سايكس بيكـو: “الذكرى المئويـة”!

بسام الحلبي

حتى الأمس القريب كنا نعتبر أن معاهدة سايكس بيكو، الموقعة سنة 1917 بين بريطانيا وفرنسا، هي مؤامرة إستعمارية بريطانية فرنسية حيكت بوجه الحركة القومية العربية التي بدأت بالتبلور مع ثورة الشريف حسين بن علي في 2/ حزيران/1916، أمير الأسرة الهاشمية في الحجاز، التي قام بها للتخلص من السلطنة العثمانية وبسط السيادة العربية على الأراضي التي تحتلها وهي سوريا الطبيعية والجزيرة العربية، والتي هي في حقيقتها بسط السيادة الهاشمية على هذه الأراضي، وذلك بالتعاون مع الإستعمار البريطاني الأمر الذي ثبت تاريخاً من مراسلات الشريف حسين مع مكماهون، الحاكم البريطاني في مصر، وبالدور الرئيسي الذي قام به ضابط المخابرات البريطانية الشهير “تي .أي. لورنس” بمشاركته الفعّالة بتلك الثورة.

Sharif_Husayn

وفي سنة 1917 وعلى أثر إستلام بولشفيك حزب العمل الإشتراكي الديمقراطي الروسي على الحكم، الذي عُرف تاريخياً بإسم الحزب الشيوعي السوفياتي، كشف هؤلاء هذه الإتفاقية التي تم التوصل إليها بين فرنسا، التي فاوض عنها الدبلوماسي الفرنسي فرنسوا جورج بيكو وبريطانيا التي فاوض عنها مارك سايكس، وهو عسكري ودبلوماسي، وتوّصل الإثنان إلى توقيع الإتفاقية الشهيرة، التي بتنا الآن ندافع عنها ونخشى عليها من الإنهيار، وذلك بمباركة من الإمبراطورية الروسية وهذه المباركة القيصرية أدت إلى الكشف عنها من الحزب الشيوعي عن إستلامه الحكم.

سايكس بيكو

ودون الدخول بالتفاصيل التي إنتهت إليها الثورة العربية تقاسم المستعمران، تركة السلطة العثمانية التي حملت إسم “الرجل المريض” نظراً للوهن التي باتت عليه بعد مشاركتها في الحرب العالمية الأولى ضد الحلفاء إلى جانب الألمان.

ولا نستطيع مساءلة أنظمة الدول التي أنشأتها هذه الإتفاقية عن الفترة منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى وحتى نهايات الحرب العالمية الثانية كونها كانت في تلك الفترة خاضعة لنظام الإنتداب.

ومن يتأمل الآن هذه الإتفاقية يجد أنّ العيب الذي شابها هو التآمر على ثورة الشريف حسين، فالتقسيم الذي إفتعله، خلافاً للوعود المعطاة للشريف، كان من الممكن تجاوزه لو حكمت الدول الناشئة عنه أنظمة حضارية مستوحية للقومية العربية بشكلها العلماني، أو للعروبة كما كان يعتنقها أمير الشهداء كمال جنبلاط. ويمكننا القول أنّ ما نحن عليه اليوم في الشرق الأوسط بكامله ليس نتيجة إتفاقية سايكس بيكو بل هو نتيجة فساد الأنظمة التي حكمت الدول التي انشأتها، من تاريخ إستقلال كل منها وحتى بداية إنهيارها بالحرب اللبنانية التي إشتعل فتيلها سنة 1967 وانفجرت سنة 1975 ومنذ ذلك التاريخ توالت الإنفجارات.

المعلم كمال جنبلاط

الدولتـان الكبيرتان، بريطانيا وفرنسا، ولاحقاً وريثهما في الشرق الأوسط والعالم، الولايات المتحدة الأميركية، كان من مصلحتهم الإبقاء على أنظمة حكم إستبدادية فاسدة لا تسعى إلى إقامة أي دولة تتمتع بالحريات الديمقراطية ولها أيدولوجية قومية سمحة، إذا جاز التعبير، ذلك أنّ السماحة القومية تؤدي إلى نزع أي عصبية عن هذه القومية وجعلها مستوعبة لكافة الشعوب المنضوية تحت لوائها، ومن هنا طرح أمير الشهداء، كمال جنبلاط العروبة، بإعتبارها “حضارة وثقافة” مشتركة بين الشعوب المُشَكِّلة للدول موضوع إتفاقية سايكس بيكو، وكان مثاله على ذلك الأكراد في العراق ودول شمالي أفريقيا ومصر العليا والسودان، وكان يقول أن ما يجمعنا بهذه الشعوب هي الحضارة والثقافة العربية المشكلة للعروبة وليس القومية.

وكان الإستعمار الحديث، شأن القديم يعي خطورة مثل هذه الأنظمة العلمية، فسعت بشكل مستمر على قيام أنظمة فاسدة خالية من أي مفهوم لمصلحة الدول العربية التي تشكّل الممر الرئيسي بين الشرق والغرب والتي إنعمت عليها الطبيعة بأهم ثروات العالم في بطن أرضها.

1916

بعد الحرب العالمية الثانية وبدء نيل هذه الدول لإستقلالها الصوري من الدول المنتدبة بقيت الأخيرة، والمستعمر الجديد، مسلطة  أنظارها على هذه المنطقة، وكانت النكبة الفلسطينة وقيام دولة إسرائيل هي الإمتحان العسير الذي مرّت به دول سايكس بيكو والذي أثبت أنّ هذه الأنظمة ليست إلا أداة في يد المنتدب الذي أعطاها الإستقلال وإستمر بإستغلاله عن طريق حكامها، إما الجهلة وإما الفاسدين.

ومن نتائج النكبة الفلسطينية بدأت المنطقة تعرف حركة إنقلابات عسكرية بهدف إستيلاء الجيوش على الحكم بنتيجة هزيمتها في فلسطين وتحميل الحكام العرب مسؤولية هذه الهزيمة.

نتج عن هذه الإنتفاضات العسكرية سلسلة إنقلابات في سوريا أدت في النهاية إلى قيام حزب البعث الإشتراكي العربي الذي يمكن إعتباره الهبة الأكبر للإستعمار، هذا إذا لم يكن صنيعته، فاستلم الحكم في سوريا والعراق. وقام الجيش المصري بإنقلاب 23 تموز الذي تحوّل إلى إهم حركة تحرر شعبية وتنموية إجتاحت أفكارها كافة القارات من أفريقيا إلى كوبا وكافة أرجاء أميركا اللاتينية وآسيا، التي أحتضنت في باندونغ هذه الدول الفتية وفي طليعتها مصر وخلقت التكتل الشهير الذي عرف بإسم “دول عدم الإنحياز”، أما في لبنان فقد نتج عن هذه النكبة إسقاط دولة الفساد التي قامت منذ الإستقلال وتغير الحكم في في سنة 1952 وتسلل إلى مركز الرئاسة عميل للمخابرات البريطانية حاول إقحام لبنان بالأحلاف الغربية وأعلن العداء للثورة المصرية التي أصبحت في ذلك الحين القائد الطليعي الحامل للواء القوة العربية ووحدة دولها.

باندونج

كان قيام هذه الحركات التحررية المعادية لإتفاقية سايكس بيكو بإسم القومية العربية هو ما أدّى بالرئيس أيزنهاور إلى التعبير عن إنزعاجه مباشرة من حكم العظيم جمال عبد الناصر ببرقية وجهها إلى وزير خارجيته جون فوستر دالاس الذي كان يحضر في حينه إجتماعاً يعقد في باريس لوزراء ملف شمال الأطلسي بتاريخ 12/11/56 وجاء فيها حرفياً “أننا نرى ضرورة الشروع سراً وعلى مستوى أركان الحرب لوضع سياسات وخطط يستطيع الغرب بمقتضاها العمل على جعل الشرق الأوسط أمناً من التغلغل السوفياتي. ويحدوني إعتقاد مستمر أنّ من بين الإجراءآت التي يتعين علينا إتخاذها أن نقيم بديلاً عربياً لناصر، والإختيار الطبيعي هو على ما يبدو يتمثل في الرجل الذي طالما تحدثت أنا وأنت عنه”، والنص أورده الدكتور ممدوح أنيس فتحي في مؤلفه مصر من الثـورة إلى النكسة (مقدمات حرب حزيران 1967) الصفحة 144 منه وأوضح في الحاشية رقم 47 من هذه الصفحة أنّ البرقية هي من المستندات السرية التي تنشر بعد مرور ربع قرن على تاريخها وتحمل الرقم CS/E 1256-0017-776.  أما الرجل الذي يفكرون بإحلاله مكان عبد الناصر فهو الملك سعود، كما صرح بذلك أيزنهاور بعد إنتهاء ولايته، كما أوضح ذلك في الحاشية رقم 48.

bill-signing

ولبنان لم يكن في موقع بعيد عن السياسة العروبية المنفتحة التي قامت في مصر وذلك عن طريق النظام الذي خلف نظام العمالة الغربية وقيام دولة فؤاد شهاب التي كان القضاء عليها سهلاً بالتآمر عليها من الداخل، فقضي بذلك على المحاولتين الوحيدتين لإقامة تفاهم بين دولتين مبني على مفهوم العروبة كحضارة وثقافة.

شعر الإستعمار الحديث بالخطر القادم من إنتشار الفكر العروبي خاصة بعد نكبة حرب 1967 وتضامن الأحرار مع المقاومة الفلسطينية، وكان القدر بموت عبد الناصر شريكاً للمستعمر وكذلك حزب البعث الذي إغتال أمير الشهداء فكان بذلك القضاء على الخطوة العربية الأولى لتحويل دول سايكس بيكو إلى قوة عالمية تجمعها العروبة كحضارة وثقافة وليس القومية.

عبد الناصر

كما تمكن الإستعمار من خلق وإيقاظ الشعور الديني والتعصب كونه بذلك يقسم المقسم ويقضي نهائياً على فكرة إقامة قوة تقدمية وطنية متحدة، فيقيم بدلاً من دول سايكس بيكو دولاً طائفية يسهل السيطرة عليها بالغريزة والتخلف وتكون الحامي الديني ليهودية إسرائيل.

من هنا، انطلق من فكرة الدفاع عن إتفاقية سايكس بيكو كون الدول الناشئة عنها يمكن متابعة النضال فيها من المرحلة التي توقفت فيها عروبتها ووطنيتها منذ سبعينيات القرن العشرين حين إبتلت العروبة بأنور السادات وحزب البعث، أما الدول التي ينتجها تقسم سايكس بيكو فإنّ النضال سيبدأ فيها منذ ظهور أحمد إبن حنبل في القرن الثامن. فالدفاع عنها لأن القضاء عليها بالعروبة العلمانية أسهل.