غياب العدل أساس الهلاك

عرفان نظام الدين (الحياة)

منذ سنوات والعرب يختلفون على «ملائكة» أو بالأحرى «شياطين» حمامات الدم التي غرقت فيها معظم الدول العربية وأدت إلى كوارث وفواجع دمرت الحجر والبشر وفتتت دولاً بكاملها وألقت بدول أخرى على قارعة طريق التقسيم المنكر. هذه المفاعيل أحدثت شرخاً هائلاً بين مكوّنات الأمة أفقياً وعمودياً وأشعلت نيران فتن طائفية ومذهبية وعرقية وعنصرية بدل الآمال التي كانت معلقة على «الربيع العربي» لتحقيق التغيير الملح وإصلاح الأحوال وإيجاد حلول للأزمات المتراكمة عبر العقود.

آراء مختلفة وتحليلات متباينة ومواقف متناقضة وشتائم متطايرة عبر الأثير واتهامات متبادلة بين أبناء الوطن الواحد، وفي بعض الأحيان بين أبناء البيت الواحد، بعضها في الساحات والمجالس والصالونات والمقاهي والمنابر، وبعضها الآخر «على عينك يا تاجر» عبر الفضائيات التي كنا نأمل بأن تشكل نعمة توجه وتثقف وتنير الدرب وتوحد الصف، فإذا بها تتحول إلى أدوات للفرقة والتشرذم وإثارة الفتن والنعرات وتعميق الخلافات.

هذه الممارسات تتم بمشاركة عشرات، بل مئات الوجوه من المحللين والخبراء والطارئين في غفلة من الزمن الذين جرى تلميعهم وإبرازهم للمشاركة في المناطحة والمماحكة ونشر الأحقاد وصولاً إلى التضارب بالأيدي والأرجل وكؤوس الماء حتى تكتمل المشاهد الفاضحة ويتم إيصال الرسائل المسمومة إلى الشعوب لينقلوا موبقاتهم إلى الشارع.

وبعيداً من ضجيج الإعلام وسيل التحليلات المغرضة، فإن انتهاك مفهوم الحرية وصل إلى حدود الخطر لنطرح سؤالاً جوهرياً وهو: لماذا وصلنا إلى هذا الدرك الأسفل؟ ومن هذا السؤال تنبثق عشرات العناوين التي يمكن أن تشكل جانباً من جوانب الأزمة، وليس كل الجوانب. ومنها على سبيل المثال لا الحصر:

– فشل الأنظمة في حل مشاكل الشعوب، وتركها تتراكم بمعالجة القشور وإهمال الأسباب الجوهرية.

– الظلم وانتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات وإغلاق المنافذ التي كان يمكن أن يتنفس عبرها الناس وينفثوا عن همومهم ويبينوا أوجاعهم.

– الفساد بكل ما يحمل تحت جناحيه من آفات ونتائج، مثل الفقر والتخلف والإحباط واليأس والبطالة، بعد نهب الثروات وعدم تطبيق مبدأ توزيعها على الصعيدين العام والخاص.

– تخلف مناهج التعليم وفشل تنفيذ برامج محو الأمية التي تفاقمت مع نشوب الحروب وموجات النزوح والهجرة.

– فشل التجارب والأنظمة الاقتصادية والسياسية المستوردة الذي يشكل بالتزامن مع الأسباب السابق ذكرها، دافعاً للجوء بعضهم إلى سبل أخرى مثل التعصب والتطرف وتشكيل بيئة حاضنة وناقدة لأصحاب المبادئ المتطرفة وكل من يبيت غايات خبيثة ضد العرب والإسلام.

– غياب العمل العربي المشترك من أجل تحقيق الاستقرار والتضامن لإيجاد الحلول والمساهمة في مشاريع مشتركة تؤمّن فرص العمل لملايين العاطلين من العمل على امتداد الوطن العربي، أسوة بالاتحاد الأوروبي وغيره من التجمعات الإقليمية.

– المطامع الأجنبية المصحوبة بتخاذل عربي في مواجهة المخططات ومنع تعميم مبدأ «فرِّق تسد»، وهذا ما تفاقم خطره اليوم نتيجة تسليم مقاليد أمور الحل والربط، والسلم والحرب للدول الكبرى لتقرر مصير العرب وترسم حدودهم الجديدة، وفق مصالحها وليس وفق المصالح العربية.

– طغيان العدو الصهيوني في فلسطين وجوارها وتحدي كل مبادئ الشرعية الدولية وإصراره على المضي في التوسع وضم الأراضي المحتلة والقتل والأسر وتعذيب الفلسطينيين وقهر العرب المسلمين والمسيحيين بانتهاك حرمة المقدسات والتهديد اليومي للمسجد الأقصى المبارك وتهويد القدس الشريف بإقامة مزيد من المستعمرات الاستيطانية.

كل هذه العوامل تعتبر واقعية وحقيقية، لكنها لا تمثل الحقيقة الكاملة لأنها تندرج في مجملها تحت سقف كلمة واحدة وهي العدالة التي ما إن تسود في أي مكان حتى يسقط معظم الحواجز والسدود، وتتداعى أسباب الأزمات والثورات والاضطرابات والنقمة، فتنجو البلاد من مصير أسود ويتجنب العباد مصيراً محتوماً، وهو الهلاك.

فالعدل أساس الملك، وهذا هو المبدأ الذهبي الذي يقوم عليه بنيان الاستقرار والاستقلال والأمن والأمان، وهو مبدأ مطروح منذ بداية الخليقة ومن مبادئ الجمهورية الفاضلة حتى شعارات الثورات، وأبرزها الثورة الفرنسية التي قامت على أساس الحرية والعدالة والمساواة وما سجل في وثائق تاريخية من شريعة حمورابي إلى «ماغنا كارتا»، وصولاً إلى شرعة حقوق الإنسان ومبادئ الأمم المتحدة.

والإسلام هو دين العدالة والمساواة، فالله عز وجل دلنا على معالم الصراط المستقيم والسر العظيم الذي تقوم عليه العلاقات بين البشر، لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوى ولا تمييز بين لون وعرق وفقير وغني وكبير وصغير وامرأة ورجل في قوله تعالى في محكم تنزيله: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط، ولا يجرمّنكم شنآن قوم ألا تعدلوا. اعدلوا هو أقرب للتقوى. واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون». وفي قوله عز وجل: «إن الله يأمر بالعدل والإحسان»، «وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذَا قربى». وأيضاً: «وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل».

ولرسول الله، صلى الله عليه وسلم، أحاديث كثيرة حول وجوب إحقاق الحق والعدل، مثل قوله: «عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة قيام ليلها وصيام نهارها، وجور ساعة في حكم أشد وأعظم عند الله من معاصي ستين سنة»، وقوله صلى الله عليه وسلم: «العدل جنة واقية وجنة باقية». والإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «العدل قوام الرعية وجمال الولاة».

وتحت هذا العنوان العريض والإرشاد الرباني تندرج كل عناوين الحياة والاستقرار والتقدم لقطع الطريق على أي تحرك وثورة، وإقامة ربيع دائم تزهر فيه أماني الشعوب وتنير حياتهم وتحيي آمالهم. فالعدالة الاجتماعية هي أساس بنيان الوطن ومصدر الاطمئنان والأمان والمساواة أمام القانون، فهي تحل كل المشاكل وتوقف الشكاوى، لا فرق بين قوي وضعيف وغني وفقير ومسؤول ومواطن ومدعوم ومأزوم، والمحاسبة أمام القضاء النزيه والعادل تقطع دابر الفساد وتردع كل من تسول له نفسه أن يمد يده إلى مال الشعب أو يهدر ثرواته.

والحريّة لا معنى لها ولا فائدة إن لم تكن مبنية على سيادة القانون التي تحمي كل صاحب رأي وتمنع اضطهاده أو تعريضه للأذى أو سجنه من دون أي مبرر قانوني. والضمانات القانونية هي الأساس في الازدهار وتشجيع الاستثمار وإقامة مشاريع إنتاجية. فرأس المال جبان، كما هو معروف، ولا يقدم على الاستثمار إلا في ظل وجود قوانين واضحة وتدابير حاسمة وسلطة قادرة ونزيهة وقضاء عادل وأمن ممسوك وعدالة مضمونة التطبيق.

وعندما يتم تأمين كل هذه المستلزمات تبدأ عجلة الإنتاج بالدوران لتحقيق الازدهار ودعم الاقتصاد الوطني وإيجاد فرص العمل. والقائمة طويلة، لا حاجة لشرح أكثر لأن كل إنسان يعرف الحقائق كاملة ويضع اصبعه على جراح الأوطان، إلا أنه لابد من الإشارة أيضاً إلى أن أحد أسباب عدم الاستقرار ووقوع الاضطرابات في المنطقة يعود إلى غياب العدالة الدولية في شكل فاضح ومؤلم على مختلف الصعد المتعلقة بالقضايا العربية، وفي مقدمها قضية فلسطين بسبب الانحياز إلى إسرائيل وعدم إلزامها من جانب الأمم المتحدة تنفيذ قرارات الشرعية الدولية.

فبماذا يمكن وصف محنة الشعب الفلسطيني إلا بالظلم الفادح والعدوان الصارخ؟ وبماذا يمكن وصف الاحتلال الغاشم والاضطهاد والقتل والأسر والتشريد والتعذيب وهدم البيوت على رؤوس أصحابها الشرعيين وبناء المستعمرات غير المشروعة المبنية فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة غير الانتهاك المتمادي لأبسط مبادئ حقوق الإنسان.

ومع هذا، فإن من الإنصاف القول إن «العدالة» الإسرائيلية تقوم على أسس ازدواجية المعايير ووفق أسلوب «صيف وشتاء فوق سقف واحد»، أي انها في مقابل العدالة المفقودة والممنوعة على الشعب الفلسطيني في الداخل (الأراضي الفلسطينية المحتلة في العام 1948) وفي الضفة الغربية وقطاع غزة (الأراضي العربية المحتلة في العام 1967) هناك عدالة حقيقية يتنعم بها الإسرائيليون، وآخر مثال على ذلك صدور الحكم بسجن رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود أولمرت بتهمتي الرشوة وتعطيل مجرى العدالة، مع أنه لم يختلس من المال العام، بل قَبِل أموالاً من أحد رجال الأعمال للإنفاق على حملته الانتخابية.

إنها الأسس الواضحة التي تقوم عليها الدول كي تحقق الاستقرار وتبني ولا تهدم وتصون ولا تبدد، وتعز المواطن ولا تذله، وتكافئ المخلص والمنتج والمبدع وتحاسب المقصر والمهمل والفاسد، وتساعد الفاشل حتى ينجح وتدعم الناجح حتى لا يفشل. وقد قرأت أخيراً خير تعبير عن هذا الأمر على لسان العلامة السيد علي الأمين الذي قال: «المطلوب من الدولة أن تكون دولة الإنسان، وأن تكون العدالة نظامها السياسي، لا أن تكون دولة مذهب أو دولة طائفة».

نعم، إنها العدالة التي وضع أسسها الإسلام السمح، وكان الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حريصاً على الالتزام بها، ولهذا لقب بـ «الفاروق» لِما عُرف عنه من عدل ونزاهة ومساواة ودفاع عن حقوق المظلومين ومحاسبة كل ظالم. وعندما رآه أحد الزوار نائماً تحت ظل شجرة، قال كلمته التي ذهبت مثلاً وهي: «حكمتَ فعدلتَ فأمِنتَ ونمتَ».

وأختم مع رئيس الوزراء البريطاني الراحل ونستون تشرشل الذي كان يترأس اجتماعاً طارئاً لحكومته إبان الحرب العالمية الثانية لمناقشة التطورات الخطيرة الطارئة ونتائج الغارات الألمانية المدمرة على مدن عدة، وكانت التقارير متشائمة، إلا أنه التفت فجأة إلى وزير العدل وسأله عن أحوال المحاكم وسير القضاء، فأجابه الوزير بأن كل المحاكم تعمل في شكل طبيعي وأن مسيرة العدالة لم تتأثر أو تتوقف ولو ليوم واحد. فانفرجت أسارير تشرشل وتنفس الصعداء، ثم قال عبارته الشهيرة: «ما دامت العدالة حية وفاعلة، فلا خوف على بريطانيا، لأن العدوان سيفشل والنصر حتمي».

هذه الكلمات تلخص الواقع برمته مهما سردنا من أسباب، وما قدمنا من تحليلات، بل يمكن القول بصورة معاكسة: «ما دامت العدالة غائبة أو مغيبة ومعتقلة في ديارنا، فالخوف كل الخوف قائم على حاضرنا ومستقبل أجيالنا ومصير بلادنا وأمتنا».

اقرأ أيضاً بقلم عرفان نظام الدين (الحياة)

فشل المتطرفون والبديل لم يكتمل

القدس والأقصى… والحساب العسير

مطرقة العروبيين وسندان الإسلاميين

رسائل ترامب … وبداية النهاية

رعب العائدين وحتمية المواجهة

عهد ترامب وعالم التناقضات

الحلول قريبة والألغام كثيرة

الإسلام والعالم أمام المواجهة

حرب عالمية بلا ضوابط

نهاية الإرهاب باستئصال الأسباب

هل يحرق آب اللهّاب الحلول؟

لبنان أسير حروب الآخرين؟

نظرية المؤامرة حقيقة أم خيال؟

لا سلام مع التطرّف والإرهاب

ارتياب في الحرب على الإرهاب؟

طريق الدمار وطريق الإعمار

من عام الدم إلى عام الأمل؟

عزلة إسرائيل بيدها لا بيد العرب

الخاسر والرابح من الإرهاب

حراك الشارع وجمود الواقع