الانهزامية الجديدة / بقلم كمال جنبلاط

من الأمور التي لم تعد موضوع مناقشة أو بحث، أنّ الثورة اللبنانية الأخيرة، أفعمت المواطن اللبناني بروح اليقظة والوطنية السليمة وأشعلت فيه روح الثقة بنفسه والإيمان ببلاده وبمصيره. فانتصر شعب لبنان عسكرياً وسياسياً على الرغم من توزّع القوى الثائرة وعدم رضوخ “الإخوان”، قادة هذه الانتفاضة المباركة، لقيادة واحدة أو توجيه واحد، وعلى الرغم من مجيء الأسطول السادس، والملابسات المؤسفة التي رافقت قيام العناصر الانعزالية في لبنان بتلك الحركة الصبيانية المصطنعة، التي لم تكن تتقدّم لولا وجود الأسطول السادس، والتشجيع الخفي الذي لاقته من جانب قوى الأمن، وعلى الرغم أيضاً من ذَرَّ قرن التزاحم على النفوذ والتخاصم والتحاسد الخفي والظاهر الذي ما لبث أن بدأ يظهر بين بعض رفاق الأمس المناضلين، وعلى الرغم أيضاً من عدم قبول سعينا الحثيث وإلحاحنا بتنظيم جبهة الإتّحاد، على الأقلّ على غرار المؤتمر الوطني السابق، أو على نمط بعض الهيئات الشعبية المناضلة في آسيا وفي الغرب.

على الرغم من جميع هذه الالتواءات والانحرافات والتقاعسات ومحاولات التفرقة ومظاهر التناقض، لا بدّ من الاعتراف- وقد اعترف بذلك كلّ مكابر- بأنّ ثورة لبنان انتصرت عسكرياً وانتصرت سياسياً في ذهنية الناس كافّة، في ذهنية اللبنانيين. وانتصرت في النهج السياسي الخارجي للدولة اللبنانية، على الرغم من استمرار بعض الانعزاليين.

وانتصرت هذه الثورة في الطريقة التي يواجه فيها العهد مشاكل الساعة وقضايا اللبنانيين، هذه الروحية التي لم تعد روحية الاستئثار وتفرقة ونكاية وتقوية لذهنية التعصّب، والانعزالية المريضة، هذا طبعاً في ما عدا “الرجل الغريب العجيب” الذي لا يزال يريد في الوزارة أن يكون عدواً للحزب الاشتراكي وعدواً للدروز وعدواً للمسلمين وعدواً للمسيحيين الوطنيين وعدواً للجميع، دون سبب، دون مبرّر كمن يحارب في هواجسه أشباح الليل، بل أًصبحت عموماً، ذهنية الحاكمين في الدولة- على نظرتهم الضيّقة للأمور أحياناً، واكتفائهم في العمل والتوجيه، هذا ضمن منطقته وهذا ضمن مذهبه أو حزبيّته- ذهنية الميثاق الوطني والوحدة الوطنية. لأنّه ما من أحد سوى بعض طيور البوم يريد أن تعود الأيّام الحالكة السوداء التي رافقت العهد الماضي والتي كانت تطيح بلبنان وبعروبته وبوحدة أبنائه.

على أنّ مثل هذا الانتصار الواقعي والمعنوي بقي علينا أن نجعله يتحقّق في صلب مؤسّساتنا من حكم وإدارة، وأن تقوم هيئة شعبية لتمثيل المبادىء الشريفة التي من أجلها ناضل شعب لبنان والتي بدأ العهد الحالي يحقّق بعض مضامينها في الإصلاح الداخلي والإداري.

فدون توجيه للقوى الشعبية والأهداف القريبة والبعيدة للنضال الإصلاحي الوطني، ستصاب الذهنية العامّة بنكسة وسيبرز تقلقل وتقاعس وإهمال وتراجع في تصرّف المسؤولين، ثمّ تبدأ الفكرة ذاتها بالتراجع أمام دسائس الخونة وتشويش دوائر الاستخبار ودعايات الانتهازيين وتصرّفاتهم، ويتعثّر الإصلاح ذاته، ونكون قد مهدّنا بأيدينا لأزمة جديدة خطيرة مقبلة. عوض أن يتّجه تفكيرنا وسعينا إلى مثل هذه المحاولة في حقل التجمّع الوطني وتخطيطه وتمثيله نرى أنّ بعضنا، وربّما الكثرة منّا، ينصرف إلى التقرّب من بعض الانعزاليين والتودّد للفكرة الانعزالية ذاتها، تحت ستار فكرة المصالحة الوطنية وسواها من الشعارات الخادعة والخاطئة.

والشطارة في رأي هؤلاء الإخوان وفي تصرّفهم هي في “مراضاة” أصحاب الفكرة الانعزالية واستعطافهم بشتّى أساليب التملّق- ولائم، تصريحات ودعايات وزيارات وصور تؤخذ لهم مشتركين ومتعانقين- إلى ما سوى ذلك من أساليب التقرّب والزلفى والتبخير، ناسين ومتناسين أنّ الشعب اللبناني الذي ناضل ولا يزال يناضل وراءهم، لم يتعوّد أن يساير على قضيته أحداً ولا يرضى أن ينحني بالتملّق أمام أحد.

هذه الانهزامية الجديدة التي توحي بها الانتهازية الجديدة التي توحي بها الانتهازية التقليدية- وبعد كلّ حركة شعبية تحاول هذه الانتهازية أن ترفع رأسها وأن تغطّي وتسيطر- هذه الانهزامية الجديدة التي توشك أن تكون كارثة معنوية لأنّها تشجّع نموّ الفكرة الانعزالية من جديد وتقوية هذه الفكرة.

لأنّ الخطر، كلّ الخطر، ليس هو التقرّب من بعض الانعزاليين، هؤلاء الذين يتوجّب علينا أن نفتح أعينهم ونزيل دعايات التضليل من نفوسهم، على قدر ما يكون الخطر من التودّد للفكرة الانعزالية الرجعية ذاتها التي هي في لبنان من رواسب أجيال الظلمات والتعصّب.

(*) الأنباء، 5\12\1959