16 آذار: فَقَدَ العالمُ معلّماً بحجمِ أُمّة!
محمود الأحمدية
3 مارس 2016
(عندما أصبح يائساً ومتعباً سأكون هناك… آخذ عنك حملك الثقيل… عندما يلفك الليل بغموضه سأكون هناك أرشدك عبر الزمن… عندما تقسو عليك الحياة ولم تعد قادراً على الإحتمال سأكون هناك عند الفجر أساندك.
عندما تصبح المعاناة رفيقتك الوحيدة سأكون هناك لأمدّك بالثقة بالنّفس، عندما يتخلّى عنك محبوبك وأنت ملقى أرضاً سأكون هناك أنحني لأعانقك، عندما تمتلىء عيناك بالدموع سأمسحها لك دمعة تلو الأخرى، إذا لم يكن الحب قد مات بعد).
هو ترتيل بل صلاة تذهب إلى الأفق البعيد، من ديوان (وجه الحبيب) للمعلم كمال جنبلاط، وعندما بدأت بالكتابة كان رفيق خاطري الحيرة! من أين أبدأ! وأي لآلىء أستطيع اصطيادها من بحر العطاءات والمكرمات وأي زهرة فواحة سأقطفها؟ وعن أي بعد ورؤيا سوف أكتب؟
شخصية تسلبك أنفاسك وأنت تلهث خلف عدة محيطات في محيط واحد، عدة شخصيات في شخصية واحدة، كمال جنبلاط المفكر، كمال جنبلاط الفيلسوف، كمال جنبلاط السياسي، كمال جنبلاط الإجتماعي، كمال جنبلاط البيئي، كمال جنبلاط العالمي، كمال جنبلاط الكيميائي، كمال جنبلاط المتصوف، كمال جنبلاط ورحلاته الأسطورية إلى بلاد الهند حيث المعلمون الكبار.
كمال جنبلاط الإشتراكي الذي أسس حزباً تقدمياً إشتراكياً بمعية نخبة رائعة من مفكري ومبدعي الوطن، أم كمال جنبلاط الشاعر، أم كمال جنبلاط الشخصيّة العالمية الفذة، أم كمال جنبلاط والحركة الوطنية وأروع وأهمّ حركة نضاليّة في تاريخ الشرق من أجل لبنان عربي ديمقراطي حر مستقل، أم كمال جنبلاط الثوري الذاهب إلى الإستشهاد في سبيل شرف الدفاع عن مبادئه وكرامة وطنه ولقمة عيش شعبه.
أصعب مهمة في الدنيا هي إدّعاء الكتابة والتعليق عن عملاق بحجم كمال جنبلاط، لأنّ الإنسان ومهما بلغ شأنه يشعر أنّه في حضرة أسطورة، وطالما أنّه يؤمن بأنّ الإنسان هو صورة الله على الأرض، قليل عليه أن نقول بأنّه نبي الكلمة والنضال والوعي والهداية.
طالما نحن في ذكرى استشهاده يقول المعلم: “وإن أذكر في تخيل شبح الملامسة الروحية، تلك الإحتفالات البسيطة عند دفن جثمان أحد الشهداء، وكانت أعراساً من الفرح والأهازيج تعلو فيها زغردات النساء ونخوة الرجال، وهتافات الأبطال (وكنت لا أتمالك دمعي من الإنهيار غزيراً على وجهي وأشعر في الآن ذاته بضعف النفس وإنكسار الجناح وتواضع الوجدان).
من الصراع التاريخي بين الطبقات إلى الممارسة السياسية إلى العلمنة إلى البلاغة والتصوف إلى ماهية التضادد إلى الروح الأبدية الأزلية إلى رحلات المعلم إلى الهند، إلى الإشتراكية التقدمية إلى الوعي وإدراك الذات بالدين، إلى الخدمة العامة إلى الحرية والممارسة السياسية إلى جمال التسوية، ومفهوم الثورة، إلى التوجّه نحو الجيل الجديد، إلى مستقبل الإنسان الحضاري والنظرة الفرديّة للإنسان، إلى الغزو السوري إلى لبنان ومسألة التوازن، إلى لحظة اغتياله التي دخلت مسام الجسد والروح في ضمير كل حر على سطح هذا الكوكب، وخلال عشر دقائق أو خمسة عشر دقيقة هناك عجز واضح عن إيجاز الصورة المشرقة ولكن عليّ ذكر حادثتين هزتا أعماقي عن المعلم:
الأولى: في إحدى رحلاتي إلى مصر من خلال مهنتي كمهندس مبيعات لفت نظري عنوان لزاوية في الصفحة الأخيرة لجريدة “الأخبار” القاهرية: (حتى أعرّفُك بمعلمي) وخلاصة المقالة التي صعقتني أن الزعيم الخالد جمال عبد الناصر كان في استقبال الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور أحد أساطين الفرنكوفونية في العالم وذلك في القصر الجمهوري، وعندما انتهى وقت المقابلة، همَّ الرئيس سنغور بالنهوض واقفا فاستمهله الرئيس عبد الناصر قائلاً استميحك عذراً بالبقاء فترةً أطول حتى أعرفك بمعلمي, ودخل المعلم كمال جنبلاط بقامته المديدة وكانت جلسة تاريخية للثلاثة الكبار.
الثانية: الصفحة 110 من كتاب Pour le Liban بالفرنسية حيث يقول: من خلال زياراتي للمنظومة الإشتراكية، لا حياة لشعب بدون حريّة، ولا حياة بدون ديمقراطية حقيقية، ولا بدّ للروحانيات أن تأخذ مكانها في الفكر الماركسي فلا يعامل الإنسان, كآلة ويتطلب مثاليته لتحقيق الشيوعية، وتقول معلمي: إذا بقيت الأحوال على هذا المنوال فستنهار المنظومة الإشتراكية كلها ابتداء من عام 1985… وصدقْتَ بدأت الإنهيارات عام 1985 في غدانسك في شمال بولونيا مع ليش فاليسا ومن بعدها سقطت الأنظمة بسرعة مذهلة مثل أبراج من الكرتون، كلنا نعلم أنك إستشهدت عام 1977 ونبوءتك صدقت.
إسمحوا لي أن أنحني أمام عملاق كان أكبر من حجم وطنه، أن أنحني أمام أسطورة سترتفع عالياً مع الأيام وستبقى خالدة على مر الزمن، أن أنحني أمام الإنسان الذي حمل في قلبه هموم شعبه وعذاب الفقراء في بلادي.
معلمي… الرصاصة التي توجهت إليك إنقلبت بركاناً شعبياً هادراً سوف يدكّ عرش الذين إغتالوك وستتحقق نبوءتك بأنّ ربيع الشباب آتٍ مهما صادف من صعوبات ومخاطر عسيرة فهو آتٍ.
وقولك: للصحافي الأستاذ عزيز المتني: “لقد أرادوا إذلالي فما إرتضيت، أنا لن أموت إلاّ واقفاً”.
في مهرجان “الأونيسكو” الذي أقيم بعد استشهاد المعلم, كان البشر كموج البحر، وعندما حمل الراية الأستاذ وليد جنبلاط، هو إرث أثقل من كل جبال الدنيا، وقالها الوليد بعبارات ستبقى في ذاكرة الأجيال: “أستمحيكم عذراً في هذه المرحلة الإنتقالية بين الماضي والحاضر، أن أذرف دمعة صغيرة على شخص عزيز، دمعة حبستها كي يبقى الرجال رجالاً، والمبادىء مبادىء، كي نختبر أنفسنا أمام تجربة الموت”.
وكأنّ صرخة الفيدا والأوبنيشاد تتجاوب في آذاننا عبر العصور في الإعلان أنّ الكون هو واحد لأنّ الواحد الأحد ما هو عليه من جوهر للوعي والسعادة والوجود يتجلى في كل شيء ويبدو في كل مسار وتستهدفه كل طريق.
معلمي قلتها برؤيوية تاريخية: “كل شيء ستضربه فأس التغيير، ويجب أن لا نخاف من التغيير لأنّه قابلة العصر الجديد”.
معلمي ها هي نبوءتك تتحقق وفأس التغيير ضربت الطغاة والتربة التي إرتوت بدمائك يوم استشهادك سيسكن عطرها كل زوايا الكون.