28 أيلول 1970: نهاية الحلم وبداية الإنهيار

علاء لؤي حسن

أنباء الشباب

“قتلناك.. يا آخر الأنبياء قتلناك..”. بهذه الكلمات المعبرة التي تعتصر آلام ملايين العرب، رثى الشاعر نزار قباني المارد الكبير جمال عبد الناصر الذي شكل غيابه في 28 أيلول 1970 إنطواء آخر صفحة من الحلم العربي، هذا الحلم الذي لاح في الأفق حقيقةً عاشها أباؤنا وأجدادنا قرابة ستة عشر عاماً.

كانت البداية مع الإصلاح الزراعي في مصر، الذي أظهر جدية ثورة يوليو في إعادة تشكيل مجتمعها وفي التزامها بالمبادئ التي أذاعتها منذ اليوم الأول لإنطلاقتها، تلاها إجلاء الإحتلال البريطاني عن مصر عام 1955 بعد أن جثم على صدرها 73 سنة وخلال عام صدر القرار التاريخي بتأميم قناة السويس وإندحار العدوان الثلاثي –البريطاني- الفرنسي – الإسرائيلي.

لكن ذروة الأنجاز القومي جاء في 22 شباط/ فبراير الوحدة المصرية السورية وقيام الجمهورية العربية المتحدة. ولن ننسى النهضة الصناعية والزراعية والتعليمية وغيرها من مناحي الحياة التي غدت بها مصر دولة أقليمية عظمى.

 لا شك أن هذا أقلق الأستعمار وأعوانه في المنطقة لا سيما بعد أن تصدرت مصر قيادة حركة التحرر العربي والإفريقي من الكونغو حتى الجزائر، ومن المغرب العربي حتى عدن جنوبي اليمن والتي كانت مستعمرة بريطانية آنذاك. ولهذا تأمر أولئك على هذه الوحدة الفتية حتى تمكنوا منها في مؤامرة الإنفصال يوم 28 أيلول سبتمبر عام 1961. غير أن ذلك لم يثنِ عزيمة عبد الناصر فاستمر في مسيرته حتى غدت مصر بحق “زعيمة الأمة العربية “.

وهذا ما ضاعف من حجم التأمر عليها فكانت هزيمة 1967 غير أن هذا القائد الذي لم تلن قناته يوماً إستمر في العمل ليعيد بناء القوات المسلحة المصرية فاصبحت بفضله اقوى وأكفأ بما أهلها فيما بعد لخوض معركة أكتوبر.

Golan_1967

لا شك بأن عبد الناصر ظاهرة فريدة ليس وحسب من حيث الرؤية والعزيمة والكاريزما، بل من حيث هذا السر الذي جعل الجماهير العربية تتعلق به من المحيط إلى الخليج. حتى وهو في عز هزيمته في صيف 1967 حيث خرجت الناس لتثنيه عن إستقالته مطالبة إياه بالعودة، هاتفةً “بالروح بالدم نفديك يا جمال، بالروح بالدم حنكمل المشوار” .

لقد قال عبد الناصر بعيد تلك الهزيمة “نحن خسرنا معركة ولم نخسر حرباً”، غير أن هذه المعادلة انقلبت بعد وفاته لنرى نكسة 67 تتحول إلى نكسات، والحاضر يغنينا عن الوصف!!.

لم يهدأ جمال عبد الناصر على مدى 16 عاما من “سنوات الجمر”، كان يخرج من معركة ليدخل معركة أخرى سواء في الداخل أو في الخارج. وكان عبء القرارات ومواجهة التحديات يتحملها وحده على ما قاله صديقه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، ولعله وضع يده على مكن الداء فيما كشفه فيما بعد من “أن الكثرة الكثيرة ممن حول عبد الناصر كانوا يضمرون العداء والتأمر عليه ويكظمون الغيظ بدليل ان الأجهزة ونظام الحكم برمته قد انقلب على ما كان جمال عبد الناصر يعمل لتحقيقه باستثناء بعض الرجال المخلصين ليعكس اتجاه الأحداث والمواقع.. فبجهود رموز ذلك النظام تحولت مصر من قاعة متقدمة لحركة التحرر العربي إلى قاعدة مضادة لها يرتع فيها الصهاينة وقوى الهيمنة الدولية”. غير أن ما سبق يحتاج إلى دراسة موضوعية ومتأنية كي نأخذ العبرة لا سيما وأن اعداء امتنا على قدر كبير من الخبث والذكاء.

681-1

 لقد مات عبد الناصر عن 52 سنة وهذا استوقف صديقه “شو إن لاي” رئيس وزراء الصين حيث إستغرب أن يموت رجل في هذا العمر ومع تطور الطب الحديث. ولكن هذا قد جاء “بحساب السنين”. أما بحساب الأحداث فقد عاش عبد الناصر ضعف هذا العمر بما حمل وتحمّل، إبتداءً من حصار الفالوجة في فلسطين 1948 إلى 28 سبتمبر 1970 الذي مارس خلالها على حد وصف هيكل “ضعف النشاط الإنساني الذي يمارسه الإنسان العادي”.

سيبقى عبد الناصر رمزاً ليس وحسب من حيث إنجازاته وإخلاصه وإنما ايضاً وأيضاً من حيث مناقبيته، وسلوكه الشخصي. لقد عاش الرجل عيشة بسيطة رفض اية امتيازات غير ما يستحقه رئيس الجمهورية من راتب شهري بموجب القانون.

رفض إعطاء أي أولوية لعائلته ولأبنائه، لا في المدارس أوالجامعات ولا في الوظيفة. كان ابناؤه يذهبون إلى مدارسهم أو جامعاتهم بسيارات الأجرة. أنب ابنه خالد لأنه استعمل إحدى سيارات الرئاسة للوصول إلى الجامعة ذات مرة، وكان يومها مضطراً حتى لا يتأخر على إحدى الإمتحانات.

 توفي عبد الناصر وزوجته لا تملك المنزل الذي كان يعيش فيه. لا شك بأن الرجل قد سلك في حياته مسلك الراشدين من الخلفاء عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب.

ما أبعد الأمس عن يومنا!!.. رحل عبد الناصر بعد تسع سنوات وفي ذات اليوم الذي هوت فيه الوحدة المصرية السورية ليخلف من بعده فراغاً لم يملأه احد، بل فراغاً استولد نكسات ابتداءً من ضرب الحركة الوطنية اللبنانية وإغتيال قائدها ورفيق دربة الشهيد كمال جنبلاط إلى نفي منظمة التحرير إلى كمب ديفيد واوسلو وعربه.

وأخيرا وليس آخراً حرب “داعش والغبراء” الجديدة، تستعيد فيها العروبة جاهليتها وقبليتها بلبوسات طائفية أو أثنية. حتى بات ينطبق عليها قول نزار قباني: تقاتلي تناثري يا قبائل العروبة يا نسخةً ثانيةً من سيرة الأندلس المغلوبة.

(*) ماجستير في الحقوق