رحيل مطاع صفدي الوحدوي: جيل القدر

د. قصي الحسين

بعيداً من الأرشفة الدقيقة لحياة ومواقف وكتابات واسهامات، المفكر العربي الوحدوي، مطاع صفدي الذي رحل مع ذكرى نكسة حزيران 1967 التاسعة والأربعين الذي حمل آلامها لأكثر من نصف قرن تقريباً، هو القادم من دمشق قلب العروبة النابض، كما كان معروفاً في مطلع القرن الماضي، بأصوله الفلسطينية التي يشي بها نسبه، يمكن لي أن أقول في رحيله: إن الذي تعرفت إليه في ثمانينات القرن الماضي، والذي رحل مع غروب شمس الخامس من حزيران العام 2016، “أن جزءاً مني رحل. إنه الجزء الأكبر”، كما قال جورج فورمان في رحيل محمد علي كلاي. (الحياة: 5/6/2016، ص 1)

لا أريد أن أتحدث عنه قبل معرفتي به. فأنا أدع ذلك لغيري، ممن رافقوا نشأته الأدبية والفكرية بين الثلاثينيات والستينيات من القرن الماضي. غير أني أتحدث عنه منذ تعرفت إليه مديراً في معهد الإنماء العربي في الرملة البيضاء في بيروت ورئيس تحرير لمجلة الفكر العربي التي كانت تصدر عنه. وكان مطاع صفدي رجلاً يملأ ثيابه، أقله في نظري، أنا الذي كنت مأخوذاً بعروبته، ومأخوذا بوحدويته ومأخوذاً بصداقته للرئيس جمال عبد الناصر ومأخوذاً بحداثته، ومأخوذاً بدفاعه عن القضية الفلسطينية وموقفه الجريء من عبث الأنظمة والكيانات العربية السادرة والهشة منها على حدّ سواء.

وعندما خرج مطاع صفدي كبيراً من باب معهد الإنماء العربي ومودعاً، حمل طينه طينة، أرسى بها حجر الأساس لمركز الإنماء القومي في رأس بيروت. وقد كنت من بين ثلة من الكتاب والباحثين الذين يعملون في هذا المركز إلى جانب رئيسه مطاع صفدي في جميع مشروعاته البحثية التي كان يطلقها أو ينشرها: 1- مجلة الفكر العربي المعاصر. 2- مجلة العرب والفكر العالمي. 3- مشروع الينابيع، (الذي ترجم مؤلفات كثيرة لكبار المفكرين الغربيين البارزين، في الفلسفة والفكر والأدب واللغة والعلوم. 4- بنك المعلوماتية حيث كان يرفد الصحف والمجلات التي تصدر في العواصم العربية، بأبحاث كتاب المركز اليومية والدورية مثل: مجلة أقلام ومجلة الطليعة في بغداد وجريدة القبس في الكويت، وبعض الجرائد والمجلات التي كانت تصدر في المغرب والجزائر وتونس.

 مطاع الصفدي

هذه المروحة الواسعة من النشاطات البحثية في جميع الشؤون الثقافية والفكرية والعلمية، والتي كان مركز الإنماء القومي في بيروت يشع بها على العالمين:العربي والغربي، كان قد جعل من نفسه في المقابل منارة ثانية في بيروت بجوار منارة بيروت التاريخية، تشع علماً ومعرفة لهداية المثقفين والكتاب، اللبنانيين والعرب، جيلاً بعد جيل. فأسس بذلك لعهد من المؤاخاة ليس بين الأجيال وإنما بين أبناء الجيل الواحد من الكتاب اللبنانيين والكتاب العرب والكتاب الغربيين.

أطلق مطاع صفدي يدي وعقلي، باحثاً وكاتباً ومصنفاً ومحققاً. وأمثالي كثر ممن تعاونوا معه في العواصم العربية أو في العواصم الأجنبية. وكنت أرى مكتبتي تعمر بالكتب عاماً إثر عام. وكنت أرى أبحاثي ومقالاتي ومؤلفاتي، سنابل في حقل مركز الإنماء القومي بإصداراته اليومية والشهرية والسنوية. وكانت مكافأة المقالة الواحدة تعدل راتبي كأستاذ جامعي. وكانت هذه المكافآت المادية، أعظم منها المكافآت المعنوية، التي تردف الأستاذ الجامعي بالأبحاث الأكاديمية الأصيلة. ولا غرو، فقد حزت رتبة أستاذ مساعد لثلاثة أبحاث منشورة في مجلة الفكر العربي المعاصر، ورتبة أستاذ لخمسة ابحاث: منها ثلاثة أبحاث صدرت عن المجلة نفسها. وقد أسهم المركز بتحويل كتاب الفرنسية والإنكليزية إلى الكتابة باللغة العربية. وهذا بحد ذاته إنجاز من إنجازات مركز الإنماء ومشروع حميد من مشروعات مطاع صفدي، الذي رحل وترك في يدي أيضاً أكثر من عشرة آلاف كتاب وموسوعة، تماماً كما ترك في عقلي وقلبي، أكثر من خمسين كتاباً مطبوعاً وأكثر من ألف مقالة منشورة. هي كلها إرثه في نفسي وفي خزائني وفي بيتي.

وقيل عن “مركز الإنماء القومي” ومجلة “الفكر العربي المعاصر” ومجلة “العرب والفكر العالمي” و”الينابيع”، أنها أدت دوراً رئيسياً في ترسيخ الفكر العربي الجديد، من خلال تقويمها نتاج المفكرين العرب، إضافة إلى تقديمها صورة شاملة للفكر الغربي الحديث والراهن، وخصوصاً الترجمات التي نشرت لفلاسفة من أمثال: مارت هيدغر وميشيل فوكو، وجيل دلوز وجاك دريدا.

غير أن النتاجات الأدبية والعقلية والفكرية والفلسفية، التي أبدعها المفكر العربي مطاع صفدي، قد تكون أكثر مما أعرف من أعماله: فلسفة الحق والثورة في التجربة واستراتيجية التسمية في نظام الأنظمة المعرفية ونقد العقل الغربي: الحداثة ما بعد الحداثة، دراسات في الفلسفة الوجودية وبراءة الصيرورة، بالإضافة إلى روايتين كبريين هما: “جيل القدر” و”ثائر محترف”، ومجموعة قصصية عنوانها “أشباح أبطال”، وهي بمجملها، تعبر عن مساره الفكري والسياسي، بنـزعة وجودية قومية. وسرعان ما كنا نراه ينتقل بعدها إلى فلسفة ما بعد الحداثة ويصير من روادها والمنادين عليها في الثقافة العربية.

يقول جميل قاسم، أن مطاع صفدي أطلق سؤال الفلسفة الذي هو سؤال الكينونة الوجودي، المنفتح على فلسفات الاختلاف التفاضلي. وأنه لذلك أسس في المختلف (الحياة 8/12/2016، ص 17). ولا غرو، فقد نقل الفلسفة من سلطان الواحد، إلى الحاضر الكلي الحضور والمختلف أيضاً. وبذلك يكون العقل، هو الوحيد الذي أنتج مشروعه بواسطة النقد، ونقد النقد بالقطيعة المعرفية، من إنتاج نفسه، حتى صارت ايقاعه الخاص.

وحين يتحدث عن الحداثة البعدية (ما بعد الحداثة) يرى أن الواحد لم يعد له في أشكاله العديدة: التيولوجي والإنسانوي والعنصري والطبقي، السلطة المطلقة. وهذا ما يمهد لإبطال المنطقوات الثنائية والبينية كما يمهد لأن يأتي العقل العربي نفسه، عبر ما يأتي به العقل الغربي، بالمثاقفة. فالترائي مع الآخر عند مطاع صفدي، إنما يتم من خلال الترجمة، ومن خلال القراءة لسؤال الفكر اللاشرقي واللاغربي عن الفكر المحض في جدالية الخاص والعام والذات والآخر.

وإذا كان مطاع صفدي قد أعطى كل ما عنده في سؤال الفكر واللامفكر فيه، فلأنه رأى أن الفكر إنما هو انفتاح نحو اللامفكر فيه. أما الفلسفة، فهي مجرد اصطلاح مجرد. وهو الذي يقول: إن هيدغر فيلسوف العصر الحديث، كان يفضل صفة المفكر Dinker على الفيلسوف.

أما مطاع صفدي بصفته كمفكر عربي وحدوي، فنحن نراها مبثوثة في أعماله الروائية ابتداء من “جيل القدر”، وفي أعماله النقدية ابتداءً من “استراتيجية التسمية”. وهو الذي رأى أن الأنظمة والكيانات العربية جميعاً جعلت من الجيل العربي، جيل القدر، بعد هزيمتها في العام1948 أمام العدو الصهيوني، وبعد نكستها في العام 1967، وبعد تراجعها في العام 1973. وقد أصيبت هي نفسها بفجيعة من جراء السلوك الساداتي، حين قرر الخروج عن معسكر العروبة إلى المجهول، وقهر نفسه بالذهاب إلى القدس المحتلة، ثم قهرها باستقبال بيغن في الإسماعيلية، فكان يرى في ذلك ما أفرغ السياسة العربية من التضامن العربي.

وقد سجل مطاع صفدي في ذلك مواقف عديدة متقدمة، إن في الحديث عن التلاعب الأميركي على مصر بكامب ديفيد، أو بالحديث عن جنوب لبنان في المسؤولية العربية، أو عن تحول إيران من الشاهنشاهية إلى جمهورية إسلامية. ورأى باكراً الثنائية القائمة اليوم بين موسكو وواشنطن وما تحمله من خلط أوراق في الشرق الأوسط، ومن ترسيم حدود لما بعد سايكس بيكو. فمطاع صفدي المفكر الوحدوي الذي عاش في “جيل القدر” حاول أن ينتصر عليه برؤياه الحديثة التي نادى بها في “استراتيجية التسمية”.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث