نيس.. الذكريات الجميلة والإرهاب المجنون

محمود الاحمدية

من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً (المائدة 32).

عام 1979 اجبرتنا ظروف الوطن المأساوية وظروف الشركة اللبنانية الكندية المصنعة للسقالات والقوالب الحديدية على الرحيل إلى مدينة نيس الفرنسية التي تقع على الريفييرا الفرنسية في الجنوب وعلى مقربة من ايطاليا ومن مونت كارلو… وعشت فيها قرابة الخمس سنوات كنت انطلق منها إلى شمال افريقيا وافريقيا السوداء في حركة دائمة لتسويق منتجات المصنع الرديف في كندا وبعض الوكالات الإيطالية… وكانت من اجمل ايام عمري حيث الهدوء والحضارة التي تشرقط في كل مكان ومنتزه الإنكليز واسواق الايس كريم والأخضر الذي يغطي على كل شيء ويسكن كل المساحات والبيتزا الإيطالية العابقة بالذوق الفرنسي الراقي…  وعندما غادرت مدينة نيس إلى الرياض في السعودية لنقل مركز عملي شعرت بكل لوعة فراق المدينة الحلم…

ومنذ عدة أيام وعندما ضج العالم كله بالجريمة المجنونة في نيس عندما اجتاحت شاحنة يقودها عربي تونسي وعربدت بطريقة بربرية لاتمت للحضارة بصلة ولا للإنسانية بصلة وعلى مدى كيلومترين عندما كان الناس يقيمون احتفالات على الشاطىء اللازوردي بمناسبة 14 تموز عيد الثورة الفرنسية, واجتاحت بدون شفقة او رحمة 84 مشاركاً من الحضور ومايتي جريح منهم أربعون في العناية الفائقة وكأن نار جهنم حرقت الأخضر واليابس… قتلهم ولم يرف له جفن حيوان بصورة انسان والمأساة الحقيقية تتجسد في استحضار طرق جهنمية للقتل والإرهاب مما يترك في ذاكرة المواطن الفرنسي العادي جرحاً لا يندمل وحدثاً لا ينتسى… ويلتصق في تفكيره بطريقة من الصعب عليه التمييز بين الإرهاب والاسلام واصبحت الصحف الفرنسية والمجلات تطلق على هذه الحالة (الاسلامو فوبيا)..

نيس

انها الحادثة الثالثة خلال سنة ونصف وقد نقلت الاخبار ان السلطات الفرنسية اكتشفت عصابة تحاول تسميم خزان الشرب لمدينة متز الفرنسية وهي افكار شيطانية لا تخطر على بال…

منظر لن أنساه على TV5, FRANCE 24, أم مغربية ماتت تحت عجلات الشاحنة واولادها التسعة حولها وهذا المنظر بحد ذاته يشكل نموذجاً لوحشية الإرهاب الذي لا يفرق بين مسلم ومسيحي ولا يهمه جنسية أو دين أو لون الضحايا المهم اكبر عدد من الضحايا…

والمنظر الثاني على نفس الأقنية طفلة مجروحة على سرير المعالجة في المستشفى عمرها ستة أشهر… هي مناظر يخجل منها مطلق أي انسان يشعر بانسانيته وكلمة نيس تعيش بين ضلوعي وتسكن قلبي وتضاعف حزني كمواطن عربي عندما ارى ةاشاهد كيف انهم ينحرون المبادىء والدين كل لحظة ويجعلون من كل مسلم عرضة للحقد والعنصرية التي استفاقت من رقادها… والعالم وعبر وسائل التواصل الالكترونية تحول إلى قرية صغيرة، فكل قوى اليمين المتطرف تعملق دورها وفلسفتها وعنصريتها وهذه الحوادث المرعبة بكل المقاييس اصبحت تعيش في تفاصيل حياة كل فرنسي ومنه الى كل اوروبي… وكم كانت دهشتي كبيرة عندما سأل التلفزيون الفرنسي احد المفكرين السياسيين العرب: لماذا برأيكم لم يتبنّ احد هذه العملية الإرهابية الإجرامية وكان الجواب: داعش نفسها تخجل تبني هذا العمل فهو بكل المقاييس خارج نطاق تحمل مجرد التفكير به والضحايا ال 84 وعائلاتهم وعائلات المايتي جريح سيبتلعهم حوت الخوف والرعب!! وكان البيان الصاعقة المفاجىءعندما تبنت داعش بعد يومين الحادث الإرهابي!! هُمُ ليسوا بِبَشَر!!.

نحن وباختصار شديد كعرب وكمسلمين علينا ان نقوم بتحرك يملأ الشوارع الأوروبية استنكاراً للإرهاب ونتبرأ بطريقة محسوسة من هذه الأعمال وحتى يجب ان تنتشر وعبر وسائل الإعلام مئات المرات وبطرق متعددة بيانات الاستنكار ويجب ان نثبت للعالم اجمع بصفة عامة وللشعب الفرنسي بصفة خاصة بان أول ضحايا هذا الإرهاب هم العرب والمسلمون وانهم براء من هذه الجرائم الإنسانية التي تدمر انسانية الإنسان…

يوم البارحة وعلى اذاعة “مونت كارلو” الدولية وفي تمام السادسة صباحاً سمعت خبراً اثلج صدري ودخل مسام الجسد مفاده ان وزيرة التربية  الفرنسية ذات الأصول المغربية ~أقرت قانوناً باعتماد اللغة العربية في فرنسا وفي المدارس الفرنسية والجامعات ان تصبح احدى اللغات الثانية بعد الفرنسية وهي الاسبانية الروسية والانكليزية والآن العربية والتي يستطيع التلميذ اختيارها… هذا الخبر وزنه يعادل كل الاتزان والعقلانية والانفتاح والرد الرائع على كل العقول الشيطانية المدبرة لحادثة الشاحنة الإرهابية…

تحية لفرنسا وتحية لوزيرة التربية وتحية لكل مبادرة يقف وراءها رجال دولة تاريخيون يستوعبون الأخطار السلبية ويحولونها إلى ايجابيات لصالح شعوبهم بالرغم من كل المشاعر المؤلمة…

اقرأ أيضاً بقلم محمود الاحمدية

لبنان لن يموت

أكون حيث يكون الحق ولا أبالي

لماذا هذا السقوط العربي المريع؟!

جشع بلا حدود وضمائر ميتة في بلد ينهار!

جاهلية سياسية… بل أكثر!

معرض فندق صوفر الكبير والتاريخ والذاكرة

قال لي: عندما تهاجم الفساد ابتسم بألم!!

إذا أجمع الناس على مديحك سوف أطردك!!

التاريخ لا يرحم… يجب إعادة كتابته

ما هو دوري كوزير جديد؟

مشروع كمّ الأفواه تدمير للبنان الرسالة

الجامعتان اليسوعية والأميركية تنسحبان: التعليم العالي في خطر

السويداء في عين العاصفة

تقريران رسميان متناقضان عن تلوث بحر لبنان

في ذكراها الـ 74 اسمهان: قصصٌ خالدة

طبيعة بلا حدود ربع قرن من النضال البيئي

فريد الأطرش وشوبرت والفن العالمي الخالد

يوم البيئة العالمي: التغلب على تلويث البلاستيك

قطعة الماس في جبل من الزجاج

مسيرة منتدى أصدقاء فريد الأطرش تشع في دار الأوبرا في القاهرة