دون أن يتلكّأ يومًا في نضاله من أجل العروبة والحريّة والسيادة. وهو الذي جعل للقمة الإنسان خطًّا أحمر ولحقوقه صراعًا دائمًا لترسيخ حقوقه في بلد انبثقت منه الحروف والثقافة والحضارة والرّقي الإنساني. نقول هذا ونسأل: اين إنسان لبنان اليوم من إنسانه بالأمس؟ أين عامل الأمان الذي تسيجون به حياته؟ وأين درع المصداقيّة الذي تذوّدون به عن آماله وطموحاته؟! “ليس بالخبر وحده يحيا الإنسان” هكذا قال السيّد المسيح في تعاليمه. لأنّ الحياة صراع، لأنّ الحياة نضال، لأنّها انتصار للأقوياء في نفوسهم لا للضعفاء وإلاّ، فبئس العيش وبئس المصير في وطن أنهكته العنتريات.

من هنا فإنّ الحمل كبير والمسؤولية أعمق وأجلّ، ذلك أن هذا الشعب يعرف كل المعرفة أن القيمة الحقيقية لكل هذه المواقف الوطنية إنما تكمن دائمًا وأبدًا في محصلة المجد للوطن ولإنسانه، من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة تعطي كلّ ذي حقّ حقّه، ضمن مفهوم مقصده الأوحد التنوع ضمن الوحدة.

إنَّ هذا الطوق المفروض حول الكلمة وحرّية التعبير والتمثيل الذي، حال وسيحول مستقبلاً، دون الوصول إلى حلقة حوارية مرئية ومسموعة من شأنها أن تزيل “كابل التوتّر العالي “عن جو لبنان المكهّرب حاليًّا، عبر التصرفات الكيدية البعيدة عن الكياسة والأصول والعادات اللبنانية العريقة، والتي تنأى بالشعب عن غاية القصد والهدف، ألا وهي الإصلاح في مضامين الحياة السياسية والمعيشيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة. من هنا، نأمل أن يترك السياسيون الحاليون جانبًا سياستهم المتأرجحة، وأن ينسلّوا من قوقعة مفاهيمهم الضامنة للأمر المشروط سلفًا، وذلك قبل أن يؤذن بزوغ فجر النور الساطع بأنسام التغيير في هذا البلد الحبيب. أي متى سينقضّ عليهم الوحي الإلهي ليغسل قلوبهم، ويوقظ ضمائرهم؟

بكلّ محبّة وتواضع، أنحني أمام الذين يوحّدون ولا يفرّقون في هذا الوطن لا طائفيًّا ولا مذهبيًّا ولا مناطقيًّا، ولا عندهم نوايا مبيّتة على الإطلاق. هم يعملون على التسوية، ما أجمل التسوية! فالعقول النيّرة مصدرها الوعي، والضمائر الحيّة مصدرها الجمع لا التفرقة.