نقتل اليأس بالمهرجان

رشيد درباس (النهار)

“إن وضعنا محزن جداً”
وليد جنبلاط

تتألَّق بيت الدين بالسيدة نورا جنبلاط التي تقطف لباقات مهرجاناتها وروداً نادرة من العالم، تقدمها لعشرات الآلاف من أصدقاء التاريخ، الذين يؤمون معلماً رائعاً جعلته سيدة الفن والثقافة إطاراً تليق به عروض إبداعية أصبحت جسور تواصل عريقة يسعد بها لبنان، ويصرُّ على استمرارها مهما تقلَّبت ظروفه الصعبة.

مساء الاربعاء لَبَّيْتُ الدعوة لمشاهدة باسم يوسف الذي عاقَرْتُ “برنامجه”، طوالَ حكم الرئيس المصري السابق الدكتور محمد مرسي، فأدمنتُ مشاهدته لأنه كان يغرقني في الضحك حتى التشنج، ولهذا مَنَّيْتُ نفسي بسهرة تخرجني من دوامة الأسى ولو سحابة ساعة. لكنني فوجئت بباسم، نحيلاً، رشيقاً، لابساً الأسود، ذارعاً المسرح الكبير، ومسقطاً الحائط الرابع الفاصل بين الجمهور والخشبة، ليمدَّ يده إلى الصف الأول ويجري مع وليد بك حواراً ضاحكاً، ومريراً في آن واحد، ثم يتطرق إلى الوضع في لبنان، فيهنئنا على ما نحن فيه من شغور رئاسي، لأن هذا بحسب زعمه… يجنِّبنا اندلاع الثورات التي ترفع عقيرتها بشعار “يسقط… يسقط” لأنه لا يوجد رئيس تطالب الثورة بإسقاطه.

أعترف أن الضحكات التي انتزعها باسم مني، كانت مشبعة بالمرارة، لأن البلد الذي لا يطالَب باسقاط رئيسه لعدم الوجود، هو بلد معرض للسقوط السريع، على وفرة ما يزدانُ به جبلاً وساحلاً من مهرجانات تصرُّ على إدخال الفرح إلى القلوب الوجلة، والعقول القلقة…

لعل أبلغ تعليق كان قولَ وليد بك في نهاية العرض، وهو مستغرق في ضحكته المعروفة: “إن وضعنا محزن جدًّا”.

ربما لم يضِفْ باسم يوسف شيئاً جديداً الى ما كان يبثُّه سابقاً، وربما كنتُ لا أوافقه على كل ما ذهب إليه، لكنه أكد ان الخرافة لا تقتصر على نهج سياسي واحد، بل هي الوسيلة السخيفة والناجعة في آن واحد، التي تستعملها الدعاية السياسية العربية على اختلاف اتجاهاتها لخداع الناس واستمالتهم واستتباعهم، وحتى استرقاقهم، بعد أن توقع في أنفسهم أنهم برغم فقرهم، أصحابُ الجنة، وأن الدنيا مَتاع الغرور، يختصُّ بها الحكام وأهل الحُظوة، وورثتهم من بعدهم.

انقضت الليلة على أسىً، وحلَّت الظهيرة على عين التينة في آخر ثلاثية الحوار، وقد ران اليأس على قلمي، فعصاني ولم يَجْرِ على الورق لكتابة المحضر، كما تقتضي الأصول، لأنَّه ملَّ التكرار، وافتقد الابتكار، بعد أن ضلت سفينة الحوار، نبض المنار.

يتشَّبث الربان “البّري” بدفة القيادة، في وسط بحر لا يجافيه موجاً ولا رياحاً، لكن الطاقم ينفخ في “عباب تياراته”، فما تلوح لنا يابسة حتى يطغى عليها سراب، ولا يهدأ سطح اليم، حتى تتجشَّأ أحشاؤه طفحاً من التلوث السياسي يجعل خشب السفينة يئن ويتضعضع، كما ” تتجافى في المضاجع الجنوب”.

يحاول الربان، أن يتحكم بسُكّان المركب (والسكّانُ هو المؤخرة التي بواسطتها تعدَّل الاتجاهات) فيحدث السكان (أي هيئة الحوار) على متنها جلبة تشغلهم عن حقيقة المخاطر التي تدهمنا، كأنما سياسة الإنكار حققت لأصحابها خيراً أو أبعدت عنهم ضُرّاً..

يحاول “النبيه” أن يُنَبِّهنا من مغَبَّة الذهاب إلى ” العصفورية” بأرجلنا، ويبتكر تقنيات قد تفضي إلى فتح ثُغر في الجدار من غير أن يفوته في الوقت عينه ما قاله معالي زياد بارود بأن التقنيات الناجحة تحتاج الى حد أدنى من التوافق السياسي، وما أشار إليه الاستاذ سركيس نعوم في “الموقف هذا النهار” أن تكرار الدوحة يحتاج إلى “إمكانات الدوحة”، ولكنه ممن يستعملون التجربة والتصميم لحفر الظلام بإبرة من بصيص.

وبعد الظهيرة كان ما كان من مناظرات طابعها تقني، يتعلق بالاتصالات، وباطنها خلافي يقطع كل الاتصالات، إذ انعقد مجلس الوزراء لساعات أربع، انتَقَلْتُ خلالها من ملهاة باسم يوسف المحزنة إلى مأساة عبد المنعم يوسف المضحكة، فقرأت وجوه كثير من الزملاء، وقد عراها الأسف والملل، وربما النعاس، فقلت لنفسي: لماذا لا يتحول الممتعضون هؤلاء من حقيقة دستورية ، إلى فعل سياسي، فيقيلوا الحكومة من تلك الدوامات، ويلزموا المختلفين باتباع بعض من بعض أصول الحكم، ويبتكروا مبادرات إيجابية تحرك آلة مجلس لا يلتئم إلا إذا التأمت بعض المصالح، ثم يتحول بعد ذلك إلى منبرٍ عكاظيٍّ تتثاءب منه الآذان وتغفو النفوس.

لم يعد خافياً على أحد أن السيولة قد ضربت الاصطفافين الآذاريين داخل الحكومة، وأن الوسط قد ماع بينهما، فنحن نشهد السجالات الحادة بين أبناء الحلف الواحد “الافتراضي”، والمجاملات والمهاداة بألقاب الفخامة والدولة، بين مختصمين ” افتراضيين ” أيضاً، وهذا الأمر المستجد يجعل لكل وزير شأنه في النصاب والقرار، أيّاً تكن الجهة التي جاء ليمثلها، وعليه فانني أنحي باللائمة على نفسي أولاً، لأحاسبها بالنيابة عمن يسائلون الوزراء عن أداء لا ينبغي إلا أن يكون عند حسن حاجاتهم ومطالبهم، ثم أتوجه بعد ذلك إلى بقيتنا ممن لا يرضَوْن عن هذا التعطيل المتمادي، وأوله عدم انجاز الموازنة.

وبعد، هل قُدِّرَ لينابيع الأرز وبعلبك وبيت الدين والقبيات وجبيل وبيروت وتنورين وإهدن وصور، أن تصبَّ كلُّها في بحيرة حوار أبكم المعاني، أو شطِّ حكومة لا نتمتع، نحن أبطال مسرحها، بأصوات جميلة؟؟؟

* وزير الشؤون الاجتماعية