فارق لجوء الدعاة
د. قصي الحسين
8 أغسطس 2016
قبل حين من الدهر، استضافت فرنسا أعظم لاجئ على أراضيها ولمدة عشر سنوات: الإمام آية الله الخميني. وجد في كنفها، بعيداً عن عيون الشاه وأنوفه وآذانه في إيران والعالم، حريته التي يفتش عنها. وطويته التي يريد صونها، وتجربته التي يريد بثها وبعثها. انتظر في عالم اللجوء تحضيرات الروح، عشر سنوات، للعودة المظفرة. وحطت به الطائرة، في مطار طهران على رؤوس عشرة ملايين، وعلى رأسه طائر الإسلام يصيح: أغيثوني، أغيثوني. فمدت له الملايين حبال شرايينها وأوردتها وأكبادها، وأحاطت بالطائرة الميمونة وحملتها إلى العرش، وما سالت قطرة دم. وانتصرت فرنسا بشعلة الحرية على الشيطان الأكبر.
وها هي الثورة البيضاء الإسلامية الإيرانية، تسيد وتميد على نصف الإسلام، وعلى نصف المسلمين وعلى نصف الأرضين، وعلى نصف العالمين: ربحت من أميركا رابع جيشها. وربحت منها أيضاً دول “البريكس” ودول أميركا اللاتينية. وربحت من العرب: مصر وسورية والعراق ولبنان وفلسطين والجزائر. وربحت إلى هذا وذاك عدوها: الدب الروسي، وسائر الدببة الذين يدورون في فلكه في جميع أقاصي الأرض وبلدانه النافرة إلى الجهاد والحرب سراً وعلانية مع الشيطان الأكبر.
ومات الشاه وماتت الشاهنشاهية وماتت معهما فرح ديبة، على أرض اللجوء بمصر. لم تكن من لهم دعوة ولا دعاة.
وقبل حين من الدهر، تستضيف ولاية بنسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، أعظم لاجئ على أراضيها منذ عشر سنوات: الإمام المجاهد فتح الله محمد غولن. وجد في كنفها، بعيداً عن عيون السلطان وأنوفه وآذانه في تركيا، حريته التي يفتش عنها، وطويته التي يريد صونها، وتجربته التي يريد بثها وبعثها، وها هو ينتظر بدوره في بلاد اللجوء تحضيرات الروح، للعودة المظفرة: سيرة غنية بالإسلام والدين. وحياة حافلة بالسياسة والجهاد. ومجالس للعلم والعلماء والصوفة والصوفية، والبلاغة وأصول الفقه والعقائد. ولغات عربية وفارسية ومحلية وأناضولية، ينطلق بها وعظاً ودعوة وثقافة وسياسة وشجاعة، حتى بات شعبه يرى فيه الأب الروحي للإسلام الاجتماعي. وحتى باتت منجزاته ودعواته الإنسانية والدينية تبلغ به جدران الفاتيكان.
لكن الزمان غير الزمان. والرهان غير الرهان. والرجال غير الرجال. والدول غير الدول. وتركيا في الربع الأول من القرن الواحد والعشرين، غير إيران في الربع الأخير من القرن العشرين. والسياسة العالمية بأدواتها وثوراتها التكنولوجية الحديثة، غير السياسة بأدواتها القديمة وبخطاباتها البائدة وبجبالها المتملصة وجدرانها المتآكلة.
منذ لجوء غولن إلى بانسلفانيا في الولايات المتحدة الأميركية، وشريكه في الدعوة والجهاد المجاهد رجب طيب أردوغان ينتقد خطابه وخطواته، ويرصد صداه في تركيا وأصداءه في البلاد الأميركية. ويقرأ جيداً كتب لجوء الدعاة ومكاتباتهم وتواصلاتهم وتآزراتهم مع القوى المانحة بأرضها وسمائها وأهدافها. وانكشفت بعض وجوه الحقائق، وبعض وجوه السياسة، وبعض وجوه التحالفات، وبعض وجوه الأزمات والهزات.
انكشفت لثعلب السياسة المعاصرة في تركيا، مراوغة أميركا في ملف الربيع العربي، خصوصاً في ليبيا والعراق والآن في سورية. وانكشفت أطماعها بالدردنيل والبوسفور وبحر مرمرة. وأن غولن يسهل أن يكون لها حصان طروادة. وحين أسقط أردوغان الطائرة الحربية الروسية فوق أراضيه انهالت عليه الإدارة الأميركية ومعها الحليف الأطلسي بالتعنيف والتوبيخ، وقَوَّتْ شوكة القيصر عليه، لعل الدب الروسي يدعس على ذيل الثعلب التركي ولا يدعه إلاّ متلاشياً.
ولم تكن التحضيرات لعودة المجاهد فتح الله محمد غولن، قد بلغت بعد التحضيرات التي رتبت عودة الخميني إلى إيران، لفارق الدعوة، فالسنة غير الشيعة، والتعنيف غير التكليف. والسطوة غير الهالة. وفشل التحضيرات، لمما أفشل العودة. ولم يعززها بل قوّى الانقلاب عليها. كان الرئيس على الأرض أسرع لقطع حبال العودة بمقرض السلطة والسلطان. فانقطعت رحلة العودة بالمجاهد السني فتح الله محمد غولن، بسيف السلطة والسلطان، كما جرت العادة في تجاريب الخلفاء مع سلاطينهم منذ أزمان.
عاد أردوغان سلطة وسلطاناً، وفشل غولن داعية وخليفة وإماماً. عاد إلى الجيش وإلى الجامعات وإلى القضاء وإلى الإدارات وإلى الزوايا والتكايا والأجهزة المختلفة، سلطة وسلطاناً، يمحو بمحوه الداعية والخليفة والإمام المجاهد فتح الله محمد غولن، خطة البيت الأبيض بالوصول إلى البحر الأسود. لم يرد اسقاط غولن، بل أراد إسقاط حصان طروادة.
عاد اردوغان إلى ملاعبه في بلاده وفي جوارها الاقليمي، بمكر ودهاء سياسي، لأنه أحسن قراءة سابقة الشاه وإيران مع الشيطان الأكبر ولأنه أحسن قراءة سابقة الشيطان الأكبر/ أميركا، مع الربيع العربي ومع الربيع الفارسي ومع كل ربيع في كل قطر من أقطار العالم وفي كل مصر من أمصار العالم.
أفاق منذ اسقاط الطائرة الروسية، أنه زوج مخدوع، وأن مواقف كيري ورسائله، ومواقف الإدارة الأميركية وبياناتها، تشي جميعها بتحضيرات حصان طروادة في بنسلفانيا، فأخذ من احتياط الإسلام السني، سلطة وسلطاناً، يغلب بها الخليفة والإمام. أعاد على مسامع الشركاء الأميركيين بالسياسة: فارق لجوء الدعاة.