هل يحرق آب اللهّاب الحلول؟

عرفان نظام الدين (الحياة)

من جديد، تقف الدول العربية ومنطقة الشرق الأوسط ومعها العالم كله، أمام مفترق طرق خطير يؤدي إلى تحديد المصير سلماً أو حرباً وسط مخاوف من تحولات مهمة في شهر آب (أغسطس) المقبل، المعروف باللهّاب، قد تؤدي إلى حلول محروقة. وتتواصل اللامبالاة المقصودة رغم إدراك الجميع أن هذه الحروب أصبحت تهدد أمن العالم بأسره.

الغريب، والمستهجن أكثر، هو أن هذا التمادي المفرط للدول الكبرى نلمسه رغم ما تبثه من إنذارات رعب في حال عدم إيجاد حلول سلمية ووجوب المسارعة إلى حسم مسألة الحرب على الإرهاب التي أثارت الكثير من الشكوك وعلامات الاستفهام.

وعلى رغم غياب التوضيحات والردود المقنعة لتبرير الفشل والتباطؤ، فإن أي إنسان لا يمكن أن يصدق ما يعلن ولا أن يشكك في ما يخفى من نوايا ومخططات، وهو يتساءل: كيف يمكن لعاقل أن يصدق أن تحالفاً من 80 دولة، بينها أقوى الدول التي تملك أحدث الطائرات والأقمار الاصطناعية والصواريخ الذكية، لم يستطع أن يحقق إنجازاً نوعياً حاسماً لضرب أسطورة «داعش» وشل قدراتها؟

وأي حرب هذه التي تقترب من إكمال عامها الثاني من دون أن تحرر المدن المحتلة وتحاصر الإرهابيين؟ وكيف تبرر الولايات المتحدة تقاعسها وأسباب مسيرتها السلحفائية، فيما الأخطار تتزايد وتتسع لتشمل العالم كله، والغرب بالذات، كما شهدنا أخيراً في عواصم عدة وفي عمليات التفجيرات؟

وماذا أنجزت روسيا بعد العمليات الاستعراضية والغارات وصواريخها لقطع دابر الاٍرهاب، كما أعلن الرئيس فلاديمير بوتين؟ وماذا حققت لتعلن شكلياً أنها «أدّت قسطها للعلى» وبدأت سحب طائراتها من دون أن نلمس تطوراً إيجابياً يبشر بالقضاء على «داعش»؟ بل على العكس من ذلك، شهدنا شراسة رهيبة في عملياتها وتفجيراتها في قلب الساحل السوري المحصن (في جبلة وطرطوس).

ولا يخفى على أحد أن «الدواعش» يعيشون حياة طبيعية في المدن التي يحتلونها، على رغم حجم الضربات والخسائر التي لحقت بهم، فهم يمارسون حياتهم اليومية ويسبون النساء ويتزوجون ويغزون ويتاجرون بالنفط والمواد الاستهلاكية ويفرضون الرسوم، فيما يتباهى الغرب والشرق بإنجازاته!

كل هذا يحدث، فيما الحروب على الجانب الآخر مشتعلة مع الاكتفاء ببعض التحركات الاستعراضية، مثل رمي بعض فتات المساعدات إلى ملايين اللاجئين المنكوبين، ثم الزعم بوجود مبادرات سلام تنتقل من فيينا إلى جنيف ومن واشنطن إلى موسكو. وتنطبق على هؤلاء، وأولهم وزيرا الخارجية الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، معانٍ مثل «شر البلية ما يضحك»، ومعهما الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون الفاشل القلق وجميع مندوبيه، لأن هؤلاء يتعاملون مع الكوارث والمآسي بكل برود.

والأنكى من ذلك أن هؤلاء الأوصياء يثبتون كل يوم أنهم بلا أخلاق ولا فهم للواقع، أو أنهم يتعمدون الجهل، وكأنهم هبطوا علينا من عالم آخر عندما يسطرون البيانات السخيفة ويتقدمون باقتراحات غبية، مثل توطين اللاجئين وتجنيسهم في الدول التي لجأوا إليها، متجاهلين حقائق الأوضاع ومنها وجوب انطلاق أي حل سلمي من خطوات إعادة اللاجئين. والأمر الآخر المستغرب والمستنكر هو عدم بذل أي جهد جدي لاتخاذ قرار حاسم يعطي الأولوية للوقف الفوري للحرب وفرض حلول سلمية واقعية وإطفاء نيران الحرائق المشتعلة التي لا بد من أن تشمل العالم كله إن استمرت المراوحة.

ومع وضوح هذه الأخطار، تُطلق مقترحات تخديرية وحلول مجتزأة ومواعيد عشوائية، مثل الحديث عن بدء العمل لانطلاق المرحلة الانتقالية في سورية في آب (أغسطس) المقبل، المعرف باسم «آب اللهاب»، أو الدعوة إلى مؤتمر سلام في الشرق الأوسط برعاية فرنسية وتردد أميركي وبرود «أوبامي» ومكر إسرائيلي، سارع بنيامين نتانياهو إلى زرع ألغام جديدة في طريقه بإدخال أفيغدور ليبرمان، اليميني المتطرف والأشد سوءاً منه، إلى حكومته ليقطع الطريق على أي بصيص أمل. كما ترددت أنباء خجولة عن دعوة أخرى من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي للبحث عن مبادرة سلام يعد لها لتحريك مفاوضات السلام.

وبات من شبه المؤكد أن كل هذه المبادرات ستذهب هباءً في حال استمرار التخاذل الأميركي، مثلها مثل المبادرات السابقة، فما يروج عن احتمال طبخ الحلول على نار آب اللهاب لا يمكن أخذه على محمل الجد إلا عندما تتوافر الإرادات والتفاهمات الدولية والإقليمية والعربية والداخلية، وإلا فإن هذه الطبخة ستحترق ليصعب بعدها تأمين قوة إطفاء فاعلة لإنقاذها.

وبديل الحلول المطلوبة اليوم سيكون الخراب الشامل. فقد وصلت الأمور إلى حافة الخطر القاتل ولم يعد من الجائز المماطلة وطرح حلول جزئية ومرحلية عقيمة، فالحرب السورية لم تعد تحتمل مزيداً من الاشتعال والتعقيدات، فقد سادت القناعة بأن الحل العسكري، مهما تغيرت الموازين ومهما تحقق من إنجازات لهذا الفريق أو ذاك، لا يمكن أن يضع حداً لها.

والحرب في اليمن أخذت مداها ووصلت إلى طريق مسدود ومأزق لا يمكن الخروج منه إلا باتفاق وطني شامل يعيد إلى الشرعية دورها. ولهذا، بات من المحتم التوصل إلى حل يوقف نزف الدم وإعادة اللحمة إلى الشعب اليمني وترميم العلاقات مع دول الخليج العربي وبدء إعادة الإعمار فوراً. والأمل كبير بنجاح المبادرة الدولية – الخليجية وتوصل المفاوضات الجارية في الكويت إلى حلول جذرية، خصوصاً أن أميرها الشيخ صباح الأحمد الصباح المعروف بحكمته وحنكته هو الذي يتولى الإشراف على كل شاردة وواردة.

وفي ليبيا، حيث أوصلت الحرب البلاد إلى حافة الانهيار والتقسيم على أساس قبلي ومناطقي، هناك أمل حذّر بأن تنجح المبادرة الدولية لإرساء دعائم الأمن والاستقرار ودعم الحكومة الانتقالية الموقتة التي اتفق على تشكيلها ونقلها إلى العاصمة طرابلس بعد مفاوضات مضنية والتركيز على ضرب معاقل الإرهابيين «الداعشيين».

أما القضية الفلسطينية التي يجب على العرب أن يعودوا إلى التمسك بها، وهي «القضية المركزية الأولى»، فإنها تحتاج إلى مبادرة جدية سريعة، وإلا فإن الانفجار الكبير آتٍ لا محالة.

وما يمنع الانفجار الشامل في لبنان هو أمر يشبه المعجزة، إضافة إلى عدم اتخاذ قرار إقليمي ودولي في هذا الشأن، فالكل ينظر باستغراب ودهشة، وليس بإعجاب، إلى الوضع اللبناني ويتساءل عن سر تمكن اللبنانيين من العيش بلا كهرباء وماء وفرص عمل، وسط أكوام النفايات العادية والسياسية وحال شلل في المؤسسات من القمة إلى القاعدة، إلى ديون تقصم ظهر أي دولة، وشبه قطيعة في العلاقات مع السعودية ودول الخليج. ويضاف إلى ذلك كله تداعيات الحرب السورية التي دخلت عامها السادس ووجود منظمات إرهابية على الحدود اللبنانية ومئات الآلاف من اللاجئين السوريين وبينهم عشرات الآلاف من المدربين على السلاح وآلاف المسلحين، ما يهدد أمن لبنان.

هناك إشارات تمنح بعض الأمل بحدوث انفراجات تبدأ في آب اللهّاب وتتواصل عبر خطوات تبدأ بانتخاب رئيس للجمهورية قبل عيد الاستقلال في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، يتبعه تشكيل حكومة موقتة بانتظار إقرار قانون انتخاب جديد تجرى بموجبه انتخابات نيابية مؤجلة مرتين، مع التحفظ الشديد والخوف المزمن من وقوع حدث طارئ ينسف كل الآمال ويغرق البلاد في ظلام فراغ شامل وشلل تام.

أما القاسم المشترك في مجمل الأزمات ويهدد مصير سورية والعراق وليبيا وفلسطين واليمن، فهو تمدد الإرهاب فيها ليشمل في تهديداته مصر ودول الخليج وتونس والمغرب والجزائر والسودان، وصولاً إلى دول العالم بشرقه وغربه.

وهناك إرهاصات ومؤشرات كثيرة تنبئ بحدوث تحول في المعالجة وقناعة بوجوب محاصرة هذه الأخطار وإيجاد حلول برعاية عربية وإقليمية ودولية، مثل بدء معركة تحرير الفلوجة، على رغم شوائب وممارسات ميليشيا «الحشد الشعبي» وتهديد حياة المسلمين السُنّة في المناطق المحررة من «داعش»، إضافة إلى تقدم مسيرة المفاوضات في اليمن وليبيا، والاقتناع بوجوب وقف الحرب السورية والتركيز على تحرير الرقة ودير الزُّور والمناطق التي يقيم فيها «الداعشيون» دولتهم.

إلا أن كل هذه الخطوات تبقى ناقصة في ظل التقصير الأميركي والقصور في سياسة إدارة الرئيس باراك أوباما وسلسلة الأخطاء التي ترتكبها، ومنها الانحياز إلى إسرائيل وعدم فرض حل سياسي ينهي معاناة الشعب الفلسطيني وينزع صواعق التفجير في المنطقة، واتخاذها خطوات تدعم تحركات الأكراد لإقامة دولة خاصة بهم تمهيداً لتقسيم سورية بالاتفاق مع روسيا مع تبادل إنشاء القواعد العسكرية.

وهناك الآن أمل ضئيل بأن ينهي أوباما عهده في الأشهر الأخيرة من ولايته قبل تسليم السلطة للرئيس المرتقب في كانون الثاني (يناير) المقبل، بمبادرة تحمل اسمه ليخرج من البيت الأبيض بشيء ما في سجله الهزيل بدل أن يخرج بخفي حنين وغضب الحلفاء والأصدقاء واستنكار الشعوب المنكوبة.

فكل هذه الدلائل تشير إلى أن العجز سيستمر حتى آخر لحظة من عهده المشؤوم، وبالتالي فإن آب اللهّاب، إذا صح القول، قد يحرق «طبخة الحلول» ويتسبب بمزيد من الحرائق والمآسي، ما يعني أن الحلول الجدية ستنام إلى حين تسلم الرئيس الجديد مهماته وتشكيل إدارته الخاصة. وما على العرب إلا العودة إلى انتظار الوعود والنوم على أحلام عسلها المغشوش وترديد المثل الشعبي القائل: «عالوعد يا كمّون».