فلسفة التربية المسرحية: البراغماتية مقترحاً

بقلم د. هشام زين الدين

مقدمة

“إن فلسفة التربية بشكل عام هي الأساس الذي تنبثق منه الأهداف التربوية العامة لتعمل كموجهات واضحة للنظام التعليمي والمؤسسات التعليمية كلها، وهنا يكون دور السياسة التعليمية ووظيفتها في توجيه العمل التربوي”(1)، وعلاقة التربية بالفلسفة قديمة وأساسية ووثيقة جداً وهي كما يقول جان ديوي في كتابه “الديموقراطية والتربية”: “إن الفلسفة اليونانية لم تنشأ إلاّ تحت ضغط مسائل التربية على عقول المفكرين، فجميع مسائل التربية هي نفسها مسائل الفلسفة. والعلاقة بين الروح والجسد وبين المعرفة والأخلاق وبين الفرد والجماعة، أمور تبحثها التربية كما تبحثها الفلسفة في كل زمان ومكان”(2).

استناداً إلى ما تقدم، يمكن إعتبار ن أن التربية بمثابة الجانب التطبيقي للفلسفة، كونها تمتلك أدوات ووسائل عملية تتصل بعملية صناعة الإنسان، فهي الجانب الفعَّال في تأكيد المبادئ الفلسفية وتأصيل اتجاهاتها ومثلها العليا عن طريق غرسها في الأجيال الجديدة والمتجددة دائماً، وتربيتها بطريقة تتشكَّل فيها شخصية الفرد تشكُّلاً يتفق والمبادىء الفلسفية. لذلك فإن النظريات التربوية وأهدافها تختلف باختلاف الفلسفات التربوية وأهدافها ومثلها العليا التي تتصل بالحياة اتصالاً وثيقاً.

Raphael_School_of_Athens

  • العناصر المنهجية للبحث:

 في الجانب البحثي نستطيع التأكيد على أن هذا البحث يعتبر من بين المحاولات الأولى على صعيد التنظير لفلسفة التربية المسرحية لبنانياً وعربياً، حيث أن الدراسات والأبحاث القليلة نسبياً- كي لا نقول النادرة- التي تطرقت إلى هذه الظاهرة تعاملت مع التربية المسرحية في جوانبها التطبيقية غالباً، ويعود ذلك إلى سببين إثنين: الأول يتعلّق بندرة المتخصصين في هذا المجال، والثاني يتعلق بندرة الباحثين من بينهم، حيث أن الغالبية المطلقة من العاملين في مجال التربية المسرحية هم من الفنانين والمدرِّبين والأساتذة من غير الباحثين في المجال العلمي أو المعرفي أو النظري.

إن الفرضية الأساسية التي سنحاول الإجابة عليها من خلال هذا البحث، تتعلق بالمرجعية الفلسفية التي تستند إليها التربية المسرحية لتأكيد مشروعيتها المعرفية والعلمية، ويمكن صياغتها بشكل سؤال هو الآتي: هل تستند التربية المسرحية كأحدى وسائل التربية الحديثة إلى أفكار ونظريات فلسفية تقليدية (كلاسيكية- مثالية) تعتبر حتى اليوم الوعاء الفلسفي الكبير الذي يحتضن كل أنواع الفنون، أم أنها – أي التربية المسرحية –  وبوصفها وسيلة وأداة تربوية عملية حديثة ومبتكرة تهدف إلى الاستجابة لحاجات الانسان الحياتية والواقعية، تستطيع الانتقال إلى فلسفة مغايرة للفلسفات التقليدية، أي البراغماتية، التي تعتبر من الفلسفات الحديثة نسبياً والتي تقف في منطقة وسطى بين الاتجاهين الفلسفيين المتناقضين تاريخياً وهما المثالية والمادية؟(3).

إن الاشكالية المطروحة من خلال هذا البحث تتمثل في التباين بين مكونين فلسفيين معرفيين هما التقليدي (المثالي) كمرجعية تاريخية للفنون عموماً والمسرح جزء منها من جهة، والحديث (البراغماتي) كمرجعية مقترحة للتربية المسرحية بوصفها ظاهرة تربوية وليست فنية من جهة ثانية، وفي انعكاسات هذين المكونين على عملية التأسيس النظري للتربية المسرحية من منطلقاتها الفلسفية، هذه الإشكالية لم تأخذ حقها في البحث العلمي أو التربوي أو الفني نظراً لحداثة وجود التربية المسرحية كظاهرة مركبة وليدة من مجالين (التربية والمسرح)، بينهما العديد من نقاط الالتقاء بالأهداف، ولكن بينهما أيضاً مجموعة نقاط الاختلاف في الوسائل وفي الأهداف أيضاً.

يعتمد هذا البحث المنهج التحليلي، انطلاقاً من أهمية تحليل المبادئ الفلسفية المقترحة من قبل الباحث كمرجعيات نظرية، والمناسبة فرضياً للتربية المسرحية، والتي تخدم طرائق تطبيقها عملياً من خلال رسم مسارات محددة لبلوغ الأهداف المرجوة، حيث أن العمل التربوي هو بالأساس عمل هادف لبناء شخصية الإنسان في زمان ومكان وظروف معينة ومحددة بدقة.

Theatre

في الأدوات المعتمدة، يستند البحث إلى مراجع وكتب ومقالات ومنشورات ومحاضرات جامعية قاربت في محتوياتها مسألة التربية المسرحية من زوايا مختلفة، كما يستند إلى خبرات عملية للباحث في مجال التربية المسرحية هي عبارة عن ورشات تدريب على التربية المسرحية للمعلمين في المدارس اللبنانية الخاصة والرسمية، وإلى خبرات مكتسبة في التعليم الجامعي والعمل على مناهج التربية المسرحية في كلية التربية –قسم التربية المسرحية- بين عامي 1998 و2005، وفي المركز التربوي للبحوث والانماء حيث أن الباحث يترأس لجنة مناهج التربية المسرحية منذ العام 2005 وحتى تاريخه.

  • البراغماتية مقترحاً للتربية المسرحية:

تتعامل الفلسفة المثالية مع الفنون بوصفها أداة للتطهير، ويعتبر الفيلسوف الإغريقي أرسطو في كتابه “فن الشعر” أول المنظرين لهذه المقاربة التي اعتمدتها كل الفلسفات اللاحقة كأساس للتعامل مع أنواع الفنون المختلفة، ولا تزال هذه المقاربة حاضرة حتى اليوم في تعامل الفنان مع جمهوره انطلاقاً من أن الأنواع والظواهر الفنية تهدف إلى تطهير المتلقي من خلال ايقاظ مشاعر الخوف والرحمة والانفعال الحسي والعاطفي، حيث يؤكد أرسطو على نظرية “الكاتارسيس” (التطهير) ويقول بأنها النظرية الأشد ارتباطاً بوجدان الحياة والإنسان“(4).

ارسطو

في هذا السياق يقول محمد الناصف في كتابه “في التربية والتعليم” المعتمد من وزارة التربية في تونس: “وقد كانت هناك أيضاً طريقة القصص والمسرحيات التي نصح بها أفلاطون، وطريقة العمل لاكتساب الخبرة التي نادى بها أرسطو، وهذه  الطريقة هي طريقة المذهب البراغماتي التي تهدف الى تعليم الأطفال التفكير والاعتماد على النفس، ومن الملاحظ أن هذه الطريقة قد ظهرت من جديد في أميركا على يد جون ديوي”(5).

وتعرِّف المراجع الفلسفية الفلسفة المثالية على أنها “توجه فلسفي مقابل للمادية” وأنها تتكون من مجموعة اتجاهات أهمها المثالية الموضوعية التي ترى أساس الموجودات كلها في الفكر المعزول عن الانسان، والمثالية الذاتية التي تصور وجود العالم الخارجي والاشياء والظواهر وصفاتها مرهونة بنشاط الشخصية المعرفي، بأحاسيسها وادراكاتها وانفعالاتها العاطفية وبالتجارب العلمية“(6). نستنتج من هذه الاقتباسات “الهامة” أن العامل البراغماتي وقبل أن يُعرف بهذه التسمية حديثاً، كان حاضراً عند أرسطو وأفلاطون في مقاربتهم لدور المسرح في المجتمع، كما كان حاضرًا في الاتجاهات الفلسفية المثالية الذاتية كأحد أهم تجلياتها حيث يعتبرها بعض الفلاسفة على أنها- أي البراغماتية – الشكل المعاصر للفلسفة المثالية الذاتية(7)، التي تميزت عن المثالية الموضوعية بتأكيدها على دور الخبرة الذاتية للانسان في تكوين معرفته، وهو ما يمكن أن يدعم توجهنا واعتقادنا بأن الفلسفة البراغماتية هي الأكثر ملاءمة لاعتمادها من بين الاتجاهات الفلسفية كموجه فلسفي للتربية المسرحية، خصوصاً وأنها تأتي في سياق تطور تاريخي موضوعي يتمثل بجذورها “الارسطوية” المسرحية (المثالية الذاتية)، وبكونها تمثل راهناً أحد تجليات هذه “المثالية الذاتية الأرسطوية” بشكلها البراغماتي الحديث.

  • العلاقة التداخلية بين التربية المسرحية والفلسفة البراغماتية

إن العمل التربوي من خلال الفنون عموماً ومن خلال الفن المسرحي خصوصاً يسهم إسهاماً كبيراً في تحقيق الأهداف التي تعتمدها فلسفة التربية. هذه الأهداف التي تقوم المؤسسات ومراكز الأبحاث التربوية(8) بالتخطيط المستمر لكيفية تحقيقها. وبالرغم من أن التربية المسرحية لا تزال تعتبر وسيلة تربوية مساندة وليست أساسية في العملية التربوية وهذا مخالف لكل الافكار والنظريات التربوية الحديثة التي تتعامل مع الفنون في التربية كمواد تعليمية أساسية، لكن وبالرغم من ذلك، وبسبب خصوصيتها الابداعية وإمكانات التأثير الهائلة التي تختزنها العناصر المسرحية المكونة لها، فهي تسهم مساهمة فعالة وأكيدة في بلوغ الأهداف التربوية، ما يجعلها من الوسائل المؤثرة في العملية التربوية.

 “لقد قامت فلسفة التربية الحديثة على أسس ومبادىء ذكرها جون ديوي على نحو يقارن بينها وبين أسس الفلسفة التقليدية على الشكل التالي: “إن الفرض من أعلى يقابله التعبير عن الذاتية ورعايتها، والنظام المفروض من الخارج يقابله النشاط الحر، والتعلم من الكتب المقرَّرة والمدرسين يقابله التعلم عن طريق الخبرة، واكتساب المهارات المنعزلة والأصول الفنية بطريق التدريب يقابله اكتسابها كوسائل بتحقيق غايات تحقِّق المتعة الحية المباشرة، والإعداد لمستقبل يكاد يكون بعيداً يقابله بالاستفادة القصوى بفرص الحياة الحاضرة، والأهداف والمواد الجامدة تقابل بالتصرف إلى عالم التغيير(9) وفي السياق ذاته يقول الكاتب والفيلسوف الفرنسي الحداثي ميشال دي مونتين: “إن الفكر المصقول خير من الفكر المشحون”(10).

  المبادىء التربوية الحديثة التي ذكرها كل من ديوي ودي مونتين في مقارنتيهما تصلح بمجملها للتعريف بمبادىء التربية المسرحية، فالتعبير عن الذات والنشاط الحر والتعلم عن طريق الخبرة، واكتساب المهارات كوسائل لتحقيق غايات، والاستفادة القصوى من واقع الحياة والمرونة والتأقلم والتغيير، وغيرها العديد من المبادىء، تعتمدها التربية المسرحية في أنشطتها وتتعامل معها كأهداف تربوية تسعى إلى تحقيقها وتسخِّر العناصر الفنية والنفسية والجمالية والحركية والحسية التي يمتلكها الفن المسرحي لأجل ذلك، ولا تربط التربية المسرحية الابداع بالتعبير الفني حصراً، بل تعتبر أن “الشخص المبدع ليس بالضرورة أن يكون موسيقياً أو رساماً أو ممثلاً، فالابداع هو طريقة تفكير، إنه عملية ذهنية وليس وسيلة تعبير فقط، وعندما نستعمل الدراما لتنمية الابداع عند الاطفال فإننا ندرب عقولهم“(11).

تدخل التربية المسرحية إلى شخصية الطفل – التلميذ من بوابتي العقل والاحساس معاً وتعمل من خلال الأنشطة الذهنية والحسية والحركية على تحقيق اهدافها، ولمّا كانت هذه الأهداف تنتمي إلى الفكر الحديث في التربية وليس إلى الفكر التربوي التقليدي القائم على التلقين والمباشرة والوعظ والترهيب، (نتذكر هنا مقولة جان بياجيه الشهيرة: “في كل مرة نلقِّن الطفل شيئاً نمنعه من اكتشافه بنفسه”). ولمّا كانت التربية المسرحية تشكل جزءًا من عملية التحديث التربوية على الصعيد العالمي، فمن هذا الموقع الطليعي حصلت على مشروعيتها وأكدت على أهمية اعتمادها كوسيلة تربوية.

لعب الاطفال

يجمع الباحثون في التربية الحديثة على أن التلميذ هو محور العملية التربوية، وإن فكرة التعلّم تتم عن طريق الخبرة (12)، وذلك من خلال وضع التلميذ في المواقف التعليمية التي تتضمن مشاكل ومواقف من الحياة والبيئة والواقع المعيوش لكي يتعلّم من خلال اختباره الذاتي وتفكيره الخلاق. فمن خلال هذه المواقف يتعلَّم كيفية مواجهة هذه المشاكل واختيار الحلول المناسبة لها، ومن ثم إعادة تشكيل الظروف التي يعيش فيها، وتحويل ما فيها من أشياء وموضوعات ومواقف، إلى مثيلاتها ذات المعنى والمغزى الأفضل بالنسبة لتحقيق أغراضه وحاجاته، و”من خلال المواقف التمثيلية يندمج التلميذ – الطفل في مواقف اجتماعية متنوعة، يرتاح اليها كونها رمزية مما قد يمهد الطريق نحو اضطلاعه بأدوار في المواقف الاجتماعية الحقيقية التي ترسمها الحياة”(13).

“إن التعلّم على هذا النحو يكون في اكتساب الخبرات الحية ونموّها، فالخبرة ليست مادة مستقلّة نسميها العقل تتصل بعالم خارجي ثابت، حيث أن العقل لا يأتي من عالم علوي روحي ولا يكون قوة فطرية ذات معنى سام، وليس قوة داخلية تعمل بعيدة عن ظروف البيئة أو مادة سلبية تتشكل كلية بالبيئة. ولكنه وظيفة مكتسبة عن طريق فاعليته، وأداة يحل بها الإنسان مشاكله، ولكنها(أي الخبرة) النشاط القائم على المعاناة والتدبّر والتعديل والابتكار والتوافق، والذي يمارسه الفرد ككائن حي متكامل في البيئة، وهي الأنماط والعادات الفكرية والسلوكية المكتسبة في البيئة أثناء تفاعل الفرد معها(14).

 ولكي لا ندخل في عمق التحليل الفلسفي عموماً، وفي تعدد الفلسفات التربوية التي اختلفت بين الحضارات والشعوب والدول والمراحل التاريخية، يهمنا التوقف عند الفلسفة البراغماتية، التي تعتبر من المذاهب الفلسفية الحديثة نسبياً، وذلك بسبب اعتقادنا بتوافق هذا المذهب الفلسفي مع فلسفة التربية الحديثة وأهدافها المعلنة في أكثر من دولة وأكثر من نظام تربوي. ومن بين هذه الأنظمة التربوية النظام التربوي اللبناني على سبيل المثال. هذا النظام الذي تم تحديثه من خلال خطة النهوض التربوي التي انطلقت عام 1997. كما وتُعتمد مبادئ هذه الفلسفة كموجهات فلسفية من قبل الأنظمة التربوية في أكثر من دولة عربية وأوروبية وأميركية.

 في توضيح العلاقة التي تربط فلسفة التربية المسرحية بالمذهب الفلسفي البراغماتي يهمنا أن نشير إلى أنه غالباً ما يساء تفسير كلمة “براغماتي” أو “البراغماتية” في خلال التواصل الكلامي، حيث يكثر استخدامها كتعبير سياسي (في المجال الدبلوماسي بشكل خاص) وفي بعض الأحاديث والنقاشات الحياتية العادية أيضاً. فعلى المستوى الاجتماعي تستعمل كلمة “براغماتية” كمصطلح رديف للـ”ماكيافيللية”(15) يدل على “المصلحة الشخصية” عملا بمقولة ماكيافيللي الشهيرة “الغاية تبرر الوسيلة”، أي أن الشخص الذي يسعى إلى تحقيق مصلحته بأي شكل من الأشكال يسمى “براغماتياً”، وفي المعنى المبطّن للكلمة يقصد بها “الذكي-المحتال- الشاطر”، لكن هذا المعنى، وإن كان بعضه يتطابق مع المعنى الحقيقي لكلمة “براغماتي” من ناحية الذكاء، أي معرفة استخدام الأشياء بشكل صحيح والسعي نحو تحقيق المصلحة الخاصة، لكن الهدف من تحقيق هذه المصلحة ليس بالضرورة هدفاً سيئاً بل هو هدف نافع. فالمصلحة الخاصة يقصد بها أن تكون ذات منفعة لصاحبها وهي ليست مادية بالضرورة أو غير أخلاقية أو استغلالية، بل يمكن أن تكون ثقافية ومعنوية وعلمية ومعرفية ترمي إلى استغلال وقت الإنسان وطاقاته وخبراته وعلمه وثقافته وعمله بما يعود عليه بالفائدة وبما يكون نافعاً له.

  • البراغماتية كمرتكز فلسفي للتربية المسرحية:

 انطلاقاً من المعنى الفلسفي للـ”البراغماتية” ومن ملاءمتها كمضمون معرفي عملي للنشاط التربوي المسرحي نعتقد أن استخدامها كمرجع وكمرتكز فلسفي للتربية المسرحية يمكن أن يسهم في تحقيق الأهداف الإنسانية والثقافية والمعرفية والنفسية التي تتوخاها العملية التربوية من خلال النشاط المسرحي.

يقول المذهب البراغماتي بأن قيمة أي مبدأ أو عقيدة فلسفية يجب أن تعتمد على الأثر العملي لها. وعلى هذا الأساس يضع البراغماتيون النشاط العملي في المرتبة الأولى، والنشاط الفكري في المرتبة الثانية، بالنسبة للطفل في المدرسة “تتطور عملية إدراك المواضيع الخارجية تدريجياً من مجرد إحساس مادي إلى إدراك معرفي ذي أبعاد”(16)، ما يؤكد على أسبقية الاختبار الذاتي وأهميته في عملية التعلم وفي اكتساب الخبرات والمعارف وهو ما تركز عليه الفلسفة  البراغماتية من خلال النقاط الآتية:

  • الفلسفة وسيلة لحل مشاكل الحياة.
  • مقياس الحق هو التجربة النافعة.
  • استخدام المنهج العلمي للوصول إلى الحقيقة.
  • الذكاء جوهر نظرية الحق.
  • النمو عن طريق الخبرة.
  • الديموقراطية واكتساب الخبرة.

يعتقد البراغماتيون أن الفلسفة يجب أن تكون وسيلة لحل مشكلات الحياة، وليست وسيلة للتأمل الفكري في الكون وما ورائياته من دون جدوى. لذلك تقوم الفلسفة البراغماتية على محاولة الكشف عن مجالات النفع في الأشياء التي تخدم الإنسان، وعلى إخضاع كل شيء للتجربة المادية المحسوسة. وهي ترى أن مقياس الحق هو التجربة النافعة لأكبر عدد من الناس ولأطول فترة زمنية، والحق على هذا النحو متغير بتغير الحياة وتطورها. ولما كانت التربية المسرحية تتعامل مع الطفل في سنواته الأولى التي تؤسس لبناء شخصيته على أسسس متوازنة، فإن اعتماد البراغماتية عموماً وعناصرها المتعلقة بالاختبار والتجربة والمنهج العلمي خصوصا،ً يؤمن للطفل هذا التوازن في شخصيته، حيث أن “عملية النمو تسير بصورة نظامية، وإن أية إعاقة في عمليات النمو النظامية تؤثر سلباً في سمات شخصية الطفل وحالاته النفسية والعقلية في مستقبل حياته، فالمؤاءمة بين خصائص نمو الطفل في مراحله المتنوعة وبين متطلباته الضرورية واحتياجاته المختلفة أمر ضروري لتنشئة الطفل نشأة صالحة متمتعاً بطفولة قوية وسعيدة”(17).

“تستخدم الفلسفة البراغماتية المنهج العلمي للخروج من الفكر المجرد إلى دنيا العمل. فحين يواجه الإنسان مشكلة، فإنه يفترض فرضاً معيناً يتوقع منه حلاً لمشكلته، فيبتكر لأجل ذلك فكرة ما، وهذه الفكرة لا تكون حقاً إلاّ إذا كانت نافعة لصاحبها من حيث إمكانية حل المشكلة، إذ أن الحق هو ما يكون نافعاً لنا. كما يرى البراغماتيون أن المعرفة تستمد صفتها من العمل وفي العمل، وهي قبل ذلك تكون مجرد معلومات، ولا تصبح معرفة إلا بعد الحكم عليها في ضوء الخبرة المتصلة بطبيعة المشكلة”(18) ونستشهد هنا بأفكار الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو حيث قال: “لا تقدم لتلميذك أي نوع من الدروس الكلامية، فعليه ألاَّ يتلقى مثل هذه الدروس إلاّ من التجربة”(19).

       لا تعتبر فلسفة التربية المسرحية مستقلة بذاتها، ولا يمكن النظر إليها إلاّ كجزء من فلسفة التربية بشكلها العام. وتلتقي هذه الفلسفة مع المذهب البراغماتي من حيث اعتمادها على العمل والخبرة كوسيلة لتحقيق الأهداف. فالتعلم عن طريق الخبرة والتجريب والاستنتاج هو مبرر وجود التربية المسرحية في العملية التربوية. لذلك تلتقي فلسفة التربية المسرحية الخاصة مع الفلسفة البراغماتية العامة التي تعتمدها الأنظمة التربوية الحديثة. وتتلاقى مبادىء الفلسفتين في خط واحد، كأن التربية المسرحية هي إحدى الأدوات التي تسهم في بلوغ الفلسفة البراغماتية غاياتها التربوية.

       تعتبر الفلسفة البراغماتية أن الحياة التي تحيط بالتلميذ مجال خصب للتربية كونها مليئة بالأحداث والظواهر المألوفة التي سينالها التغيير. ولمّا كان أساس التغيير أو التطوير يكمن في جهود الفرد العقلية وفي ذكائه، فإن قيمة الفروقات الفردية تبدو مهمّة في نظر الفلسفة، فهي تؤكد إتاحة الفرص والمواقف المختلفة للأفراد التي تمكّنهم من التفكير والمعاناة والابتكار لإيجاد الحلول المتصلة بتلك المواقف ومشاكلها.

يقول جون ديوي: إن اكتساب المعرفة العقلية والمهارات الفنية يجب أن يتم في شكل خبرة حية تؤثِّر في تكوين الحياة، وحيث أن التربية المقصودة (أي المدرسة) تزداد وتنمو، فإن خطر وجود انفصال بين الخبرة المكتسبة من الترابط المباشر للناس، وبين الخبرة المكتسبة من المدرسة يكون دائماً قائماً، ولم يكن هذا الخطر بأشد منه الآن على حساب النمو السريع للمعرفة والمهارة الفنية والتكنولوجية”(20)، وتشكل رغبات التلاميذ واهتماماتهم وميولهم محور الاهتمام في التربية التي تعتمد الفلسفة “البراغماتية”. فهي الموجِّه الأساسي للمنهاج الدراسي ومقرراته، كما أنها تمثِّل القيمة التربوية التي تتكوَّن من طريق الخبرة التي يكتسبها التلاميذ. وهذه الخبرة هي الهدف الأساسي الذي تسعى التربية المسرحية لبلوغه، شأنها شأن الفلسفة البراغماتية، وهذه الأهداف لا يمكن لها أن تتحدَّد مسبقاً كونها متغيرة بتغير الظروف. وتبعاً لذلك فإن الهدف أو القيمة التربوية يكمنان في الخبرة المكتسبة من الموقف التعليمي أو التمثيلي الذي يواجهه التلميذ ويعيشه. وأن ما يساعد في اكتساب الخبرة هو مدى رغبة التلميذ واهتمامه في هذا الموقف وفي تحديده لمشاكله. “فنمو الطفل يجب أن ينطلق من حاضره، وما يتطلبه من نشاط ذاتي يعبر عن رغباته التي تتصل بهذا الحاضر للانسجام والتكيف معه، ومن ثم فإن النمو الطبيعي والمستمر للطفل سيصل به إلى حياة مستقبلية سعيدة، إذ أن المستقبل ما هو إلا الحاضر بعد نموه وتطوره”(21).

وتعمل التربية المسرحية على “جعل التلميذ محور النشاط، وأن يشعر بأنه هو الغاية، وأن يرى أن ما يتعلمه يقابل احتياجاته حتى يصبح ما يتعلمه ذا قيمة بالنسبة له، لضمان تحقيق استجابات مرغوب فيها لصالح العملية التعليمية”(22).

إن هذه الخبرة عن طريق المسرح تعني النمو بالنسبة للتلميذ، والنمو السليم هو أحد الأهداف العامة للتربية، ومن هنا كان منهج النشاط (المسرحي وغيره من الأنشطة) معبراً عن هذا الاتجاه. فالنشاط ضروري لجعل التربية أشبه ما تكون بالواقع في الحياة، ولجعل الحياة تؤدي إلى الحقيقة. وما من وسيلة تربوية تستطيع تحقيق هذه الغاية كما تحققها التربية المسرحية، باعتبارها تمتلك عناصر تمثيلية تساعد التلميذ على اكتساب الخبرة واختبار المواقف ومعالجة المشاكل من خلال التماثل بالواقع، وكل ذلك من أجل اكتشاف الحقيقة.

تؤمن التربية البراغماتية بأهمية إعداد الشباب للحياة ولثقافة المجتمع الذي يعيش فيه، لذلك ترى أن تكون حياة التلاميذ في المدرسة حياة واقعية ذات مغزى بالنسبة للحياة البيئية المحيطة بهم. من هنا فإن التربية المسرحية تؤدي دوراً مهماً من حيث قدرتها على نقل الواقع ومعالجة مشاكله الخاصة مسرحياً. وبما أن ثقافة المجتمع دائمة التغيير والتطور، لذا يجب إعداد التلاميذ لمواجهة هذا التغيير، من طريق الكشف عن قدراتهم والعمل على تنميتها من خلال مواجهة المشاكل والتعرف إليها في المواقف التربوية والتعليمية الصحيحة، وذلك بنقلها إلى قاعة الدراما أو خشبة المسرح وتمثيلها ومناقشتها واستخلاص العبر والنتائج منها. فالمواقف التعليمية المتضمنة مشاكل الحياة تحفِّز التفكير الخلاق لدى التلميذ، وتحثّه على ضرورة إيجاد الحلول الملائمة لهذه المشاكل، فيتعلّم كيفية إعادة تشكيل الظروف التي يعيش فيها وتحويل ما تتضمنه من مواقف وموضوعات إلى مثيلاتها في الحياة. “فالخبرة ليست مادة مستقلة نسمِّيها العقل تتصل بعالم خارجي ثابت، ولكنها النشاط القائم على المعاناة والتدبّر والتعديل والابتكار والتوافق“(23).

كما التربية المسرحية، تؤمن البراغماتية بأهمية “الطريقة” وتضعها في المرتبة الأولى، وهي تعتبر أن الأنشطة العملية توفّر للتلميذ خبرة لا توفرها له الدراسة النظرية. ومن أهم مبادئ البراغماتية، التربية الجماعية، وانخراط الفرد في المجموعة وتفاعله معها، وما ينتج عن ذلك من اكتساب للسلوكيات السليمة والمهارات النافعة، وتبادل المعارف والخبرات، والتأثر والتأثير المتبادلين بين الأفراد ممّا يؤمِّن مصلحة الجميع، ويكون نافعاً لهم.

 إن التربية المسرحية من خلال الأنشطة التعليمية والتربوية، تؤمِّن انخراط الفرد في الجماعة كون هذه التربية في أساس تركيبتها عملاً جماعياً. كما تؤمِّن تبادل الخبرات من خلال التفاعل الضروري بين عناصرها لإنجاح العمل. من جهة أخرى فإن النشاط المسرحي يتيح للمشتركين فيه مناقشة العمل جماعياً وتحليله ووضع الحلول الملائمة للمشاكل المطروحة والناتجة عن التفاعل بين الأفكار والاستنتاجات المختلفة.

إنَّنا من خلال ما تقدَّم، لا نهدف إلى تحميل التربية المسرحية عبئاً فلسفياً يمنحها الشرعية الوجودية كعلم قائم بحد ذاته، بل، إلى تثبيت مشروعيتها التربوية كوسيلة مساندة ومساعدة في العملية التربوية، انطلاقاً من انسجامها مع الفلسفات التربوية الحديثة، وفي طليعتها الفلسفة البراغماتية.

*استنتاجات:

 في نهاية هذا البحث نخلص إلى مجموعة استنتاجات هي الآتية:

  • التربية المسرحية هي ظاهرة مركبة ومستقلة لها مرجعيتها الفلسفية وأساليبها وأهدافها.
  • التربية المسرحية هي ظاهرة تربوية فنية جديدة تواكب النظريات التربوية الحديثة المعتمدة في غالبية الانظمة التربوية المتطورة.
  • تنحاز التربية المسرحية كظاهرة تربوية الى الفلسفة البراغماتية بقدر ما تبتعد عن الفلسفة المثالية التقليدية انطلاقاً من تحديد هويتها كوسيلة تربوية عملية وليس كفن جمالي قائم بحد ذاته.
  • إن اعتماد البراغماتية كموجه فلسفي للتربية المسرحية ينسجم تماماً مع سبب وجودها في مؤسسة المدرسة أي المساهمة في بناء شخصية التلميذ- المواطن – الانسان، وتهيأته للحياة العملية والواقعية والاجتماعية.

الخلاصة: هذا البحث بمرجعياته وآلياته ونتائجه ليس سوى بداية الطريق في عملية البحث العلمي المتعلقة بالتربية المسرحية، وهو يحاول الاسهام في وضع الأسس الفلسفية لهذه الظاهرة الحديثة التي لا بد من القيام بابحاث كثيرة ومتنوعة تطال مختلف جوانبها النظرية والتطبيقية لكي تأخذ مكانها الطبيعي في العملية التربوية، ولكي تؤدي الدور المرجو منها في تحقيق الاهداف العامة التي تسعى مؤسسة المدرسة ومؤسسات الابحاث التربوية والاجتماعية إلى تحقيقها.

الهوامش:

  • د. منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية، دار النهضة، بيروت 1981، ص.271.
  • نقلاً عن: في اجتماعيات التربية، دار النهضة، بيروت 1981، ص.42.
  • أنظر: المعجم الفلسفي المختصر، دار التقدم، موسكو، 1986، ص. 101
  • أنظر: د. علي يونس، التطهير في الفن المسرحي من أرسطو وحتى عصرنا الحاضر، مجلة أوراق جامعية، رابطة الاساتذة في الجامعة اللبنانية، بيروت 1999، ص.383
  • محمد الناصف، في التربية والتعليم، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1981، ص.54
  • المعجم الفلسفي المختصر، دار التقدم، موسكو1986، ص.431-433
  • المرجع السابق.
  • أنظر: مناهج التعليم العام ما قبل الجامعي، منهج المسرح، المركز التربوي للبحوث والانماء،1997
  • جون ديوي، الخبرة والتربية، ترجمة محمود السيوفي ويوسف الحمادي، دار المعارف.القاهرة 1954 ص. 15.
  • محمد الناصف، في التربية والتعليم، الشركة التونسية للتوزيع، تونس 1981، ص.9
  • أولا ستينا نيلسون، الدراما الابداعية، ورشة الموارد العربية- بيسان للنشر والتوزيع، بيروت،ب.ت.، ص.20
  • أنظر “مناهج التعليم العام الجامعي الصادرة عن المركز التربوي للبحوث والانماء في لبنان – منهج المسرح” 1997
  • كوستي بندلي، الولد الخجول وتربية الثقة بالنفس، جروس برس، طرابلس 1994، ص.56
  • م.س. في اجتماعيات التربية ص.107.
  • نسبة إلى نيكولو دي برناردو دي ماكيافيلّي (بالإيطاليةNiccolò di Bernardo dei Machiavell) ولد في فلورنسا 3 مايو 1469، وتوفي في فلورنسا في 21 يونيو 1527، كان مفكرًا وفيلسوفًا سياسيًا إيطاليًا إبان عصر النهضة. أصبح مكيافيلي الشخصية الرئيسية والمؤسس للتنظير السياسي الواقعي، والذي أصبحت فيما بعد عصب دراسات العلم السياسي.
  • د. موسى شرف الدين، الكفاءات الانسانية-إنماء وتطوير، منشورات مؤسسة الحريري، بيروت، ب.ت. ص.15
  • فواز فتحالله الراميني، سيكولوجية الطفل وتعلمه، دار الكتاب الجامعي، العين،2006، ص.36
  • في اجتماعيات التربية ص.55.
  • د. رياض سليم، التربية والثقافة في زمن العولمة، الدار الوطنية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 2005، ص.40
  • جون ديوي، التربية والديموقراطية، ص.9 و10، نقلاً عن: د. منير المرسي سرحان، في اجتماعيات التربية.
  • في اجتماعيات التربية، ص.52.
  • د. حسن رزق عبد النبي، المسرح التعليمي للأطفال (مسرحة المناهج)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993، ص.13.
  • في اجتماعيات التربية ص. 107.

———————————————

(*) استاذ المسرح في معهد الفنون الجميلة – الجامعة اللبنانية

(*) نشرت في مجلة الفكر التقدمي العدد 22 – كانون الاول 2015