كمال جنبلاط والضمير

د. صلاح ابو الحسن

إذا خُيّر أحدكم بين حزبه وضميره، فعليه أن يترك حزبه وأن يتبع ضميره، لأنّ الإنسان يمكن أن يعيش بلا حزب، لكنه لا يستطيع أن يحيا بلا ضمير” – كمال جنبلاط

يا معلمي، اذا كان الضمير شمعة تضيء الدروب.. فاعذرني ان قلت لك ان كل الطرق اليوم في عالمنا مظلمة وقاتمة.. ربما بدأت الظلمة منذ رحيلك.. وكأنهم ارادوا باغتيالك إطفاء كل شموع المبادىء والاحلام..

بتنا لا نرى الا الرايات السوداء والعتمة.. ولا نرى الا دروب الجنازات والمقابر.. مقابر بلا ورود.. ونرى فقط دروب الباطل والظلم والدجل والرياء والخبث والمكابرة..

السعادة التي كنت تبشّر بها.. صارت حلما بل سرابا.. وباتت من الماضي الذي كان منيرا.. اعرف انك كنت تكره العودة الى الماضي.. وتعتبر ان الماضي لا يجوز ان نجعل منه صنما نتعبده.. ولكن بعد الخيبات والانحطاط والاسفاف والتردّي والتقهقر صرنا نعشق العودة الى الماضي..

السجن العربي الكبير توسّع في عالمنا.. ولم يعد لبنان بمنأى عن هذا السجن.. لكنه بات سجنا سياسيا وفكريا وعسكريا واقتصاديا واعلاميا.. والدولة “دويلات” والجيش “جيوش” بعضها يقاتل حيثما تدعو الضرورات الاقليمية بتكليف “الهي” وحصري.. والسيف والسلاح بات زينة التعصب والإرهاب.. والقضاء “ممسوك سياسيا”.. والمؤسسات مقبوض عليها الى حدّ شلّها وتعطيلها.. والصحافة والاعلام كما الاحزاب مرتهنة.. والأنكى ان المرتهن يتهم غيره بما هو فيه..

المذهبية في اوج ازدهارها باتت السلاح الأمضى.. المتدينون هم الأكثر فتكا بالانسان.. كلما زاد “التدين” ازداد القتل والذبح.. التلوث البيئي في سباق مع التلوث السياسي والاخلاقي..

عهد رجالات الدولة انتهى.. صارت النسب المئوية تحدد الرجالات.. اكثرية الـ99% التي عرفناها في الانظمة العربية الديكتاتورية المخابراتية، اجتاحتنا.. فتعطلت دولتنا ومؤسساتنا باسم الاكثريات.. وبتنا نهرول نحو القعر.. وباتوا يتزاحمون للوصول الى البراكين المشتعلة حولنا.. لا يريدون الإصغاء لصوت العقل والضمير.. المهاتما غاندي كان يقول: “في مسائل الضمير، لا مكان لقانون الأغلبية”.. اليوم للأسف افتقدنا الضمير السياسي.. الخيار صار للسلاح والصواريخ والكيميائي وليس للضمير.. وصار لله احزابا مقاتلة وتقف الى جانب الظالم.. القتل والذبح والسبي والسيف كلها من اجل الله.. الكل يتسابق للوصول الى “جنّات” الله.. لم تعد هناك جنّة واحدة.. فلكل حزب وعصابة ودولة وخلافة جنّته..

IMG-20160316-WA0015

لذلك كان “المعلم” يقول: “لا أنوه بتفاهة الحكام وبلادة المسؤولين.. كأنه حكم على اللبنانيين أن يحكمهم دائما الجهال”..

لكنه كان يرى ان “المساواة في العضوية” هو الخطأ الاساسي الذي تتعثر به “الأنظمة البرلمانية المعتمدة للنظرة الحسابية للمساواة”… فيما يتباهى البعض اليوم بالأكثرية العددية والنسب المئوية.. وحسب كمال جنبلاط فان “النظام الديمقراطي البرلماني هو نظام البلّه او معتدلي الكفاءة والعقل”.

للأسف، لم يعد هناك رجالات سياسة.. بمفهوم رجالات “اللحظة المناسبة”.. قلة قليلة جدا هم رجالات الدولة.. ومع غياب رجالات الدولة، غاب للأسف العقل والعقّال.. الخطابات الشعبوية التي تثير المشاعر هي الطاغية.. المهم “إثارة الناس في أعماقهم، لا تحريك سطحياتهم، لأن ثورة الأعماق تبقى، أمّا ثورة السطح فتذهب بها الزوابع”.. كان يقول كمال جنبلاط..

الاكثرية اليوم، هم “رجالات” السياسة “الشعبوية” و”الثورجية” هم اشبه برجالات “الممانعة” و”الصمود والتصدّي” و”المقاومة” التي غيرت وُجهة بندقيتها من الجنوب الى الشرق.. الغريب انه قبل نصف قرن.. كان الجيش يعتبر ان العدو يأتي من الشرق.. اليوم صار عدو “المقاومة” شرقا.. وصار الشيطان الأكبر الخليج العربي.. ومكة حلّت محل تل ابيب..

وأصبحت مهمة “المقاومة” نصرة الظالم على المظلوم ونسوا ما قاله الامام علي: “يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم”..

كنت تعتبر يا “معلمنا”، ان السياسة والأخلاق مترابطان، “السياسة يفترض فيها أن تكون أشرف الآداب إطلاقًا”.. فلا سياسة سليمة من دون أخلاق ومن دون مناقبية.. اليوم نحن في زمن اللاسياسة واللاأخلاق.. هزُل السياسيون فهزُلت السياسة.. وهزُلت الأخلاق فهزُلت المبادىء..

لبنان خسر في الحرب 300 الف ضحية عدا الخراب والدمار.. ولم يتعلّم.. وقد يخسر الوطن قبل أن يتعلّم.. رحم الله زمن ميشال شيحا وبشارة الخوري وفؤاد شهاب وريمون ادّه وكمال جنبلاط وكميل شمعون وشارل مالك و..

اليوم يتبارى السياسيون لتسجيل النقاط في مرمى الآخر.. والذين يعتبرون انفسهم أصل “الكيان” و”الصيغة” ويفخرون بـ”فينيقية” لبنان”.. هم من يدفنون لبنان حيا.. بعضهم بدافع التعصب والبعض الآخر نتيجة الارتهان.. باتوا اليوم شطارا في الانتحار ونحر لبنان.. للأسف التضحية مفقودة.. وطالما لم يتخلوا عن عقدة النقص “الأقلوية” فلن يقوم لهم قائم.. لم يتعلموا شيئا من كمال جنبلاط!!…

بشارة الخوري استقال بعد اهم ثورة سلمية عرفها العرب.. ميشال شيحا وضع دستور استقلال لبنان مع بترو طراد وعمر الداعوق عام 1926.. فؤاد شهاب بنى الدولة الحديثة.. ريمون ادّة لم تثنه كل الضغوط عن المبادىْ.. كمال جنبلاط اختار ضميره في مسيرته السياسية.. شارل مالك شارك في صياغة واعداد الاعلان العالمي لحقوق الانسان عام 1948.. البطريرك الياس الحويك كان بطريرك لبنان الكبير..

بعضهم لا نتفق معهم في السياسة.. لكن جميعهم كانوا حريصين على حماية لبنان ووحدته..

واين نحن اليوم من مارون عبود ومي زيادة وميخائيل نعيمة وجرجي زيدان وفؤاد افرام البستاني وامين الريحاني وجبران خليل جبران؟؟..

كمال جنبلاط خاف على لبنان من ابنائه وقاله في ندوة سياسية عام 1958: “يكاد لبنان في هذه المرحلة يكون اتحادا فيدراليا لطوائفه اكثر منه دولة في المعنى السليم والصحيح”.

خشي كمال جنبلاط على الحريات بأقانيمها الثلاثة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية.. ولذلك حمل لواءها واستشهد من أجلها.. وخشي ان يعتاد المواطنون على الحرمان من الحرية كما هي الحال في الانظمة العسكرية المخابراتية في العالم العربي وفي الأنظمة الشيوعية..

كان كمال جنبلاط يرى، ان لا ديمقراطية من دون ديمقراطيين ولا حرية من دون احرار.. ولا وطن من دون وطنيين..

وكان يرى أن الانسان هو الغاية لأي عمل حزبي او سياسي او اجتماعي.. الانسان هو اهم شيء في العالم ولا قيمة لأي شيء اذا لم تكن غايته الانسان.. وان لا قيمة لأية عقيدة اذا كان من شأنها تقويض اخلاق الانسان، لكن المهم هو فهم الانسان.. وهذ الفهم هو من أعقد وأصعب الامور.. ويقول: “وُضعت العقائد والأيديولوجيات لأجل الانسان وترقيه المعنوي، ولم يخلق الانسان لأجل العقائد ولأجل اختبارها عليه”.. و”ان الأنظمة لا تصطلح الا بصلاح الإنسان، لأن الإنسان هو قطب الوجود الاجتماعي ورحاه”..

ولذلك، كان يدعو لخوض معركة الثورة الثالثة، “ثورة التبديل في المجتمع والإنسان، بمنحه ذهنية وروحية جديدة، وإن كان هذا حلم، فلولا الحلم لما كان جمال الدنيا ولما سعى الإنسان في الحياة، فهو المحرّك للبطولة وللتاريخ وللحضارة.. والثورة الثالثة في عالم الإنسان هي الثورة المعنوية”.

ما كان يقوله ليست نبوءات او رؤى.. كمال جنبلاط كان يستشرف المستقبل استنادا لقراءته واستنادا لصفاء ذهنه.. وكان يقرأ المستقبل في ضوء قراءته لمجريات التاريخ وحتمية التطور.. من هنا، قال في كتابه “ثورة في عالم الانسان”: “هذه الأنظمة (الكلية الشيوعية) بدأت تعصف فيها رياح الحرية، والتي ستتحول الى ديمقراطيات سياسية ذات نظام حريات وشورى في المناهج والأحزاب قبل سنة 1985 في تصورنا..”..

وكان “المعلم”، وقبل ان نشهد هذه الثورة المعلوماتية، اي قبل اكثر من نصف قرن قد رأى، ان هذا العالم سيتحول في وقت قريب الى “قرية كونية صغيرة”.. فـ”مجموع ما في العالم كله من مادة الذرات، لو تقلص على بعضه وضغط لكي لا يعود فيه فراغ ملموس، يملأ فقط قمع الخياط”.. أو ما يُسمّى اليوم “ذاكرة الكترونية”.. او Universal Serial Bus “USB”..

كمال جنبلاط، لم يخسرك لبنان والعرب فحسب.. بل خسرك العالم كله، خسرتك الانسانية جمعاء، خسرك الادباء والمفكرون والفلاسفة والعلماء.. خسرك فقراء العالم الذين ليس على صدورهم قميص.. وقد كنت وفيا لهم ونصيرا لقضاياهم.. خسرك المتصوفون والتقاة وانت كنت تلميذا ثم معلما في صفوقهم.. خسرك العمال وكل المقهورين والمظلومين.. خسرك المزارعون والنقابيون والحرفيون والمهنيون.. خسرك كل الشرفاء.. خسرك الانسان الذي آمنت به وبقيمته..

حدّثني احد الاصدقاء قبل ايام، انه اثناء مناقشة اطروحته في الهندسة في الولايات المتحدة، بدأ استاذه بمقدمة لا علاقة لها بالاطروحة، حول رجل عظيم من رجالات العالم، وعالم ومفكر قلّ نظيره وفيلسوف مميز جمع بين السياسة والفيزياء وعلوم الحياة والطب والهندسة واللاهوت والتصوف واجتمعت في شخصه كل ثقافات العالم وتميز بالهدوء والرصانة والتواضع والانسانية وسمو الاخلاق.. لينتهي بعد اكثر من عشرين دقيقة الى القول: انه كمال جنبلاط..

وتذكرت عند سماع صديقي.. شيخا من الجبل قال عند سؤاله عقب اغتيال كمال جنبلاط، من قبل محطة تلفزيونية اجنبية: “كان منيح الله يرحمو لا نفعنا ولا ضرنا”!!!!….

ربما خُلقت يا كمال جنبلاط في عصر ليس عصرك.. ومحيط غير محيطك.. وقد اختصرت ذلك بقولك وكأنك تتحدّث عن نفسك: “ان من يسبق التاريخ بافكاره، يتوقع ان تكون المقصلة بانتظاره في بعض الاحيان”..

لكنها “مقصلة” الجبناء والانذال والأخساء والخبثاء والأوغاد وأشباه الرجال من مدرسة حزب البعث.. حزب الذئاب.. وبعد اريعة عقود ها هي “المقصلة” قد ثأرت للإنسانية جمعاء من القتلة.. فالتاريخ لا يرحم.. ولعنته ستلاحقهم.. والشعب السوري لن يغفر لهم ولملحقاتهم..

وأخيرا، فخرنا واعتزازنا أننا عاصرناك وعايشناك عن قرب.. وعملنا بتوجيهاتك.. وتحملنا المسؤولية الحزبية والسياسية بفضل دعمك ورعايتك.. واحتضنت حركتنا الشبابية وواكبت ورعيت مؤتمراتنا الطلابية وشاركتنا مخيماتنا الكشفية والاجتماعية ايمانا منك بأهمية العمل المباشر..

نعم، نحن غرفنا من زاد معينك وتتلمذنا وتثقفنا على يديك عبر ندوات الاربعاء ومؤلفاتك ومحاضراتك السياسية والفكرية.. كما واكبت حركتنا ونضالنا في الجامعات، وتظاهراتنا الطلابية والنقابية والمطلبية.. يوم كان للنقابات والهيئات العمالية استقلاليتها ونكهتها النضالية الخاصة..

فخرنا، اننا تلامذة “معلم” وانسان اعطانا من قلبه وروحه واخلاقه وثقافته وفكره.. على أمل ان نبقى تلامذة أوفياء.. وسيبقى “المعلم” كمال جنبلاط وسام شرف في ضميرنا وعلى صدرنا..

اقرأ أيضاً بقلم د. صلاح ابو الحسن

“الدروز” الى أين؟؟!!

هل “هزة” حماة وحلب تُبدل قواعد اللعبة

الى رفاقنا وأهلنا وأصدقائنا في المتن الأعلى “تجربتكم مع هادي سبقت نيابته”

ترامب ومصير الإنتخابات

الناخب بين “الحاصل” و”المحصول”

قانون الإنتخاب “الإلغائي” و”شفافية” التزوير..

لا تصدّقوا وعود الإنتخابات

لا تستخفوا بالمعترضين

بعد الغوطة.. الإرهاب أرحم

ولماذا الإنتخابات؟!

انقلب باسيل على تفاهم مار مخايل.. وقضي الأمر!!

هكذا صهر يُعفي العهد من الأعداء

مصائر الديكتاتوريات متشابهة!

بين نداء الحريري ونداء “صاحب الزمان”!!

ما أحوجنا اليك

وأخيرا… “طفح الكيل”!

“كأنه حُكم على اللبنانيين أن يحكمهم دائما الجهال”..

رسالتي الى الرفيق تيمور

إنتصار “الأوهام” الكاذبة!

صنّاع الإرهاب هم صنّاع تقسيم سوريا!