قراءة في مطبوعتين صادرتين عن آداب البلمند / بقلم الدكتور علي مهدي زيتون

مطبوعتان صدرتا عن كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة البلمند في العام 2015.  قدّمت الأولى أعمال مؤتمرٍ أقامته الكليّة العام 2014، وجمعت الثانية دراسات عامٍ كامل هو العام 2014 نفسه ومؤتمرٌ، بما يعنيه مؤتمر، وحوليّة، بما تعنيه حوليّة، وبقطع النظر عن المضمون، يمثّلان علامة دالّة على ما تبذله هذه الكليّة من جهود ثقافيّة تتوازى مع جهودها الأكاديميّة وتواكبها وتعطيها فضاءها الأوفى.

وإذا عرفنا أنّ المؤتمر قد عُقِد تحت عنوان “برفقة جرجي زيدان النهضة في عُهدة الحاضر”، وأنّ الحوليّة قد كانت ملفّا جمع أبحاثا موضوعها: “نشأة الرواية العربيّة الحديثة”، أدركنا طبيعة الهمّ الذي يشغل بال هذه الجامعة. إنّهنهضة مجتمعنا الحديثة.

واستحضار النهضة التي شغلت بال جرجي زيدان، واستنفذت كلَّ جهوده، ووضعُها في عُهدة الزمن الحاضر، إشارة واضحة إلى ثقة الجامعة بنشاط جرجي زيدان النهضوي، وإلى تصوّرها الخاصّ بكيفيّة الخروج من ربقة تخلّف مجتمعنا هذه الأيّام. أمّا استحضار سلسلة الأعمال الروائيّة التي تمثّل نشأة الرواية العربيّة في حوليّاتها، فإنّه إشارة إلى همّ يقع داخل الهمّ الأوّل الكبير، نعني به النهضة الأدبيّة، من خلال خصوصيّة الرواية العربيّة، بحثا عن المسافةِ التي قطعتها هذه الرواية منذ نشأتها في القرن التاسع عشر،و عن الطريقِ التي سلكتها، والمشكلاتِ التي واجهتها، بما يوحي بأنّنا أمام إيماءة خفيّة مبطّنة إلى أدبيّة الرواية.

وحين تكون الهموم التي شغلت بال كليّة الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة البلمند بهذا الحجم، فإنّ ذلك مؤشّر قويّ إلى المناهج الدراسيّة الخاصّة بهذه الكليّة، وإلى ما يحدّد تشكّلَها وسيرورتها. فالهمّ الكبير مدعاة لمناهج أكاديميّة تكون متناسبة معه متطلّعة إلى فهم المشكلات التي تواجه المجتمع والحلول المطلوبة لتلك المشكلات. يعني أنّ جامعة البلمند ليست جامعة حياديّة يقتصر عملها على تقديم المعرفة العامّة لطلّابها، ولكنّها جامعة وظيفيّة تعرف ما تريد، وترسم طريقها إلى هدفها النهضوي المتعالي على كلّ هدف تائه عن المجرى السليم.

ومن يراقبِ الأسماءَ التي شاركت في بحوث المؤتمر، أو دراسات الحوليّة، يدركْ أنّها، وبناء على همومها، قد أعطت القوس باريها. فجابر عصفور، وعبدالله ابراهيم، وسعيد يقطين، وإدريس الخضراوي، وشربل داغر، أسماء سمقت في سماء الساحة الثقافيّة العربيّة، خصوصا ما تعلّق منها بالدراسات السرديّة. وهذه الأسماء التي وردت تمثّل جيلا رائدا لا يقلّل من موقع بقيّة الأسماء التي تمثّل جيلا ثانيا من مثل: حسن الأبيض  وأنطوان أبو زيد  وأديب سيف الذين يعدّون جيلا ناهضا بالثقافة الأدبيّة العربيّة يضع القدم على القدم، ويسير بخطى وئيدة واثقة إلى المرقى الكبير. باختصار عرفت جامعة البلمند كيف تتعامل مع أجيال الثقافة العربيّة الناهضة، جيلا إلى جانب جيل. ولا تقلّ الأسماء التي أنتجت الدراسات الخاصّة بمجلّة الحوليّات رونقا عن أسماء الذين قاموا بأعباء مؤتمر جرجي زيدان. فقد بذلوا جهدا تحقيقيّا تأصيليّا مشكورا لنشأة الرواية العربيّة. وقد أوصلهم هذا الهمّ التأصيلي إلىنتائج واضحة تتعلّق بزمن نشأة تلك الرواية. ولعلّ الهمّ التحقيقيّ التأصيلي الذي حدا هؤلاء الباحثين كان مدعاة لتجاهل ما وصل إليه النقد الأدبي الحديث حول أدبيّة الرواية. تلك الأدبيّة التي تستطيع أن تفتح أمام حركة البحث أفقا ينتقل بتلك النتائج من وضعيّة إلى وضعيّة أكثر عمقا.

ومهما يكن من أمر، فإنّ من يقرأ مطبوعتي كليّة آداب البلمند، يجدْ نفسه أمام همّين مترابطين: همِّ النهضة من ناحية، وهمِّ مفردة من مفردات النهضة، الجانبِ الأدبيّ من ناحية أخرى. ويستدعي هذا معالجتين، سأهتمّ بالهمّ النهضوي العام من بينهما. ولعلّ أوّل ما يلفت في أبحاث المؤتمر هو تلك الإشارة المتعدّدة الجوانب والمرامي إلى سؤال النهضة . ذلك أنّ عنوان المؤتمر “برفقة جرجي زيدان، النهضة في عُهدة الحاضر”، قد مثّل طرحا ضمنيّا مفتوحا لهذا السؤال على المشاركين، فحاولوا الإجابة عنه. وذلك من خلال النظر في أمرين: الأوّل ما يمثّله جرجي زيدان نهضويّا، والثاني صلاحيّة نهضويّة زيدان في الزمن الحاضر. وممّا يجدر ذكره هنا، هو أنّ هذا العنوان قائم على ثقة بما يمثّله زيدان، وعلى إيمان بصلاحيّة نهضويّته للزمن الحاضر،فهل جاء المؤتمر متناسبا مع هذه القضيّة؟

أعاد شربل داغر، وهو منسّق المؤتمر واللجنة العلميّة ، صوغَ العنوان بأسلوب مجازيّ معبّر. وسؤاله: “لو افترضنا أنّ جرجي زيدان رسم (هلال) النهضة، فهل صار هذا الهلال بدرا؟” (ص19) إنّما يمثّل تعبيرا عن همّ مؤرّق عنده. فهو لم يكتف بالبعد التشكيكي الذيحمله حرف الشرط (لو) الذي يفيد امتناعا لامتناع، ولكنّه ضاعف هذا التشكيك من خلال ربطه بالفعل (افترضنا) الذي يحمل من التشكيك ما يحمل. الافتراض شكّ بحقيقة نهضويّة زيدان، والاستفهام المبني على افتراض “هل صار هذا الهلال بدرا؟  هو استفهام لا يحمل من اليقينيّة ما يطمئن.

ومهما يكن من أمر، فإنّنا وإن عددنا تشكيك داغر بنهضويّة زيدان شكّا منهجيّا هو من قبيل مسايرة مَن شكّكوا بتلك النهضويّة تمهيدا لكي يتمكّن من تصويب موقفهم ؛ فإنّ المهمّ بالنسبة إليه هو فعل تلك النهضويّة في زماننا الحاضر، فهو شغله الشاغل .

ولقد طرح جورج نحّاس سؤال بدريّة الهلال الزيداني ، بشكل لا يقلّ منهجيّة عن سؤال داغر. رأى، كداغر: “أنّ جرجي زيدان وأمثاله لم يكتبوا لزمنهم فقط” (ص11)، بما يعني أنّه على ثقة بما يمثّله جرجي زيدان على طريق النهوض، إلّا أنّ سؤاله: “أين هذه النهضة في عقلنا العربيّ؟  (ص11) إنّما يؤكّد ما ذهب إليه داغر، خصوصا أنّ قوله: “عن أيّة نهضة نسأل، وقد تآكلها التعصّب الطائفي، والاصطفاف المذهبي ” (ص11)، إشارة إلى مرارة موجعة تعتمل في نفسه .

وأعاد خالد زيادة طرح المشكليّة التي أثارها الباحثان السابقان بأسلوب مختلف، مسدّدا إلى عمق مختلف. فهو لم يستسغ السؤال المطروح بشكل عام: “كيف نأخذ عن أوروباما يلائم مجتمعاتنا؟ “(ص33) استبدل به سؤالا آخر: “لماذا تقدّمت أوروبا، ولماذا تأخّر المسلمون؟”(ص33). والسؤال البديل يبطن حقيقتين: تفيد الأولى أنّ معرفة مقوّمات التقدّم الأوروبي آليّاتٍ ومنهجا، هي امتلاك لتلك المقوّمات، يمكّننا من الافادة منها في أثناء بناء نهضتنا، وتفيد الثانية أنّ معرفة الأسباب التي حالت دون تقدّم المسلمين هي مدعاة لمعالجة تلك الأسباب. ويعني ذلك أنّنا أمام سؤال يضع الإصبع على الجرح. وهذا ما أومأ إليه جورج دورليان حين قال: “تتلخّص ( النهضة) في محاولة رسم هويّة بقيت لقرون متناثرة ومفكّكة. وما اهتمام معظم مثقّفي النهضة بإحياء اللغة العربيّة وآدابها وفكرها إلّا توجّها صريحا وطموحا لتحديد خصوصيّة حضاريّة بقيت مطموسة تحت الغطاء الديني “(ص15).لعلّه يشيربقوله هذا إلى أنّ نهضتنا مازالت في طور الاهتمام. والاهتمام بأمرٍ، النهضةِ هنا، والتوجّه إليه إشارة إلى هاجس يمثّل مطلبا مستحوذا على تفكير المثقّف العربيّ. وحديثه عن “خصوصيّة حضاريّة” لا ينفي فكرة التغرّب ويرفضها فحسب، ولكنّه يشير إلى أنّ نهضتنا هي عين خصوصيّتنا، مساهمتنا الخاصّة في رفد الحضارة الإنسانيّة بمعطيات تجربتنا في معالجة مشكلاتنا. وذلك بما نبدعه من أدب وفكر ولغة؛ لأنّ اللغة نماء مستمرّ مرافق لنماء ثقافتنا ومعبّر عنه. لقد قدّم جورج دورليان لنا فكرة النهضة الصحيّة المعافاة بلمحة دالّة.

ولقد استدعت أسئلة النهضة هذه تشخيصا لواقع مجتمعنا؛ لأنّ التشخيص هو الباب المفضي إلى العلاج. سأل جورج نحّاس: “عن أيّة نهضة نسأل، وقد تآكلها التعصّب الطائفيّ، والاصطفاف المذهبيّ؟ “(ص11) مُعدّيا الفعل ( تآكل ) إلى النهضة ليشير  إلى الجهد الذي بذله زيدان وأمثاله من النهضويّين من جهة، و إلى إعلانٍ عن تضييع تلك الجهود بسبب التعصّب والتقوقع من جهة أخرى. العلّة، بالنسبة إلى نحّاس، قائمة في تفشّي الطائفيّة والمذهبيّة مرضا عضالا. وإلقاء التهمة على العصبيّة وما تنشره من سموم كفيلةٍ بإجهاض التفكير العلمي الذي أسّس له زيدان، لا تعفي المثقّف من أداء  دوره وتقديم جهده في اصطناع التفكير العلمي الذي يخرج مجتمعنا من بؤر الطائفيّة البغيضة السوداء المعوّقة .

وذهب شربل داغر أبعد من ذلك حين قال: “كيف لنا أن ننهض، أن نتقدّم؟ ما يبقى لنا منهم (النهضويّين) هو إرادة المعرفة البنّاءة، إن جاز القول، وهو ما نفتقده في أيّامنا هذه حيث تسود الإشاعة بدل الخبر، والعنف بدل الحوار، والتحكّم بدل التعايش، والتخوين بدل البناء “(ص19). يقوم تشخيص شربل داغر موقعنَا (لموقعنا) على سلّم النهضة على بعدين: الأوّل هو أنّ إرادة المعرفة البنّاءة قد تحدّرت إلينا من زمن زيدان، وهي مطلوبة يمكننا أن نبني عليها توجّهنا إلى مستقبلنا، ويأتي الثاني لينسخ وجود هذه الإرادة؛ لأنّها ” ما نفتقده في أيّامنا هذه “، مقدّما صورة مأسويّة عن هذا الافتقاد. والثنائيّات التي عرضها: (الإشاعة/ الخبر)، (العنف/ الحوار)، (التحكّم/التعايش)، (التخوين/البناء) قد تعالت فيها الإشاعة وما تحمله من بعد تآمريّ على الخبر وما يحمله من صدقيّة وحقيقة، وتعالى العنف بما يمثّله من غريزيّة على الحوار وما يمثّله من عقلانيّة وتحكيم للعقل، كما تعالى التحكّم وقمع الآخر على التعايش معه وقَبوله والاعتراف بحقّه ووجوده. هذا فضلا عن تعالي التخوين واستسهال الكلام المضلّل على البناء وما يتطلّبه من جهد. قدّم لنا شربل داغر واقعا مرضيّا لمجتمعنا في إشارة إلى صعوبة المعالجة والخروج إلى فضاء نهضويّ يعلي إنسانيّة الإنسان. ورأت أسمهان عيد” أنّ بلادنا الشرقيّة ما زالت تعاني من الظلم، وقمع الحريّات، والمذهبيّة البغيضة، والانقسام الحادّ بين الطوائف، والحروب المتنقّلة من بلد عربيّ إلى آخر، إضافة إلى الجهل المستشري، ونموّ الغرائز، وتهافت العقل، وترنّح العلم، وفساد الأخلاق، وتأخّر المرأة… والشرق ما زال شرقا يسيطر عليه الأجنبي، وأبناؤه منقسمون”(ص333). حمّلت أسمهان عيد مجموعةً من العناوين مسؤوليّة التخلّف منها ما يتعلّق بالإنسان نفسه، كتهافت العقل وفساد الأخلاق، ومنها ما يتعلّق بمن يتولّى إدارة شؤونه كالحاكم والأجنبيّ. وهي بهذا الأمر إنّما تحدّد للمثقّف النهضوي ما يجب أن يتوجّه إليه بالمعالجة. فالمعوّق سياسيّ، شعبيّ، وطنيّ. وإذا كان ما ذكرته أسمهان عيد فاعلا حقيقيّا في تخلّف مجتمعنا، فهل يعني ذلك بعدا تشاؤميّا تضمره هذه الباحثة ؟ وهي بتشاؤمهاهذا تتلاقى مع شربل داغر في استفهامه الإنكاريّ:”كيف لنا أن ننهض، أن نتقدّم؟” بما يشير إلى شيء من اليأس والإحباط، أم أنّ التشخيص مفتاح لعلاجٍ ما؟

رأى شربل داغر أنّ “ما يكتبه (زيدان) ويقترحه، هو وأعداد من أقرانه، يبدو اليوم مهمّشا، إن لم تصبه أحيانا كلماتُ النبذ والتخوين” (ص302)، فتعدّى كلامُه هذا الافتقادَ إلى النبذ والتخوين. لم يبق في خانة الاهمال، بات موضع اتهام، بات الموقف منه موقفا عدائيّا. وموقف كهذا يومئ إلى أنّ هؤلاء المتّهِمين سائرون في طريق انحداريّ .فهل نحن أمام طريق مسدود؟

حين حمل شربل داغر على نابذي النهضة الزيدانيّة ومخوّنيها إنّما عبّر عن ألمه ممّا تردّت إليه الثقافة في مجتمعنا، من دون أن يعني ذلك يأسا أو إحباطا؛ لأنّ سؤاله عن هلال زيدان إن كان قد بلغ سنّ البدر في زماننا إنّما هو إدراك منه بأنّ هذا الهلال هو الدليل الذي “يقودنا إلى تبيّن حقيقة النهضة ومسائلها (ويجعلنا) معنيّين بطرح ما قالته النهضة في ضوء الحاضر”(ص19). يعني ذلك أنّ سؤاله هذا إنّما يتطلب قراءة جديدة للنهضة الزيدانيّة من أجل فهمها فهما عميقا يستطيع أن ينير لنا أسئلة النهضة بما صارت إليه في زماننا الحاضر. وهذا ما أكّدته نايلة أبي نادر وهي توازن بينه وبين أركون، فقد أمسكت بالعمق الذي يبني عليه داغر اهتماماته وهواجسه. “إنّ الدخول في العهد الجديد(حسب داغر) ينطلق من الإنسان ويتوجّهإليه”(ص369). وأن تكون إنسانيّة الإنسان هي المحكّ، يعني أنّنا أمام أفق بلغ من الرقي أقصاه. ولا نهضة حقيقيّة من دون هذا الأفق. وتأكيد أسمهان عيد “رؤيويّة روّاد النهضة وراهنيّة المسائل التي عالجوها”(ص333) إنّما يصبّ في هذا المصبّ .

ولقد أكّد هذا ما ذهب إليه جورج نحّاس، حين قال: “لم يكتب جرجي زيدان وأمثاله لزمنهم فقط”(ص11)، ممهّدا بهذا القول السبيل لكي يرسم لنا خطّة واضحة للنهوض. التفت نحّاس إلى الجامعات والمؤسّسات الثقافيّة والسياق الثقافي(ص12)، ليرى أنّ “احتضاننا للنهضة يعني احتضانا لهذا المارد الإنسانيّ، الطاقات الكامنة في شباب المدارس والجامعات”(ص12)؛ لأنّ هذه النهضة هي”نهضة فكر متوثّب يعي قدراته ويضع نفسه على مستوى التحديات المعاصرة ليصنع حضارة الغدّ، وليس فقط ليرتهن لمنجزات الآخرين”(ص12). وهو بهذا الكلام يضع الإصبع الموضع الصحيح، فمواجهة التحديات المعاصرة ،تعني استيعاب ما نعانيه من مشكلات، ووضع الحلول لها، بما ينتج ثقافتنا الخاصّة بعيدا من التغريب. فعدم الارتهان لمنجزات الآخرين، يعني أن يكون لهذا الجيل الفتيّ من أجيالنا منجزاته الخاصّة به، والمرتبطة بما يواجهنا من تحديات، وما تستوجبه هذه التحديات من جهود. ويستدعي كلام نحّاس أن نحوّل مواجهة التحديات إلى مؤسّسات تنهض بها.

وحين دعا محمود حدّاد إلى الأخذ بمنهج عقلانيّ حداثيّ يمكّننا من خلق نموذج عربيّ معتدل ومتوازن، إنّما أراد أن يضعنا على سكّة الحداثة التي يؤمن، من أعماقه، أنّها غربيّة المنبت. ولذلك حاول أن يضع لنا معادلة التعامل معها. أن يأخذ النموذجُ العربيّ منها “ما يحتاج إليه…على الرغم من الغرب وليس بسببه، وبدون انتظار وهم أو سراب مساعدته”(ص316). وكلامه هذا إنّما يأخذ أمرين بالحسبان: الأوّل حاجتنا إلى ما أنتجه الغرب من معارف جديدة، والثاني هو أنّ الغرب يتعامل معنا على قاعدة العداء، خصوصا أنّ عنوان دراسة حدّاد هو “الغرب ونموذجه بوصفهما حاجزين أمام النهضة العربيّة” (ص305). فهل يعني ذلك أنّ الغرب بحداثته التي بنى عليها قوّته الماديّة والعسكريّة قد استطاع أن يسيطر على مقدّراتنا، وأن يضطهدنا، وأن يُحلّ لنفسه دمنا وخيراتنا، بما يقدّم تلك الحداثة، بالنسبة إلينا، حاجة وعدوّا في الوقت نفسه؟

إنّ تمحور كلامه حول حاجتنا إلى الحداثة الغربيّة كان على حساب حاجتين: الأولى حاجتنا إلى امتلاك تراثنا امتلاكا جديدا للإفادة منه، والتأسيس عليه لنهضة جديدة، والثاني حاجتنا إلى توظيف عقلنا العلميّ في طرح أسئلةٍ موضوعها مشكلاتنا الراهنة.

كلمة أخيرة:

ويبقى أنّ المؤتمر قد رسم خارطة الدور النهضوي الذي قام به زيدان بكلّ تفاصيله، ووضع أمامنا تجربة مرحلة تاريخيّة متمثّلة بهذه الشخصيّة الثقافيّة التي أفرزتها تلك المرحلة. وهي وإن لم تستطع الوصول بمجتمعنا إلى الحداثة المرجوّة، إلّا أنّها تمثّل قابليّة للتطوير إذا ما فُهِمت فهما علميّا سليما يحدّد موقعها من خلال ثلاث زوايا:

الزاوية الأولى: ما علاقة تجربة زيدان النهضويّة بتراثنا اللغوي والأدبي والفكري؟ وما إمكانيّة إفادة واقعنا الثقافي الراهن من تلك العلاقة؟ توجد في تراثنا هذا بذور، لو لم يُصب تاريخنا بانكسار، مع بداية القرن السادس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، واستمرّ إلى نهاية زمن العثمانيّين، لأينعت ( تلك البذور ) ثمارا علميّة باهرة تفيد منها البشريّة جمعاء. ولا يجوز لنا أن نغفل تلك البذور، فلا نتعرّفها، ونفهمها، ونقيم موازنة بينها وبين ما وصلت إليه الثقافة الغربيّة الحديثة. فثنائيّة (الدال/ المدلول) في العلامة اللغويّة، وما أحدثته هذه الثنائيّة (النموذج اللغويّ) من ثورة داخل مختلف الحقول المعرفيّة التي تعاملت معها الثقافة الغربيّة، كانت بذرة واضحة المعالم، في القرن الرابع الهجري، مع “طراز” ابن طباطبا. ولا يعني ذلك أنّ سوسير قد بنى على ما وصل  إليه ابن طباطبا. ما وصل إليه سوسير مؤسّس على أجواء الحداثة التي عاشها الغرب في ظلال العقل العلمي. ولا يجوز لنا ألّا نكون على معرفة بما وصل إليه تاريخنا الثقافي القديم وما أينع به من علامات القوّة والتفوّق.

الزاوية الثانية: ما علاقة تجربة زيدان النهضويّة بحركة الحداثة الغربيّة المؤسّسة على العقل العلمي؟ وما إمكانيّة إفادة واقعنا الثقافي الراهن من تلك العلاقة؟ طرحت تلك الحداثة على نفسها السؤال البدهي: ما مشكلات المجتع الغربي؟ وما التحديات التي يواجهها؟ فأنتجت علم اجتماع، وعلم نفس، وعلم تاريخ، وعلم لغة، وعلم أدب، وعلم فلسفة، ناهيك عن العلوم التقنيّة المتعدّدة. كانت ثورتها خطوة واحدة حاسمة، هي الانتقال بالدراسات التي تتولّى مختلف الحقول المعرفيّة لتصبح علوما يقينيّة يُبنى عليها. فهل التقطت تجربة زيدان هذه الحقيقة؟ أو بالأحرى ماذا كان يفصلها عن تلك الخطوة ؛ لنكملها نحن؟

الزاوية الثالثة: تتعلّق بكيفيّة تشخيص تجربة زيدان لمشكلات المجتمع وللتحديات التي تواجهه. ما مقدار فهمها تلك المشكلات؟ وما نجاعة الحلول التي وصفتها لتلك المشكلات ؟

وإذا أردنا الإفادة من تلك التجربة، علينا أن نعاين المسافة التي قطعها مجتمعنا بين زمن زيدان وزمننا الحالي. ما يعانيه مجتمعنا الآن، هل هو عين ما عاناه المجتمع أيّام زيدان؟ وهل نستطيع القول: إنّ قدرة عيننا الحاليّة على الرؤية هي قدرة متطوّرة عن قدرة عين زيدان، وتطوّرها متناسب مع ما جدّ من مشكلات، وما جدّ من معرفة؟

هي حسابات يجب أن نأخذها بالحسبان لكي ندفع بهلال زيدان لكي يصبح بدرا ينشر النور الوضّاء في مجتمعنا.