لا سلام مع التطرّف والإرهاب

عرفان نظام الدين (الحياة)

أي حديث عن السلام القادم والتسويات والحلول وخطط التقسيم والفيديرالية في سورية وغيرها، لا بد أن يذهب جفاءً إن لم تعالج جذور المشكلات والأزمات والحروب في المنطقة المنكوبة بالويلات والمصائب والكوارث والاستبداد والعقليات المتخلفة والمواقف المتعنتة والعنيفة.

وكل كلام متبادل في ما يسمى الحوار من أجل الخروج من النفق المظلم، يتناثر في الهواء وكأنه هباء منثور إن لم يترافق مع حلول حاسمة وجدية وواقعية وحازمة لقضايا الإرهاب والعنف ومعالجة آفات التطرّف والتعصب والكراهية ونشر الأحقاد والجنوح إلى رفض الآخر وتكفيره، وصولاً إلى تحليل دمه والتحريض على ذبحه وصلبه وإلى ما هناك من تعابير دخيلة علينا تثير الاشمئزاز والقرف والخوف من المستقبل وعلى الأجيال القادمة.

هذا هو الواقع المر، ونقطة على السطر. لا شيء قبله ولا شيء بعده، ولا أولوية لأي موضوع آخر ولا نتيجة لحوار في شأن أية قضية أخرى، فقد بلغ السيل الزبى ووصلت الأوضاع إلى مرحلة الخطر الداهم ونقطة اللاعودة، فإما الخراب التام والموت الزؤام، وإما الحل الضامن للسلام.

هذا مع التأكيد أن الحروب الراهنة تدمي القلوب وتدمر الأوطان، ما يوجب توجيه نداء تلو نداء لمضاعفة الجهود وتوحيد المواقف لتكريس وقف إطلاق النار، ثم الانطلاق نحو البحث عن تسوية تحفظ الوحدة الوطنية وتوقف القتال وتحد من بواعث الكراهية ونزعات الثأر والانتقام، التي علينا أن نعترف بأنها لن تمحى بين ليلة وضحاها، بل سيظل رمادها مشتعلاً لسنوات طويلة قبل أن تنطفئ تماماً نيران الآلام والعذاب والذكريات المريرة.

ومع أهمية إحلال السلام وحل المشاكل الإنسانية والاجتماعية الخطيرة ووقف نزيف الدم، فإن من الواجب العمل على إزالة أسباب اندلاع الحروب بكل صراحة وشفافية وصدق، بلا إنكار ولا عناد. كما أن من الضروري البحث عن أسباب الانتكاسات في الحراك الشعبي والانحراف في مسيرة «الربيع العربي»، ما أدى إلى شيوع حالات التشاؤم بعدما تفاءل الناس بتصحيح مسار الأوطان بسبب انتهاء فصله، وهو لم يزل في عمر براعم الأزهار التي جُرفت بشلال من الدماء الزكية الممزوجة ببذور الكراهية وأشواك الأحقاد، بدلاً من أزهار الحب وورود المحبة وثمار الوطنية التي كنا نحلم بأن نقطفها من بستان أخوة الدم والتراب وشركاء الماضي والحاضر والمستقبل.

ولهذا، لا بد من دق ناقوس الخطر للمسارعة الى إيجاد وسائل مواجهة الإرهاب بكل أشكاله ومشاربه، والاعتراف أولاً بمسببات انتشار آفة لصيقة به، أو سابقة له، وهي التطرّف الذي لم نشهد له مثيلاً منذ أكثر من ١٤٠٠ سنة، وما نجم عنه من جنوح نحو العنف ورفض الآخر وتكفيره حتى ولو كان مسلماً ناسكاً عالماً مؤمناً يؤدي جميع فرائضه ومتمسكاً بمبادئ الدين الحنيف.

ولا بد أولاً من إبراز محاسن الإسلام والإثبات للعالم كله، ولأنفسنا أيضاً، أنه دين المحبة والسلام والتسامح والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ودين النهي عن الاعتداء، لأن الله لا يحب المعتدين ويرفض الإكراه، ودين الإيمان بالأديان السماوية والأنبياء والرسل… دين المساواة بين البشر الذين جعلهم الله – عز وجل – شعوباً وقبائل ليتعارفوا ويتآلفوا لا ليتحاربوا ويتنافروا لأن أكرمهم عند الله أتقاهم.

هذا هو الهدف السامي الأول الذي يرسم معالم طريق لا يمكن الوصول إليه إلا بالحوار والاعتراف بالآخر، ثم البدء بعملية مصارحة شاملة وحكيمة وصولاً إلى يوم يعم فيه السلام في أوطاننا وفي العالم أجمع وتستكمل فيه خطوات المصالحة بين البشر، وفق ما نؤمن به من قيم وما يرشدنا الله إليه ويُنعم علينا بدين جاء رحمة للعالمين.

وحتى لا نغرق في المثاليات ودعوات الخير والأحلام الوردية، لا بد من العودة إلى أرض الواقع ونتعمق في ما ابتلينا به خلال السنوات الماضية. ولنتحدث بصراحة أكثر، منذ عقود من الزمن، حيث شهدنا انحداراً متواصلاً وجنوحاً نحو العنف والتطرف بدلاً من التسامح والوحدة والتضامن في وجه الأخطار والتمسك بالقيم والأخلاق والتمسك بمبدأ «الدين المعاملة».

فما نشهده اليوم هو نتاج تراكمات من الممارسات الخاطئة المرتكبة، عربياً ودولياً، وغياب العدالة، إضافة إلى فشل أساليب التوجيه والدعوة ومناهج التعليم. ثم جاء الإعلام ليشعل نار التطرّف والتعصب بعد ثورة البث التلفزيوني الفضائي وانتشار القنوات الدينية والمذهبية التي تعد بالعشرات، ولا شغل لها إلا بث الأحقاد ونشر الكراهية وإثارة الفتن.

وزاد الطين بلة ما حصل من استغلال رخيص لثورة الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي من صبّ الزيت على النار وغسل أدمغة الشباب لجرّهم إلى سبيل العنف والإرهاب، ما أدى إلى تحويل هذه النعمة إلى نقمة.

هذا من حيث المظهر العام، لكن التعمق أكثر يدفعنا إلى البحث عن أسباب سياسية واجتماعية وثقافية ومعيشية من ظلم وكبت وبطالة وفقر وفشل لكل المبادئ المستوردة وجهل في أمور الدين والدنيا وتخلف في تعليم الأجيال وفق مناهج بالية.

وعند البحث في تسلسل المسؤوليات، نبدأ من البيت حيث تغيرت خلال العقدين الماضيين كل مفاهيم الإعالة وقيمها، وساد ضياع داخل هوة نشأت بين الأجيال، إضافة إلى إهمال الأهل وتضاؤل سلطة الأبوين نتيجة الانشغال بمتاع الحياة أو البحث عن لقمة العيش.

ومن الأسرة إلى المدرسة والجامعة حيث تم تخريج أجيال «تبصم الدروس» ولا تستوعبها، ليجرى تكديس مئات الألوف من العاطلين من العمل والناقمين الذين يسهل اصطيادهم من جانب المتطرفين. والأخطار الأخرى تكمن في فوضى الفتاوى وتوجيه بعض رجال الدين للشباب نحو التطرّف والعنف وإشاعة مفاهيم خاطئة بدلاً من تدريبهم على الحوار والمحبة والدعوة الصالحة.

في مقابل هذه الأخطاء، نشهد تفسيراً في العمل الرسمي والأهلي لاستيعاب الشباب والتخفيف من الكبت وتخفيف الضغوط على الناس مالياً وفكرياً، ما أوصلنا إلى حالة الانفجار، والآتي أعظم وأخطر في حال عدم الإسراع في إيجاد حلول جذرية والدعوة إلى الحوار والمصالحة والاستماع إلى نبض الشارع وآراء الشباب وتطلعاتهم. وهنا يبرز دور الإعلام، وتتضح صور تقصيره ومشاركته في بعض الحالات، في التحريض أو الترويج للأفكار المتطرفة.

أما على صعيد الواقع الميداني والسياسي وما يشاع عن الدوافع والتخطيط والتحريض والتآمر، وصولاً إلى تدمير الكيانات وتقسيمها، فحدث عنه ولا حرج، إذ لا يمكن لعاقل أن يصدق أن العالم كله مستنفر للقضاء على «داعش»، ويحشد كل طاقاته وطائراته ومخابراته وأقماره الاصطناعية، من دون أن يتمكن بعد أكثر من سنة من القضاء على التنظيم أو وقف تمدده ومنع سيطرته على مزيد من الدول، ومواصلة عمليات الإرهاب والتفجير في أوروبا والدول العربية والعالم، وآخرها العملية الدامية في بروكسيل.

وتكفي الإشارة إلى أن التنظيمات الإرهابية تنتشر اليوم في سورية والعراق وليبيا واليمن، ولها وجود في مصر ودول الخليج وتركيا والمغرب العربي والصومال.

فبماذا يرد «النظام العالمي» التعيس، وكيف ستبرر الولايات المتحدة ودول التحالف الدولي هذا الفشل في حربها على الإرهاب؟ ولماذا لم تُحسم الأمور دفعة واحدة بدلاً من «التقسيط المريح» والأساليب «السلحفاتية» البطيئة على رغم الأخطار التي تهز الأمن والاستقرار؟

إنه أمر محير ويثير الشكوك وتصرف لا يمكن تبريره ولا تفسيره، بل يمكن تكرار النداء تلو النداء لدرء هذه الأخطار والتنبه والحذر والإسراع في إعداد العدة للمواجهة الحاسمة قبل تأكيد الشكوك في نوايا الدول الأجنبية وسياساتها المتحفظة، أو المغرضة، وخططها البائسة من دون التوقف عن التعاون والتنسيق والبحث المشترك عن الحلول بإشراك الأمم المتحدة.

إنه نداء أخير، ودعوة صادقة إلى اتخاذ إجراءات سريعة وحاسمة لاجتثاث جذور الإرهاب والقضاء على آفة التطرّف بلا تردد ولا تأخير حتى لا يفوت الأوان ويسود الندم، ولات ساعة مندم… اللهم فاشهد، إني قد بلَّغت.