المختارة تُعيدُ التذكير بالفكرةِ اللبنانية

 د. ناصر زيدان (الأنباء الكويتية)

 

منذ ما يُقارب المئتي عام؛ بنى بشير جنبلاط – احد كبار العائلة الجنبلاطية – كنيسة مارونية في المختارة، ولم يكُن في المختارة موارنة؛ كانت الكنيسة تخدم ضيوفه – لاسيما آل الخازن  مشايخ كسروان – عندما يأتون الى المختارة لقضاء جزء من الصيف. وفي تلك المرحلة ايضاً بنى البشير جامعاً الى جوار قصر المختارة، خُصِصَ لصلاة مَن يريد من العائلة ومن الضيوف، لاسيما منهم ابناء اقليم الخروب، وكبار الزائرين من السلطنة العثمانية.

اعاد رئيس اللقاء الديمقراطي النائب وليد جنبلاط ترميم الكنيسة والجامع في هذا التوقيت المفصلي من تاريخ لبنان؛ حيث التعصُّب والتقوقُع والإنعزال يتسابقون على حساب الايمان والتسامح والانفتاح.  وقد دعى جنبلاط الى تدشين الكنيسة بحضور البطريرك الماروني بشار الراعي وفعاليات آل الخازن، وحشد من شخصيات البلاد من مختلف المشارب والاتجاهات، كم سيدعوا في ايلول/سبتمبر القادم الى تدشين الجامع بمناسبة ذكرى وفاة والدتة السيدة مي ارسلان جنبلاط، وسيسمي الجامع بإسم والدها الاميرشكيب ارسلان، وذلك بحضور مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان وجمع من الشخصيات الوطنية والاسلامية.

بصرف النظر عن اختلاف الاوضاع بين بدايات القرن 19 وبدايات القرن 21؛ تبقى المُشتركات اللبنانية هي هي. فتعاضد العائلات اللبنانية المُتمسِّكة بالعروبة المُنفتحة انتجت الخصوصية اللبنانية؛ منذ ايام الإمارة، مروراً بعصر الولايات الى زمن المتصرفية الذي غلب عليها النمط العثماني.. وصولاً لعهد الانتداب الفرنسي ومن ثمَّ الاستقلال الاول في العام 1943 والثاني في العام 2005.

الخطوة الجنبلاطية الجديدة، وبأسلوبها العصري؛ تُعيد التذكير بالفكرة اللبنانية الجامعة، والتي كانت وحدها وراء إنشاء لبنان الكبير. ولبنان الكبير وُلِدَ من رحم النتائج السياسية للحرب العالمية الاولى، وكُرِّس دولةً مُستقلة بموجب اتفاق سايكس – بيكو الذي وزَّع النفوذ على اراضي الامبراطورية العثمانية المهزومة آنذاك، وأُعلن عن قيامته رسمياً في العام 1920. هذا اللبنان مُهددٌ بالانفراط في ظُلِّ الاجواء التي تحيط به – او التي يعيشها في الداخل – وصورة فكفكة حدود دول المنطقة ترتسِمُ على الجدران المُدمَّرة في حلب وفي الفلوجة وفي الرِقَّة وفي كردستان وفي الحسكة ومنبج، ويمكن ان نقولَ في كلِ مكان.

لا تعني خطوة جنبلاط الجامعة؛ إستعادة للثنائية الدرزية – المسيحية في الجبل على الإطلاق، فخصوصيات عصر الامارة وللَّت الى غير رجعة، كما ان خصائصها المحلية؛ لم تَعُد قائمة على الاطلاق. ولكن التذكير بأهمية دور الوفاق الجبلي بكلِ مكوناته؛ قد يكون ضرورة للإستفاقة من الغفوة الوطنية التي طالت تحت تأثير مخدِّر الإرتباطات الاقليمية والدولية، إذا لم نقُل الارتباطات المذهبية الاسلامية المُستجدة، والتي تُنذرُ بتخريب ما تبقى من لبنان.

ومشهد المختارة الجامع؛ لم يَكُن بِهدف إستعادة التذكير بالدور المُتقدِّم للعائلات السياسية، بل انه تقريب المسافات امام الرؤية الوطنية الجامعة. فقد ظُلِمت الوطنية اللبنانية على مدى العقود الماضية إبان الوجود العسكري السوري، وهي تُظّلم اليوم على ايدي ابنائها اكثر فأكثر من جراء الشغُور في سدة رئاسة الجمهورية لما يزيد عن سنتين وثلاثة أشهُر، كأنما جَمّعة المختارة جاءت لتُسدَّ بعض الفراغ الوطني الناتج عن الفراغ في موقع الرئاسة.

اكثر من ذلك؛ فإن مصادفة الجَمّعة الجنبلاطية مع الذكرى 15 لمصالحة الجبل التاريخية التي كرَّسها الكاردينال ما نصرالله بطرس صفير بزيارته للمختارة، تؤكد على إرادة العيش المشترك بين ابناء الجبل خصوصاً، وبين اللبنانيين بشكلٍ عام، بصرف النظر عن التباينات الناتجة عن تعارُض الرُؤى حول ما يجري في سوريا، وتجاوزاً للإخفاقات الدستورية الكبيرة التي تتخبَّط بها البلاد.

في التشخيص السياسي لدور وليد جنبلاط خلال المرحلة الماضية؛ يكتشِف المُراقب ان همه كان مُقتصراً على تجاوز المطبّات والتوترات التي كادت تُشعِلُ حرباً اهلية بين اللبنانيين. في لقاء المختارة؛ تأكد ان جنبلاط ما زال لديه ذات الهاجس. وما زال يعمل لذات الهدف، ليُرَسِخ العيش المُشترك في الجبل اكثر فأكثر، وكي لا يقِعَ اقتتال جديد بين اللبنانيين. وبين هذا الهدف وذاك، يُصوب جنبلاط مُجدداً على اهمية الحفاظ على وحدة الجبل وما تعنيه هذه الوحدة في سياق الحفاظ على تماسُك مسيرة الدولة.

اقرأ أيضاً بقلم  د. ناصر زيدان (الأنباء الكويتية)

نظرية العزل السياسي سقطت الى غير رجعة!

الموازنة اللبنانية بين المعلوم والمَخفي!

التعقيدات التطبيقية في قانون الإنتخاب الجديد

عن فترة السماح السياسي للعهد

الحزب التقدمي الاشتراكي والتيار الوطني الحر

عن الانتخابات والاكثرية والنسبية والطائفية وصحة التمثيل

الحكومة اللبنانية بين التكليف والتأليف والميثاقية

السلَّة والدستور اللبناني  

جهل بالتعاملات المصرفية ام قرار بقلب الطاولة؟

عن المزاج الشعبي بعد الانتخابات البلدية في لبنان

الانتخابات البلدية: حسابات القرايا* وحسابات السرايا

عن دور الدبلوماسية اللبنانية

كيف تتعطل إنتخابات الرئاسة اللبنانية؟

النازحون السوريون إلى لبنان: مأساة إنسانية متفاقِمة

الإنعطافة القواتية!

2016: زمن الاعتدال ونوافذ الانفراج

الحكومة اللبنانية: إتفاق وإختلاف تحت سقفٍ واحد