محمد المجذوب: نموذج العروبة الراقية!

د. ناصر زيدان (الأنباء)

توقف قلب محمد المجذوب؛ وفجأةً توارت صورة فريدة ناصعة من بين فُسيفساء لوحات المشهد العربي. صورةٌ كانت تبعث على الاعتزاز، وتُغني الذاكرة بباقةٍ من الورود المُجمَّعة من بساتين صيدا وحدائق بيروت، ومن بنفسجات ضفاف النيل ومِسك اليمن، وفي الباقة أيضاً رائحة من تمر العراق وعنب الجزائر وزنبق مراكش.

عرفته منذ أكثر من ثلاثين عاماً. كُنا على مقاعد الدراسة الجامعية، وكان المُعلم؛ يشرح لنا الدساتير المتنوِعة، وعن القوانين الدولية، وعن الأحزاب السياسية. أذكُر أنه قال لنا يوماً: “إن الأحزاب اللبنانية تتميَّز بفرادةٍ لا ينطبق عليها أي من التصنيفات المُعتمدة لأنواع الأحزاب”.

محمد المجذوب نموذجٌ عن العروبة الصافية، الأصيلة، الصادقة. العروبة التي تستندُ إلى العلم والمنطق، بعيداً عن الشعبوية الركيكة، وعن الاستبداد والقهر. وتظهير الصورة العربية الراقية؛ كان الهاجس الأهم عند محمد المجذوب. فهو ضليعٌ إلى أبعد الحدود في أصول العائلات العربية، وكيف تتشعَّبُ أفخاذها بين الأقطار العربية، وكيف تتوزع على المجموعات الروحية الإسلامية وغير الإسلامية، ضارباً مثالاً على عائلته التي قدِمت من المغرب، ويوجد فروع لها في مُعظم الدول العربية.
ومَن لم يُجالس محمد المجذوب لا يُدرك مدى إلمامه بتفاصيل قواعد اللغة العربية، وحرصه الدائم على التمسُّك بإستخدامها على الشاكلةِ الصحيحة؛ في الحديثِ، وفي الكتابةِ، وفي تصويبِ المعاني التي تَدلُّ عليها الكلمات، ومن بينها اهمية وضع النقاط والفواصل، ودلالات تحريك الاحرُف بالضَّمةِ والفتحةِ والكسرَّةِ والسكون.

رغم تبوئِهِ لمراكز إدارية وعلمية وقانونية عالية – لا سيما كعميد لكلية الحقوق، ومن ثُمَ كرئيس للجامعة اللبنانية، وكنائب لرئيس المجلس الدستوري – بقيَ للهم العروبي المكانة الأولى في صيرورة حياته الشخصية والمهنية. والحديث عن الهموم العربية كان الحاضر الدائم على مائدة إنشغالاته.

غالباً ما كان يتقصَّد بالحديث معنا في الجلسات المُتعدِدة؛ ذكر لقاءاته مع كمال جنبلاط. وهو مُندهشٌ – كما ذكر لي منذ ثمانية أشهر – من الصفاء العروبي لديه.

وإستذكر كيف دعاه جنبلاط إلى لقاء ضمَّ نُخبه من المفكرين والأساتذة الجامعيين بُعيدَ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. وكان الهدف من اللقاء وضع رؤية مُشتركة حول كيفية مواجهة الأخطار التي تُحدِق بالأمة العربية، وأهم عناصر هذه الرؤية؛ إنشاء إتحاد عربي بين الدول العربية، يرتكِز على التعاون التجاري والصناعي والزراعي والدفاعي، ولا يُلغي الخُصوصيات الجهوية، أو القطرية للدول الأعضاء.

كنتُ أشعر أنه يرتاح لترداد عبارات قالها لهم جنبلاط: “يا عمي لا يجوز أن نترك مشعل العروبة في أيدي بعض العسكريين الذين يشوهون الفكرة، ولا يعرفون عن الانبعاث العربي الحضاري والعلمي أي شيء”.

غياب محمد المجذوب عن المشهد يترك أثراً في أغلبية المُنتديات الثقافية والفكرية في لبنان، ويُشكِّل خسارة لحلقة التواصل العربي، وسيترك فراغاً في مسيرة النهوض العربي.

يبدو لبنان اليوم، وأكثر من أيِ وقتٍ مضى – ومثله العديد من الدول العربية – بحاجةٍ ماسة إلى ترسيخ الفكرة العربية الجامعة، بعد التشوهات السياسية والإجتماعية التي أصابت المكونات الشعبية، وعزَّزت من عناصر التفرقة المناطقية والطائفية والمذهبية. والفكرة اللبنانية في سياقها التاريخي تتغذَّى من ضفاف النهر العربي الكبير، ولا يمكن لهذه الفكرة أن تعيش في إناء الانعزال. كما أن مقتل هذه الفكرة يكمُن في الانحياز إلى مُقارباتٍ إقليمية أو دولية بعيدة عن السياق العربي العام.

حَمَلَ محمد المجذوب على بعض المثقفين والعلماء العرب الذين دافعوا عن فتوى تحريم الثورة. تلك الفتوى التي إستخدمها العثمانيون لتكريس سيطرتهم على المنطقة العربية لمدة أربعة قرون. كما أن هذه الفتوى لم تخدم الغرض الذي إدعى بعضهم أنها كانت بهدف منع الفتنة بين المُسلمين، بل على العكس؛ فإنها شكَّلت تنازلاً عربياً عن السلطة، وخدمت المشاريع الخارجية التي أساءت للعروبة.

وفي ترؤسِه للمنتدى القومي العربي؛ كان المجذوب حريصاً على اخراج الحراك من تحت عباءة الأنظمة، لأن تلك الانظمة – لا سيما المُستبدَّة منها – إستفادت إلى حدود واسعة من المُزايدة حول الفكرة العربية، بينما كان هدفها الأساسي إطالة زمن إستمرارها في السلطة.

وفي تلك الفترة التي ترأس فيها المجذوب المنتدى، غابت عن اروقتهِ الاحتشادات ذات الخلفية الأمنية، والتي كانت تطغى على بعض إصطفافات الحراك الثقافي العربي في مرحلة من الزمن.

غياب المجذوب بالتزامن مع ذكرى نكبة فلسطين؛ يُحفِّزُ على الاستنهاض لمواجهة التراجع العربي الملحوظ، وقد يكون الغياب القاسي؛ مناسبة للإضاءة على عناصر القوة التي تنبعثُ من الفكرة القومية الجامعة، كي لا يؤدي الضياع والتشتُّت إلى نكباتٍ أُخرى تزيدُ من الآلام اللبنانية والعربية.