الأسرى الفلسطينيون أطفالاً

د. قصي الحسين

في ظل ما آل إليه الربيع العربي لم يعد أمام الشعب الفلسطيني في أراضي 1948 أو في مخيمات اللجوء والشتات، إلا الحفاظ على الذاكرة الفلسطينية.

وفي ظل ما آل إليه الربيع العربي، لم يعد أمام إسرائيل إلاّ محو بل قتل بل أسر الذاكرة الفلسطينية. الذاكرة بما هي هوية وحياة وأدبيات. بما هي ملكة فردية، أو بما هي ظاهرة جمعية أو اجتماعية. لم يعد أمامنا إلاّ النضال من أجل التذاكر. بل من أجل الحفاظ على الذاكرة الوطنية المتصلة بالنضال التاريخي وبالثورة التاريخية، وبالماضي التاريخي. إنه الحفاظ على الذاكرة وصونها من عبث العابثين بها، ومن أيدي الغادرين بها شعباً وتاريخاً وأجيالاً.

ففي كتابه الموسوم “دلالة النهاية” يكتب الروائي البريطاني الحصيف: جوليان بارنز: “مع تضاؤل عدد الشهود على حياتك، تتضاءل إمكانية الإسناد. وبالتالي يتضاءل اليقين بالنسبة إلى ما أنت عليه أو ما كنت عليه”. وهو يعبر في إيجاز عن عارضية الذاتية. وما يلمح إليه، هو أن الزمن البيوغرافي، لا يتطابق تماماً مع الحقيقة البيوغرافية، لكنه يتطابق مع إعادة الإنشاء، على نحو تعددي، للماضي/ للزمن الذي يتكشف للناس.

طفل فلسطيني والاحتلال
وإسرائيل اليوم انتهت إلى الأخذ بهذه الحقيقة العلمية والاشتغال عليها، في ظل ما آل إليه الربيع الفلسطيني، وفي ظل ما آل إليها لاحقاً الربيع العربي. فبعد تطبيق سياسات القتل والتهجير والنفي والإبعاد للمناضلين الفلسطينيين، وبعد تطبيق سياسات جرف الأراضي وهدم الممتلكات وتهجير القرى والأحياء وبناء جدران الفصل العنصري، وتوسعة المستوطنات في أراضي السلطة الفلسطينية في الضفة والقطاع… وبعد الوقوف على المعابر وتضييقها في المكان والزمان على جميع الفلسطينيين والزائرين، ها هي اليوم تقدم على محو الذاكرة الفلسطينية، ليس بقتل واعتقال الشبان والفتيان والشيوخ والعجز والنساء معاً على حد سواء، بل استدارت لقتل وأسر الأطفال. ترمي بالرصاص الحي كل من يقف في وجهها. كل من يعاندها أو يهتز لها أو عليها، حتى ولو كان صبياً في الخامسة. إنها أدبيات النازية الجديدة. إنها قوانين النازية الجديدة. إنها سجون النازية الجديدة، التي بدأت الصهيونية الجديدة في بنائها وتوسعتها للشعب الفلسطيني، لا فرق إن كانوا صغاراً أم كباراً حتى لتكاد تضم حديثي الولادة.

ولم يعرف في التاريخ القديم والحديث، أن نظاماً أو دولة، أخذ على نفسه عهداً، لا في السر وإنما في العلانية، وأمام الرأي العام العالمي، أن يبيد ذاكرة شعب آخر، بعد أن عمل على إبادة هذا الشعب وباء بالخذلان. حتى النازيون القدماء لم يفعلوها. لم يرتكبوا هذه الحماقة التي لا توصف. وفعلها وارتكبها النازيون الجدد: الصهاينة الإسرائيليون، داخل أراضي فلسطين وخارجها.

والسؤال: لماذا التركيز على أسر وقتل واعتقال الأطفال الصغار اليوم، وعلى مرأى ومشهد من العالم أجمع. أليس لقتل الذاكرة الفلسطينية، باعتبارها أرشيفاً، تختزن فيه فلسطين كل فلسطين، بترابها وناسها ومقدساتها وتاريخها ومستقبلها وعلمها وعلمائها. وبحسب بروكماير، فإن الفهم الإسرائيلي بخاصة والغربي بعامة، سواء في الحياة اليومية أو في العلم، “يفترض وجود مادة معينة، حقيقة بيولوجية، نيورولوجية وفضائية للذاكرة”.

01

هكذا يجد النازيون الجدد الذين طوروا أبحاث النازية القديمة أنه لم يعد أمامهم إلاّ الاشتغال على الأطفال. فهم الأرشيف الفلسطيني المتبقي. هم التشفير الجيني الفلسطيني. بل هم الجين الفلسطيني، الذي بدأ النازيون الإسرائيليون يخضعونه لعمليات التشفير، ومن ثم قتل الشيفرة. فالأطفال الفلسطينيون هم الأرشيف الحي المتحرك، لأنهم يحملون في عيونهم ونفوسهم وتطلعاتهم جين الأرشيف الفلسطيني.

فالأطفال لأنهم من المجازات التي “نعيش بها”، كما يقول لاكوف وجونسون، لا بدمن قتلهم. لا بد من اعتقالهم. لا بد من أسرهم. إنهم مجاز مؤسس لدلالات الحياة اليومية الفلسطينية في العالم، لأنهم مجاز مؤسس لدلالات يومية وعلمية للذاكرة، تدور حول استمرارية ورسوخ الذاكرة. إنهم مجاز تشفير وتخزين لاستعادة الذاكرة للمعلومات، مقروناً بالقدرة الايحائية للصورة. فهؤلاء الأطفال الذين هم المجاز، هم الأكثر قوة وإيحاء. ولهذا صاروا مطلوبين لدى النازية الاسرائيلية الجديدة للقتل والأسر والاعتقال، لأجل محو الشيفرة فيهم، لأجل شطب مجازهم إلى فلسطين التاريخية الثقافية العربية الإسلامية والعالمية معاً في آن.

ولأن الطفل الفلسطيني مركز الصورة، وكل شيء غيره هو ظاهرة ثانوية، فإن إسرائيل وجدت فيه الاسترجاع لعادة تخافها وتخشاها: عادة النضال اليومي العفوي، والذي هو أقوى من كل أشكال النضالات الثانوية الأخرى عند الكبار. إنه النضال الطفل، الذي يخزن في ذاته الشفرة والجين للنضال العام، ضد الطغيان والاستبداد والعنصرية والنازية والقبح العالمي والإسرائيلي والعربي معاً ومجتمعين في صعيد واحد.

إنه القبح الذي يدركه الطفل الفلسطيني بعفوية، ويحفظه ويخزنه ويختزنه بعفوية، دون أن يحتاج إلى خزائن حديدية ولا إلى مراكز تكنولوجية تخترقها الأجهزة ويفككها الخبثاء لأية هويات انتموا، ويفككها الأعداء الصهاينة لأي عصر انتموا.

إن جيل الأطفال الذي تستهدفه إسرائيل اليوم، إنما ترى فيه جيل الإيلاف الاستذكاري، جيل الوعد للإيلاف السياسي المبكر في فلسطين والعالم. إنه جيل الاستعادة العائلية للنضالات الماضية، والمحادثات التي تدور حوله، هي أدوات وآليات التثاقف. إنه يمثل بصدق وعفوية الايلاف السياسي للأطفال والعائلات الفلسطينية. إنهم يمثلون المعرفة والمواقف المشتركة من العدو الإسرائيلي، داخل العائلة بخاصة وداخل الشعب بعامة. وإسرائيل تدرك كيف يكون الحديث عن واقعة بعينها في تاريخ الأمة. وهي تدرك أكثر كيف يشكل الأطفال فرصة لربط تاريخ الأمة الفلسطينية بتاريخ العائلات الفلسطينية. لأن العائلات الفلسطينية سرعان ما تتحول إلى ممارسة الإيلاف السياسي بين العائلات نفسها في مواجهات العدو الإسرائيلي. وهذا بحد ذاته يشكل أعظم الخطر على إسرائيل وعلى كيانها التآمري الغاصب للحقوق: شعباً وأرضاً وأجيالاً وتاريخاً ومستقبلاً وتراثاً، وعروبة وإسلاماً، في إطار العولمة المقتحمة كل وسط، والقادمة من كل وسط.

فهل تكون إسرائيل بذلك كمالك الحزين، تهب عليه الرياح من وسط العائلات ومن كل الجهات، فتخفي رأسها تحت جوانحها، وتحسب نفسها أنها في مأمن أمين.

خسئ الغادرون، فأطفال فلسطين جين الحياة، أعظم من أن يأتي عليه خبث ودهاء ورعونة وبلاهة الصهاينة المجرمين.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث