عن أهمية فصل السلطات في الانظمة الديمقراطية

بقلم د. ناصر زيدان

يستند مونتسيكو في نظرية فصل السلطات على مقاربة تعتبر ان للدولة وظائف “جوهرية” مُتباينة من حيث طبيعتها، ولا يمكن ان تُمارس إلا منفصلة عن بعضها البعض. ومنتسيكو مفكر فرنسي (1689 – 1755) كان من مؤسسي هذا المبدأ، وعالج مُبرراته بالتفصيل في  كتابه الشهير (Espirt De Iois).

التقسيم الطبيعي لوظائف الدولة قديم العهد، وتعود اهم مندرجاته التقليدية الى ما اورده الكاتب الانكليزي جون لوك في مؤلفه “بحث في الحكومة المدنية” الصادر عام 1690. وقد اشار جون لوك؛ الى ان مهام الدولة المُتعدِدة، لا يمكن ممارستها من جهة واحدة، فهي بطبيعة الحال تحتاج الى تقسيم العمل، بين جهات تهتم بإنتاج القوانيي (السلطة التشريعية) وجهات مهمتها تطبيق هذه القوانيين (السلطة التنفيذية)، اما حل النزاعات الناتجة عن تطبيق القوانيين او مخالفتها؛ فهي تحتاج الى جهةٍ محايدة مهمتها البث بهذه النزاعات، وتصويب تطبيق القانون وتُسمى (السلطة القضائية).

والفصل بين السلطات ضرورة موضوعية، لا بد من تطبيقها في الانظمة الديمقراطية؛ سواء كانت ملكية او رئاسية او برلمانية. وعدم فصل السلطات؛ يؤدي حكماً الى الإستبداد، او الإنحراف، او تجاوز حدود ممارسة المسؤولية، وقديماً قيل “السلطة المُطلقة مفسدةٌ مُطلقة”

وتوزيع السلطات بين ثلاث جهات، يحمي الناس من طغيان الحكام، وبالتالي نكون امام توازن يُشكِلُ ضرورة لسير عمل الدولة على الشاكِلة الصحيحة. فالبرلمان (بمجلس واحد او  بمجلسين) هو مؤسسة مُستقلة وسيد نفسه، لا يخضع لهيمنة اية جهة، لا من حيث إنشائه (لأنه يُنتخب من الشعب)، ولا من حيث ادائهِ. واعضاءه يتمتعون بالحصانات الضرورية؛ لكي تحميهم من هيمنة السلطة التنفيذية، او من بيروقراطية السلطة القضائية؛ هذا اذا كانت عادلة.

اما الحكومة؛ فهي السلطة التنفيذي في الدولة، مهمتها تطبيق القوانيين ورعاية شؤون المواطنيين ومصالحهم. ولا فرق في المهمة إذا كانت مُناطة بمجلس وزراء يرأسه وزير اول (كما في بريطانيا) او بمجلس وزراء يقوده رئيس الدولة (كما في الولايات المتحدة الاميركية) ولا يوجد فرق كبير في فصل السلطات بين النظام الرئاسي او البرلماني او النصف رئاسي؛ حيث لكل منهم قواعد تأثير على الآخر. وعلى سبيل المثال: يمكن للحكومة ان تَحُلّ البرلمان وتدعوا لإنتخابات مُبكِرة في بعض الحالات، والبرلمان بطبيعة الحال لديه القدرة على إقالة الحكومة، واعطاء ثقة لحكومة جديدة.

السلطة القضائية؛ تُشكِل ضمانة للأنظمة الديمقراطية، كونها تمتلك حق الفصل بين النزاعات الناتِجة عن الاداء، او عن الاعتداءات على حقوق الغير. ويمكن لهذه السلطة ان تكون ذات نظام قضائي واحد (كما في بريطانيا) ويمكن ان تكون مُتعدِدة الاشكال، اي انها تتشكَّل من محاكم دستورية و ومحاكم عدلية ومحاكم ادارية (كما في فرنسا ولبنان مثلاً).

*اهمية فصل السلطات في استقرار الدولة

من اهم مباديء الاعلان الفرنسي لحقوق الانسان والمواطن؛ او ما أطُلق عليه “بيان الثورة” في العام 1789؛ كان تحقيق الفصل التام بين السلطات، ورفع هيمنة الحاكم عن القضاء، والغاء كل تمييز بين المواطنيين، بما في ذلك حلّ المحاكم الخاصة التي كانت تفصل في نزاعات طبقة النبلاء، وتوحيد المحاكم بحيث تُصبح موحدة يخضع لها كل المواطنيين سواسية.

ان خضوع السلطة القضائية لهيمنة السلطة التنفيذي؛ يُشكِلُ العيب الابرز في مسيرة الدولة. كما ان تشريع “غب الطلب” الذي تطلبه الحكومة من البرلمان بموجب “المونة الزائدة” من اركان السلطة التنفيذية على البرلمان؛ يُنتج خلل لا تتوقَّف مفاعيله في اللحظة الراهنة، بل ان هذا التشريع الذي يحمل صفة “الارتجال” قد يُعطي مفاعيل عكسية على المدى الطويل، ويُهدد استقرار الدولة برُمته، ذلك ان مبدأي؛ الشمولية والانصاف، قاعدتان ضروريتان لممارسة الاداء التشريعي، ويؤكد على هذا الامر؛ كون السلطة التشريعية ” جماعية ” ولا يمكن ممارستها من قبل شخص او اشخاص مُحددين، كما يمكن ان يحصل عند السلطات الأُخرى في الدولة.

عندما مارست بعض الانظمة ذات الطابع الامني – او العسكري – المزج بين سلطات الدولة، وحصرتها بمجموعة نافذين بقوة الامر الواقع؛ حصل الخطأ الكبير، واسست هذه المعادلة لديكتاتورية مُقنَّعة، اطاحت بمنجزات السلطة، وافسدت مهام الدولة وحرفتها عن وظيفتها الاساسية في خدمة كل الشعب، وتحولت الى خدمة الفئة الحاكمة ومَن يدور في فلكها.

تعاظُم دور الدولة في الحياة العصرية؛ يُلزِم الفئة الحاكمة بمُمارسة العدالة في ادائها. ولعلَّى ابرز وجوه العدالة في ممارسة الحكم؛ هو الاحترام الالزامي لفصل السلطات، وعدم الخلط بين المهام. ونزاهة الحاكم، او عدالتهِ؛ ليستا ضمانة لعدم ممارسة الطغيان، نظراً لتوسُّع اجهزة الدولة وتنوعها، وتمدُّد صلاحياتها أُفقياً وعمودياً، بحيث يستحيل مع هذا الانفلاش الضروري تحقيق رقابة شخصية من الحاكم بشكلٍ مباشر، ذلك لأن هذه الوظيفة اكبر من طاقة الاشخاص الفردية، ولا بد من وجود مؤسسات مُتخصِصة تقوم بهذه المُهمة.

والمؤسسات التي يجب ان تضطلع بمهام الدولة من جوانبها المُتعدِدة؛ لا بد ان تتمتع بالاستقلالية التي تحميها القوانيين.

*تجربة فصل السلطات في لبنان: بين الواقع والمُرتجى

تنص مُقدمة الدستور اللبناني في الفقرة (ج): ان لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية، تقوم على احترام الحريات العامة. وفي الفقرة (هـ) جاء: ان النظام قائم على مبدأ فصل السلطات وتوازيها وتعاونها.

تزخرُ التجربة اللبنانية بالكثير من الحريات والقليل من الديمقراطية على حد تعبير رئيس الوزراء الاسبق د.سليم الحص. وتكاد الحريات المُتفلِّته ان تصل الى حدود غير مقبولة، بحيث يمكن لمسؤول في اي موقعٍ كان؛ ان يمارس اداءه الوظيفي وفقاً لأهوائه الشخصية، وبحرية تامة، مُستنداً الى تداخلات فيها عوامل مُتعدِدة؛ منها مدى قربه من احدى المرجعيات، او قدرته على تطويع، او محاباة، اجهزة الرقابة. ويمكن لأي شخص في موقع مُتقدم ان يتدخَّل في شأن ليس من صلاحياته، لأنه لا يخاف من المحاسبة، او لأن الحدود التي تفصل بين صلاحيات هذه المؤسسة العامة او تلك؛ غير واضحة المعالِم.

تمَّ خرق مبدأ فصل السلطات في الدولة اللبنانية – وبالتالي خرق الدستور – مراتٍ عديدة، ووصلت الاجتهادات الغريبة التي أُعتمدت في العديد من المرافق – التشريعية والتنفيذية وحتى القضائية – الى مراتب مُتقدِّمة، بحيث دخلت المهام التشريعية في صلب العمل التنفيذي احياناً ومن دون تفويض، كما عاش لبنان نظاماً مجلسياً (نسبة الى تحكُّم مجلس النواب) في اكثر من مرحلة. ودخلت السلطة القضائية – خصوصاً القضاء العسكري – في لعبة التجاذبات السياسية في مرحلة ماضية (خصوصاً إبان الوصاية السورية التي استمرَّت من العام 1976 حتى العام 2005)، وكانت بديلاً للرقابة البرلمانية، او انها مارست بعض التسلُّط على السياقات المدنية. وفي الشؤون الامنية والسياسية؛ احياناً كانت هذه التدخلات المُتنوعة عن قصد، واحياناً أُخرى كانت بدافع الضرورات الوطنية- او الوجودية. وفي مُعظم المرَّات؛ استندت الى إجتهادات لم تحصل شبيهات لها في دول أُخرى.

ووفقاً لهذه المقاربة السابقة، يُمكن إدراج مجموعة من الامثِلة على التداخُل غير المقبول في الصلاحيات بين السلطات الثلاث، كما بين المؤسسات المتنوعة في السلطة الواحدة، لاسيما في السلطة التنفيذية، وشهد لبنان في المرحلة القريبة الماضية؛ تجاوزات عديدة لم تقتصر على سلطة واحدة، بل شملت البرلمان والحكومة والقضاء.

-البرلمان (السلطة التشريعية) يحاصر الحكومة، ولا تتمكن الحكومة من حلِّه. فخلال الاعوام 2006 لم يجتمع البرلمان رغم طلب الحكومة، بدافع تعطيل التشريع في ملف طلبته الحكومة ذاتها، وهو الإجازة لها إبرام معاهدة مع مجلس الامن الدولي لإنشاء محكمة دولية مُختلطة، لتعقُّب قتلة الرئيس رفيق الحريري ورفاقه، مما اضطرَّ الحكومة الى التوافق مع مجلس الامن على إنشاء المحكمة بقرار دولي، وساهمت فيها الدولة اللبنانية من دون غطاء تشريعي، علماً ان الاتفاقيات الخارجية عادةً يجب ان تُعرض على البرلمان لتصديقها. ومنذ العام2006 لغاية صيف العام 2016، يمتنع مجلس النواب عن إقرار موازنة الدولة، وتُنفق الحكومة الاموال العامة عن طريق القاعدة الاثني عشرية، علماً ان هذه القاعدة تُعتمد لتغطية مصارفات لبضعة اشهر إذا ما تأخر تصديق الموازنة من قبل مجلس النواب، ولا يمكن ان تُعتمد كقاعدة قانونية للصرف الدائم ؛ عملاً بمبدأ “سنوية الموازنة”، ومراعاةً للتضخُّم. اما الاعتمادات الاستثنائية التي يُقرها مجلس النواب ويسمح بموجبها للحكومة بالصرف الإضافي؛ فلا يمكن ان تُشكِّل بديلاً عن الموازنة العامة، خصوصاً ان هذه الاعتمادات تجاوزت قيمتها مُجمل الانفاق الذي أُقرَّ في قانون موازنة العام 2005، بحيث وصل رقم الإنفاق العام للدولة في نهاية العام 2015 الى 20655 مليار ليرة، بينما ما رصدته موازنة 2005 لا يتجاوز ال 10000 مليار. كما ان عدم إقرار الموازنة طيلة عشر سنوات يعتبر بمثابة الرد لها، مما يُوجِب على الحكومة حل البرلمان وفقاً لما تنص عليه الفقرة – 4- من المادة 65 من الدستور.

-الحكومة اللبنانية (السلطة التنفيذية) تجاوزت مبدأ فصل السلطات مرات عدة. والمراجعة التي قدمها كل من الرئيس السابق حسين الحسيني والنائب غسان مخيبر والوزير السابق الياس سابا امام مجلس شورى الدولة، والتي تطالب بإبطال نفقات الحكومة لزيادة الرواتب والاجور عام 2015، لأنها لا تأتي من ضمن الموازنة كما يفرض القانون؛ كانت بمثابة الدليل الواضح على تجاوز حد السلطة، برغم ان مجلس الشورى رد هذه المراجعة بالشكل (وليس على المضمون)، لتناقضها مع المادة 106 من نظام مجلس شورى الدولة الذي يفرض ان يكون صاحب المراجعة، مُستفيد، او مُتضرر من الوضعية، وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق على اصحاب المراجعة السابق ذكرهم من الرؤساء والوزراء السابقين والنائب الوارد ذكرهم اعلاه .

وهناك امثال عديدة على تداخُل صلاحيات السلطة التنفيذية مع السلطة القضائية، حيث ما زال تعيين القضاة في لبنان يخضع لقرار مجلس الوزراء، كما يتم تعيين اهم المواقع القضائية بنفس كيفية تعيين موظفي الفئة الاولى، خصوصا منهم رئيس مجلس القضاء الاعلى ومدعي عام التمييز ورئيس هيئة التفتيش القضائي والمدعى العام المالي. كذلك فإن التشكيلات القضائية؛ تشطرِت موافقة وزير العدل عليها قبل ان تُصبح نافذة. وهذا الامر يَمسُّ بإستقلالية السلطة الثالثة، وربما يؤثر على بعض اعمالها.

قانون المجلس الدستوري رقم 250/1993 الذي صدر بموجب المادة 19 من دستورالعام 1990( وهو هيئة مستقلة لها صفة قضائية وفقاً لما جاء في المادة الاولى من القانون) ينص على آلية لتعيين اعضائه العشرة فيها كثير من التشابك، لاسيما لناحية اختيار خمسة من هؤلاء من قبل مجلس الوزراء بأغلبية الثلثين، وهذا التعيين يُدخِل تأثير من السلطة التنفيذية على جانب من السلطة القضائية العليا التي يمثلها المجلس الدستوري كمرجع للبث بالنزاعات الناتجة عن تجاوز التشريعات للقانونالدستوري، وللمجلس الدستوري وحده حق الفصل في الطعون الناتجة عن الانتخابات النيابية والرئاسية، وهاتين المهمتين قضائيتين بطبيعتهما. علماً ان الاعضاء الخمسة الآخرين في المجلس الدستوري ينتخبهم مجلس النواب.

الوزير السابق الياس سابا قال في اعقاب رد مجلس شورى الدولة لمراجعتهم حول عدم قانونية الصرفيات من دون اقرار الموازنة: “ان القُضاة في لبنان يأتون بقرار سياسي، وبالتالي فهم يدافعون عن مصالح السياسيين بطبيعة الحال”.

والامثِلة على تجاوز حد السلطة، وعلى عدم الفصل تماماً بين السلطات مُتعدِدة، فهناك مَن يبني منزلاً ببرقية تصدر عن مدير عام قوى الامن الداخلي مثلاً، رغم ان هذا الامر من صلاحية رئيس البلدية حصراً وفقاً للمادة 74 من القانون رقم 118/77.

لا يعني كل ما ذُكر ان لبنان ليس بلداً ديمقراطيا، او انه لا يمارس فصل السلطات، ولكن الشوائب الناتِجة عن سوء التطبيق كبيرةٌ جداً.

—————————–

*استاذ في العلوم السياسية والقانون الدولي العام

*تُنشر بالتزامن مع مجلة آفق الصادرة عن مؤسسة الفكر العربي