هل تذكرون المارونية السياسية؟

ناهي نصر الدين

أنباء الشباب

“المارونية السياسية” هي ذاك التعبير القديم المرتبط بكل ما يذكرنا بماضي للسياسة اللبنانية، أيام كان الانقسام بين الحركة الوطنية من جهة واتحاد الأقطاب المارونية من جهة أخرى. وكانت الحركة الوطنية قد بنت على تطبيق المارونية السياسية مواقفها المعارضة للتحالف الماروني القديم. وبذلك كانت المارونية السياسية  من أبرز خلافات التحالفين العريقين ان بالسياسة أو في بداية الحرب. وتعبير المارونية السياسية أخذ يبدل من أشكاله ومفهومه تدريجيا منذ اندلاع الحرب الأليمة ليومنا هذا. فما هي العوامل التي ساهمت في تلك التغييرات؟ وما هو الشكل الذي أخذته اليوم؟

تحالف المارونية السياسة القديم كان يضم بشكل أساسي حزب الكتائب اللبنانية وحزب الوطنيين الأحرار. أما الاحتضان لهذه القوة فكان من الغرب؛ بدءاً من فرنسا التي كرست “مارونية لبنان” أيام الانتداب، وصولا للدعم الأميركي والبريطاني لاحقاً.

الجبهة-اللبنانية

وكان  للمارونية السياسية القديمة، مراحل ومتغيرات عديدة. والمرحلة الأولى والأهم هي ظهور قوى جديدة في الحرب الأهلية. وهذه القوى هي القوات اللبنانية، والجنرال ميشال عون. وحرب الإلغاء بين الفريقين الجديدين، قد مثلت بداية إلغاء المارونية السياسية التقليدية بحكم الخلاف الذي مثلته بين القوى المسيحية. وفي حين أنّ الكتائب، قد خسرت الكثير من دورها عندما ازاددت قوة عون والقوات، ثم أن نزاعهما مزق لحمة الأسرة الواحدة، دمر بهذا بيت “المارونية السياسية الأساسية” التي كان لها الدور الأبرز في بداية الحرب.

وبعد الحرب الأهلية، انتقل لبنان إلى حقبة الوصاية السورية. وتلك الحقبة قد امتازت بالخلاف الكبير بين النطام السوري والزعامات المسيحية. فكان الرئيس أمين الجميل والجنرال ميشال عون في المنفى والدكتور سمير جعجع بالسجن. فأي مارونية سياسية في ظل تغييب الزعماء الموارنة؟

ولكن في ذلك الوقت، برز دور المنظمات الشبابية للأحزاب المسيحية، التي كانت فعلا الصوت الرافض للوصاية. ولعل شعور الحزبيين الجدد بالاضطهاد الجماعي من قبل القوى الأمنية آنذاك، قد جعل رابطا فيما بينهم في حقل اللاوعي الجماعي. وهذا الشعور بالمصير الواحد لدى الشباب المسيحي، جعلهم يتخطون حرب الإلغاء وبذلك ظهرت بدلا عن “المارونية السياسية” “مسيحية نضالية” وهي وحدة حال الشباب المسيحي آنذاك.

وعلى الصعيد السياسي، لعب البطريرك مار نصرالله بطرس صفير الدور الماروني السياسي الأهم لتلك الحقبة، من خلال مصالحة الجبل التاريخية، عدا دوره الكبير في تأمين الحماية لغالبية المسيحيين المغضوب عليهم من قبل النظام السوري نظرا لمكانة بكركي التاريخية.

مار نصرالله بطرس صفير

أما “لقاء قرنة شهوان” فقد كان يمثل الوجدان المسيحي الرافض للوصاية. وكون هذا اللقاء مسيحي الطابع، فقد أخذ عن “المارونية السياسية” القديمة الانتماء والمرجعية المسيحية من دون النفوذ السياسي نظرا للخلاف مع الوصاية السورية آنذاك.

وفي تلك الحقبة كان الدور الماروني البارز للوزير سليمان فرنجية الصديق التاريخي لآل الأسد. وبذلك لم  يبق من “المارونية السياسية التاريخية” في عهد الوصاية سوى الوجدان المسيحي.

أما اختفاء المارونية السياسية تماماً، يعود للأمس القريب في تحالف ١٤ آذار الذي سطّر تحالف جميع القوى المسيحية باستثناء فرنجية، مع أعداء الأمس أي الحزب التقدمي الاشتراكي  والشارع السني، وهما كانا الأساس مع  قوى اليسار في تشكيل “الحركة الوطنية” المعارضة بشكل أساسي للمارونية السياسية. فبعد تحويل الاختلاف لتحالف، إضافةً لتعدد القوى المسيحية، ودمج “الوجدان المسيحي” وهو ما تبقى من  المارونية السياسية  مع بعض أحزاب الحركة الوطنية سابقا، قد ولد لدى جمهور القوى المسيحية وجدانا وطنيا شاملا  تخطى المارونية القديمة. وما أصبح اللبنانيون يرون في “المارونية السياسية” سوى في تحالف الزعامات المسيحية ضمن قوى ١٤ آذار.

aoun_nasrallah

أمّا الضربة القاضية لإنهاء فكرة المارونية السياسية تماماً، فكانت في  انتقال الجنرال عون لحلف الثامن من آذار الموالي لسوريا، الذي كان يضم النائب فرنجية أساساً. ومع التحالف الجديد، اختفت المارونية السياسية بما حافظت عليه من اجتماع لكلمة المسيحيين، نظرا لأن عون شكل أغلبية مسيحية، وأصبح لجانب النظام السوري المعادي للغرب، علما أن الغرب الذي احتضن عون حين استاء منه السوريون، وهو الذي كان تاريخياً محتضن “المارونية السياسية” ومؤسسها أيضاً.

بعد انقسام المسيحيين بين الثامن والرابع عشر من آذار، وبعد بروز قوى سياسية جديدة  في الساحة اللبنانية، غابت صورة الوجه الماروني للبنان، الذي لطالما كانت له حصة الأسد فيه، أصبح المسيحيون فيه يطالبون بحقوقهم من جهة. ومن جهة أخرى بدأت ترتسم أفق الوضع السياسي الجديد، وخصوصا بعد عودة الحريري الى اللعبة السياسية، التي أتت مع ترشيح فرنجية لرئاسة الجمهرية. وترافقت مع تحالف الخصمين “عون وجعجع”.

كجميع الاستحقاقات الرئاسية، يدخل لبنان في دوامة الفراغ، المرافقة لترشيحات أهم الشخصيات المارونية. ولكن هذه المرة قد أسست الترشيحات لتحالفاتٍ جديدة قبيل الانتخابات. نظراً ترشيح الحريري  النائب سليمان فرنجية. وحلف “جعجع وعون” الجديد الذي تخطى فكرة ٨ و١٤ آذار حتى أصبح “مسيحي مسيحي” بامتياز.

فيما تكثر الآراء حول استحالة وصول عون وفرنجية للرئاسة، لكن نتائج تلك الترشيحات ظهرت كون عون وجعجع قد احتضنا مجددا الشارع المسيحي، وقد برزت جدية تلك التحالفات في الاستحقاق البلدي وفي النية لاستكماله نيابياً. فهل ستؤدي تلك المستجدات “لمارونية سياسية جديدة”؟

التحالف الجديد، وضع قوى الثامن من آذار في ورطة تحديد الرئيس بحيث أصبح كل من المرشحين من صفوفها. وهذا التحالف الجديد قد شكل وحدة كلمة أكثرية المسيحيين وبهذا أعاد الزعيمان المارونيين الحديثان “المارونية السياسية الجديدة” التي تمثل وحدة كلمة المسيحيين مقابل التحالفات الأخرى، بعيدا عن “الزعامة الفرنجية” التي وضعت لنفسها علامة صدق تاريخي بصداقتها التاريخية مع عائلة الأسد.

“المارونية السياسية” الجديدة الناتجة عن تحالف القوات والوطني الحر، أعادت الثقة لأغلبية الشارع المسيحي الذي فقد الثقة بزعمائه، وتحول من مواطن درجة أولى تاريخيا للمطالبة بحقوقه والمناصفة. وسيسعى هذا التحالف  الجديد تأمين مصالح وحقوق شارعه، وربما قد يطمح لأكثر من هذا في اعادة أمجاد الكتائب والأحرار قبيل الحرب.

عون-جعجع

 لقاء كلام الناس مع  وزير الداخلية نهاد المشنوق وضع آفاق التحالفات الجديدة. حيث باح بسرّ ترشيح الوزير فرنجية، وأكّد أنّ الترشيح أتى بطلب من بريطانيا للمملكة العربية السعودية ثم من المملكة إلى الحريري. وبهذا قد حصد فرنجية الدعم الغربي، خصوصا أن السعودية بحاجة أن تكسبه كحليف و تلحق بحزب الله والنظام السوري خسارة سياسية. علما أن عون الذي يمثل ركنا من المارونية الجديدة، قد خسر ثقة الغرب منذ ذهابه بالاتجاه السوري. ومن هنا يبدو أن “المارونية الجديدة” عليها أن تبحث عن دعم خارجي غربي كي تستمر.

أمّا بيضة قبان التحالف الجديد في الشارع المسيحي، هو “المارونية السياسية التاريخية” أي حزب الكتائب. وفي حال وضوح صورة التحالف أكثر، خصوصاً قبيل الانتخابات النيابية، فالأنظار على “فتى الكتائب سامي الجميل” وهو الزعيم الماروني الجديد رئيس الحزب المسيحي الأقدم، وربما تحديد موقفه في التحالفات النيابية الجديدة ستتحدث عن مدى قدرته لإعادة استيعاب الشارع المسيحي في صفوفه. وفي كل الأحوال تحالفه سيكون محلا للجدال، إن قرر اللحاق بوليدي حزبه الذان أخذا القرار بعيدا عنه، أو الاتجاه نحو آل فرنجية الذين لم يتفقوت يوما مع آل الجميل.

أمّا الفرضية الثالثة المتعددة الأبعاد إن استطاع الجميل إيجاد تحالف ثالث، وحينها سيكون الكتائب الذي هو “أساس المارونية السياسية” خارج صورتها الجديدة. ولكن أقله يكون حفظ مكانته التاريخية. وإن نجح الجميل في إعادة شعبية الكتائب وإن فاز بدعم خارجي- وهذا ما يمكن أن يميزه عن عون وجعجع-، يمكن لهذه الفرضية أن تكون مستقبل إعادة تربع الكتائب على عرش “المارونية السياسية”.

كل الاحتمالات رهن الظروف وتأثيراتها، و الظرف الأهم هو موقف حزب الله القريب جداً من فرنجية والبعيد عن الحريري والسعودية، والقريب من عون والبعيد عن جعجع. ففي كلا الحلفين عدوٌ وصديق، لذا قد وضع حزب الله بموقفٍ محرج لا يحسد عليه مع احتمال أن ينأى بنفسه في الانتخابات النيابية، خصوصاً أن معظم مقاعده بمناطق لا وجود فيها للتحالفات المذكورة، وبهذا سيخوض المعركة النيابية كما البلدية حيث خاضها بالتحالف مع أمل ضد الشيوعي والمجتمع المدني وبهذا تكون البلدية خير استعراض لقدراته السياسية. لكن حسم موقف حزب الله من “المارونية السياسية” الجديدة مرهون بوضعه وقوته ونفوذه، بعد الأزمة  السورية.

كما يبدو من الأحداث والتحالفات السياسية الجديدة، فإنّ أزمة الرئاسة اللبنانية أدّت إلى إعادة إحياء “المارونية السياسية” ولكن بعناصر جديدة مع غياب الدعم الخارجي مما يجعلها أقل تأثيراً من تلك القديمة. ولكن هذه الحركة السيساسية الجديدة القديمة، ستتحدد معالمها مع التغيرات الإقليمية، فهي ستكون نتاجاً لبنانياً فقط من حيث اعادة احتضان المسيحيين، ولكن مدى قدراتها سوف تتحدد من قبل الخارج، وهذا اذا شاءت الظروف السياسية أن تكتب لها الصمود والتطور. وكما استمرار المارونية السياسية الجديدة مرهون بعوامل أخرى، ولعل أبرزها مستقبل حزب الله ومصير الرئاسة الأولى، وهي العوامل ذاتها التي سوف تؤثر في تكوين  الحلف الاخر المستقبلي. فمن هو الفريق الاخر؟ وما مدى احتمال عودة روحية الحركة الوطنية في ظل المارونية السياسية الجديدة؟