جمالية شعر التجربة في الأدب الغربي الحديث

بقلم  د. قصي الحسين

لا تعنى هذه الدراسة بمقطوعات الأغاني الشعبية أو الشعر الالهامي أو الشعر السياسي بالمنحى البسيط، بل تعنى بالشعر الذي يقدره الشعراء أنفسهم والناضجون من القراء إلى حد كبير. اذ طور النقاد والعلماء اهتماماتهم الخاصة، بالاضافة الى علومهم ومفرداتهم، وهم يودون مخاطبة الناس الذين يفهمون معانيهم، ويقدرون خلفية ما يقولون وغايته، على ضوء التجربة المعاشة يومياً بصورها شبه التفصيلية.

فالحياة الانسانية بكل عمقها وتنوعها وواقعيتها هي مجال تفكير كل فرد وليست مقصورة على المختصين بالأدب، والكلام الانساني كما الادراك الانساني بصيغهما ومجالاتهما الفنية هما مادة الشعر حتماً. أما الأوضاع والاهتمامات والأصوات الانسانية فهي التي تجعل حتى من أعقد الشعر، ذلك البيان الحي العظيم.

ولا أظن انسياقاً وراء خاطرة ما، ان الشعر يمكن أن يفهمه على الفور كل انسان بسهولة وبساطة كما اعتقد ان موقف اللامبالاة منه سيتغير في القريب العاجل. غير أني أرى أن الشعر موجود ومتوافر بتصرف كل انسان، لأن ما ينقله الشعراء ينشأ من عالم التجربة الذي يشارك فيه كل الناس في كل الظروف. اذ لا يختلف احساسهم الداخلي بالحياة عن احساس الشعراء بها أما الشعراء فما هم الا هوائيات البث اللفظي للناس، لأن ما يستقطرونه من وعي ويحولونه الى لغة شعرية موجود بشكل ما لدى الناس عامة على نطاق واسع. ونحن اذ نهمل ذلك انما نقاسي نتيجة اهمالنا. فما لم نتنبه الى جمالية التجربة الشعرية في حادثاتها اليومية فاننا سنظل بعيدين عن التقييم الموضوعي لروح الجمالية الفنية نفسها.

فما بداهة الشعر وما صلته الحميمة بحياة الناس أو بحياة صاحبه من البساطة، الا حين تدع نفسك تنساب مع تيار المشاعر الذي يتدفق حين تبدأ القصيدة. ولكن، ليس أبسط مما يدور في اذهان معظم الناس. فالشعر، شأنه شأن أية خبرة انسانية عادية، يبدو بسيطاً في ظاهره، رغم أنه متأصل في أعمق أعماق ما تصل اليه المشاعر بعمليات الترابط والتداعي، تجمع بينها جمالية التجربة.

لست عازماً ها هنا على تقويم الجمالية وتقدير مكانتها، كأن أظهر اهميتها وارتباطاتها بما هي عليه في العملية الفنية وبما نرغب أن تكون، فكل شاعر ذي شأن اهتم بهذه الأمور وعالجها. وما قصيدة «باترسن» للشاعر «وليم كارلوس وليامز» الا تطرق مباشر لهذا الموضوع يسعى الى استخلاص لغة جمالية مشتركة تربط بين الشاعر والناس باعتبارهم طرفين في اجتماع ثقافي. كما يعتبر «ووردزورث» و«ويتمان» أشهر رائدين مهدا الطريق لبحث هذا الموضع. ما آمله في هذا لبحث هو أن تساعد هذه العجالة على انعاش تيار الفكر حول الشعر من جديد، وبأن تعيد الى الأذهان حقيقة أن الشعراء يعتبرون من حيث استجابتهم المستمرة للاحتكاك مع الحياة من خلال جمالية التجربة أصدق الناطقين باسم العالم الإنساني الشاسع الذي فيه يتحركون ويحلمون بصورة يومية وبايقاع وئيد على سلم الحياة العامة( ).

الشعر والتجربة
برأينا أن الحياة حين تفتقر الى الشعر تصبح اقل جدارة بأن تعاش . فهو نشاط انساني طبيعي وحالة من الوعي .انه نفس الانسان المتعرقة المعاينة، انه ضرب من التفكير، لكنه تفكير يدركه المرء جسدياً، كحاجة جسدية ، وطاقة جسدية . والشعر مفعم بذكريات وقع المشاعر والأحاسيس على الجسد، خصوصاً وقع الاحساس بالصوت وعلى الأخص الصوت الانساني، وما دام الأمر كذلك، فهو يحتاج الى جمالية التجربة،حتى تقبل الروح ملابسته، وحتى يقبل الجسد الاهتزاز لايقاعاته.
في اغنية «حلم 29» للشاعر «بيريمان» مثلاً، تبدأ باحساس بـ «رعب» غير محدد على قلب الانسان وترتبط في الذاكرة احساسات متنوعة بهذا الاحساس بثقل هذا الرعب. والصوت الذي نسمعه هو صوت امرىء حمل تعاسة طفولته الى أيام نضجه كعبء دائم على كاهله . غير أنه مزج بجمالية تجربته، صوت رجل بالغ مدرك رصين، بصوت طفولة لا تراعي قواعد النظام اللغوي، بقدر ما تراعي جمالية الفطرة وعبقريتها العفوية البسيطة:
ذات مرة جثم على قلب هنري شيء ما
ثقيل جداً، بحيث لو كان لهنري مائة عام من العمر
قضاها باكياً مسهداً كلها،
لما استطاع أن يزيح عن صدره هذا العبء
وتتردد في أذني هنري أصداء
نوبة السعال الصغيرة في مكان ما،
ورائحة وطنين.

يعكس هذا الشاهد التجريبي جمالية العلاقة بين الشعر وأحزاننا بدلاً من علاقته بأفراحنا، ولكن كذلك الناس يبكون، اذ الفن العفوي يقيس الشعور بحد ذاته أكثر مما يقيسه بموضوعه ذاته.

ومهما اختلف الوسط الفني: ألوان الرسام، أو نوطة الموسيقار وأوتاره، أو كلمات الشاعر فان الفن بجمالية التجربة يحول المشاعر الى وجهات من الكلمات وظلال اللون أو حركات الرقص المتسقة. وتتطلب عملية التحويل هذه درجة معينة من التكييف والتشديد، فلا تقل شدة الشعور بالكآبة في قصيدة الشاعر «بيريمان» التي جثمت على قلب «هنري» عن شدة الشعور بالفرح عندما يقول الراوي في قصيدة «تينيسون الأميرة» وهو في حالة شعور بنشوة الحب:
الآن تستلقي الارض فاتحة ذراعيها كاشفة صدرها
للنجوم، كما يتفتح قلبك لي .
الآن ينزلق الشهاب الصامت مخلفاً
أخدوداً ساطعاً كالذي خلفته أفكارك في نفسي.
الآن تطوي السوسنة كل عذوبتها .
وتنزلق في أحضان البحيرة :
فلملمي ذاتك يا اعز الناس، أنت، وانحدري
الى حضني لتغيبي فيّ.

هذا المقطع الذي هو في الظاهر عفوي تلقائي، هو في الواقع انطباع شديد التركيز على مظهر حقيقي لأناس حقيقيين، وهو كذلك يتضمن في باطنه انطباعاً عن عناصر متباينة: سيادة الجمال في كل ما يحيط بذلك المشهد الانساني الجميل. ونحن من البداية الى النهاية ننتقل من الفكاهة البهيجة الى جو حالم رفيع. لقد ابدع الشاعر رقصاً رقيقاً ناعماً بين أمزجة القصيدة وأنفاسها من مواد شائعة مألوفة وعامة . ان اللذة البصرية والسمعية ونشدان الواقع في القصيدة يجعل منها حكاية طويلة تبرز الشغف بالمتضادات التي نشاهدها في المداعبات الشعبية والعامة . وهي في النهاية ذات جو رفيع سام يحرك فينا شيئاً أعمق وأكثر استثارة( ).

فكم من الشاعرية حاضر في أفواه الناس الذين لا يمكن ان يخطر ببالهم أصلاً، أن في كلامهم شعراً. ان خصب الحياة والطريقة التي نشعر بها والتي نتكلم بها جميعاً حين لا نكون واعين متعمدين هذه الأمور، هي مادة الشعر بالذات . والمحك الواقعي لحياتنا، وبالتالي للفن، هو تجاربنا الحية، وحاجاتنا الماسة، سواء تحققت أم أحبطت. في هذا المجال يقول أحد الكتاب الغربيين: “أنا أرى الآن مثلاً من نافذتي بعد زخة المطر الربيعي أربعة من طيور أبي الحن برتقالية الصدر، مرقطة الظهر تدس رؤوسها بين الأعشاب الطويلة المبللة، ويمكنني من هنا أن ألتفت الى حلم جنسي مثير. ولتكن ذكرى كتف بيضاء فوق رأسي في احدى اللحظات السعيدة. ويمكنني أن أستعيد ذكريات أشد قسوة: صرخة من بناية سكنية ضخمة في أحد شوارع شيكاغو سمعتها اواخر الليل، وأنا امر في الشارع، أو صوت داعية نقابي يرتفع محتداً في المدنية ذاتها بعد أن قتل بعض المضربين رمياً بالرصاص خارج أحد مصانع الفولاذ منذ سنوات عديدة . من مثل هذه المشاهد والذكريات والأحلام التي يشترك فيها ملايين الناس، ينظم الشعر”.

في الواقع ان الشعر غير بعيد عن الوجود البشري العادي، فذهن كل انسان هو معرض حاشد للذكريات والأحاسيس، فربة المنزل والقاتل، وعامل التمديدات الصحية والتلميذ، يعج ذهن كل منهم باجواء زرقاء صافية أو رمادية قاتمة. ذكريات لمسة حب او غيابها، ذكريات الأخذ والعطاء في حديث ماضٍ، مشاهد المدن ومثيراتها وحياة الريف ولذة المواسم. وكلنا يعرف طعم الأشياء حلوة أو حادة أو حامضة. وكلنا يعرف الغضب، وكلنا يشعر بالشوق إلى ذكريات الماضي حتى الأليم منها. هنالك خضم غني من الادراك والوعي يقع تحت الأحاسيس الانسانية. أما اللغة التي تعبر عنها فهي دائمة الانطلاق من حولنا . والشاعر منا هو الذي يغوص في ذلك الخضم الغني باتجاه منبع الكلام الحيوي المتدفق . وعليه ان يلتقط باللغة وحدها نغمة أو ادراكاً، أو صفة. أو ينظم قصيدة كاملة حول مصدر الطاقة التي التقطها بهذه الطريقة، ويصوغها بجمالية فنية، فيها من التجرة الحية، ما فيها من الابداع الذي يشوقه كل شاعر أو أديب( ).

ويعتبر فروست، واحداً من أجود ناظمي الشعر المبني على الكلام العادي الطبيعي . كان يستخدم فنه لاصطياد الحياة في نشاطها المستمر، ثم يحاول الاحتفاظ بكل احاسيسها متماسكة ضمن اطار شكلي . فالشعر الحقيقي، ولو كان صعباً معقداً، فان فيه الكثير من القول النابع من أعماق الحياة العادية. انه دائماً وثيق الصلة بالموسيقى الداخلية النابعة من عالمنا اليومي . انه يكشف ويعين المدركات التي تجعل من الحياة ذلك الظرف المدهش الذي غالباً ما يكون مذهلاً مبهجاً مرعباً.
انه دعوة لانعام النظر فيما تدور حوله احلامنا وأفكارنا، كدعوة «فروست» لنا في قصيدته الصغيرة، «المرعى»:

انا ذاهب لأنظف الينبوع في المرعى
سأتوقف لأزيح عن سطحه أوراق الاشجار فقط
وربما تريثت قليلاً لأمتع ناظري بالماء الصافي الرقراق
لن أطيل الغياب . تعال أنت أيضاً
أنا ذاهب لأحضر العجل الصغير
الذي يقف بجانب أمه . انه صغير جداً
لدرجة أنه يترنح عندما تلعقه أمه بلسانها
لن أطيل الغياب . تعال أنت أيضاً( )

فجمالية التجربة في هذا الشعر المغرم بالحياة في قصيدة «المرعى» يأخذنا ليدخلنا الى وسط الأشياء الريفية كما هي. ورغم أن الحياة العادية لمعظمنا هذه الأيام بعيدة جداً عن المشهد الريفي في القصيدة، فإن توالي صور نبع المرعى الصافي والبقرة مع عجلها، شديدة الايحاء حتى لسكان المدن . والشاعر سعيد، يتوقع ما سوف يرى، لكنه أيضاً مندفع في أداء مهمات هذا العالم المستمرة.

ان فروست يجعل من دعوته أغنية يستخدم فيها لازمة وقوافٍ عفوية وبسيطة . أما القصيدة فتدخلنا بمرح الى روائع الأمور المعروفة بمجرد ايماءة واحدة بسيطة الى ما يتطلبه العمر كله من عمل لازم لتنظيف الينابيع في المراعي ولاحضار العجول والقيام بالأداور الأخرى بعد كل فصل. وموسماً بعد موسم ، فروائع الأمور المألوفة، التي تتضمن طبعاً الظروف التي تعتبر ظاهرياً كئيبة ورتيبة، حاضرة دائماً في الذهن، وما تحت الشعور . والذهن العادي يستطيع اكتشاف هذه الروائع بمجرد الانتباه الى ما يجري في داخله، استجابة الى واقع الحياة المحيطة به .

ويعتبر الشاعر «والاس ستيفنس» شاعراً صعباً، من بعض النواحي . غير أن قصيدته المشهورة صباح الأحد، تبين أنه يعبر عن احساس بالحياة يشعر به كل امريء فتح عينيه وتطلع حوله . والقضية المطروحة في هذه القصيدة هي ما اذا كان بامكاننا أن نقبل دون ان نصاب باليأس واقعة وجود عالم بدون اله . انها قضية أقلقت الانسان المعاصر وتركت أثراً قوياً في التاريخ. غير أن «ستيفنس» لا يناقش الموضوع نظرياً. بل هو يعمد بدلاً من هذا، الى تخيل الحالة الذهنية لامرأة مهتمة بذاتها، ولا تفرط في التفكير، أرقها قليلاً، صبيحة يوم احد خواطر عن الموت والشعور بالاثم، أو على الأقل الشعور بالقلق بسبب اهمالها واجبات سبتها، وهذه مشاعر شائعة جداً بحيث لا تكاد تحتاج الى بيان، ومع ذلك فهي واقعية فعلاً، بحيث لا يمكن تجاهلها .

والقصيدة هي في الوقت ذاته رفيعة المستوى بالطريقة التي تتفتح فيها وقريبة جداً الى مستوى تفكير معظم الناس وشعورهم. وفي الأبيات الأحد عشر التي يختتم بها المقطع الأخير، في القصيدة يعرض علينا الشاعر «ستيفنس» صورة للانسان في عالمه تعكس وجهة نظر معاصرة واسعة الانتشار:
اننا نعيش في عشوائية الشمس القديمة
وفي تتابع الليل والنهار منذ الأزل
في عزلة الجزيرة، الطليقة المتحررة
من ذلك الخضم الواسع، الذي لا نجاة منه
الظباء تختال على جبالنا، وطيور السمن
تطلق من حولنا صرخاتها المحمومة
التوت البري ينضج في البراري
وفي عزلة السماء
في المساء، تحوم أسراب الحمام الطليقة
تتثنى نحو اتجاهات غامضة وهي تهبط
منقضة نحو الظلام، بأجنحتها المبسوطة .

ونرى المرأة في البداية في بيتها مسترخية صبيحة يوم أحد . ثم نتابع انسياب أفكارها وهي تبتعد عن الاستمتاع الخالص لتبدأ بالتأمل على مضض. وتتسبب ظروفها ومزاجها الخالص، حين يعرضها علينا الشاعر بتفصيل حي، في أن تنقل أفكارها الى الدين ثم الى ازدواج معنى الصلب : الدم، المعاناة، وموت عيسى الانسان، والوعد بالجنة التي جاء بها . ان الافكار في صباح الأحد تغدو في بعض الأحيان خفية ومتسللة. ولكن الصور والأخيلة تظل في الغالب شديدة الوضوح، وتعزف أنغاماً مألوفةً: «التأخر في تناول القهوة والبرتقال على مقعد مشمس»، «عواطف متفجرة على طرق مبتلة في ليالي خريفية»، و«هذه الزرقة المحيطة اللامبالية يعني السماء».
ويجعل ستيفنس كلمة جوبيتر jove في حديثه عن الله وهو استخدام يسمح له أن يجمع بين المفاهيم الوثنية والمفاهيم المسيحية كما لو كان حراً في انشاء نصه الخاص به للحكايات المقدسة من مثل القصة الاغريقية عن اغتصاب «زيوس» كبير الآلهة لـ«ليدا» وقصة العهد الجديد عن حمل مريم العذراء.
لقد جال بيننا كما يجول الملك، بجلاله،
بين رعاياه، وهو يهمهم،
الى أن حققت دماؤنا التي امتزجت بعذرية
مع السماء، هذا الجزاء المطلوب
وقد وجدته الرعية ذاتها، في أحد النجوم
فهل ستذهب دماؤنا سدى، ام سوف تصبح دماء الفراديس؟
ان كلا التراثين الوثني والمسيحي يقولان بأننا آلهة بالوراثة. فكلاهما يؤمن بأن الناس الفانين كانوا يلقحون من قبل الكائنات الالهية، ويمكن أن يكون الفردوس هو هذا العالم المادي الذي نعيش فيه . إن اجزاء القصيدة التي اعتبرها معقدة نجدها مركزة على صور أولية بدائية بسيطة. ثمة صورة «جوبيتر» يمتزج بالكائنات البشرية، اذ يتجول بينهم ويمارس العملية الجنسية معهم . وثمة صورة الفردوس بكل الثمار الأرضية المالوفة التي لها ذات العناصر الطبيعية، وذات الألوان والأجواء، الا أنها عاجزة عن التغير. وثمة أكثر الصور روعة، مشهد أمهاتنا الأرضيات منتظرات مؤرقات وراء القبور لا لعقيدة دينية بل تعبيراً عن حزن بشري ورغبة بشرية عاديين.

اذاً لا غنى عن النسيج الحسي والعاطفي لأية قصيدة ذات شأن، ترغب في أن تكون على درجة من الوضوح بغض النظر عن اية غشاوة فكرية تتبرقع بها. فمعظم الرسامين يرسمون أفضل بكثير مما يتفلسفون، وهكذا الشعراء. والرسم ليس الا تلميحاً بما يفعله الشاعر في بيت مثل:
ثمار التوت تنضج في البراري
او في أبيات مثل:
وفي عزلة السماء، في المساء
تحوم اسراب الحمام الطليقة
تتثنى وتتلوى نحو اتجاهات غامضة، ثم تهبط
منقضة نحو الظلام بأجنحتها المبسوطة .

فالعين والحواس الأخرى مثل ما لاحظناه نحن مراراً وتكراراً دون أن نراه فعلاً بمثل تلك الدقة والحدة، انما هي تركيز للطبيعة الناشطة. وهذه الأبيات كسابقاتها تبرهن على اعتماد الفن على ما تعطيه التجربة العامة المشتركة من جمالية عفوية بسيطة يشعر معها كل منا أن في داخله شاعراً متيقظاً. ربما كان وراء ذلك كله عامل سيكولوجي شديد القوة هو الرغبة الانسانية المشتركة باقتناص التجربة. فنحن مثلاً نتريث قليلاً أمام منظر طبيعي جميل لكي نرسخه في ذاكرتنا. ونلاحظ أعماقه وظلاله أكثر فأكثر، وننعم النظر فيه المرة تلو المرة، اننا نريد امتلاكه والاحتفاظ به. ونحن نفعل الشيء ذاته في العادة ولكن بوعي أقل حدة تجاه المشاهد الأقل جمالاً، تجاه الاشخاص والأحداث التي نصادفها بطريقة أو بأخرى. وبعبارة أدق لا يمكننا في الحقيقة الانفصال عن أي شيء أو أي شخص نحب، لأننا نشتاق الى ما يجعل تجربتنا جزءاً من ملكيتنا الخاصة. وفي كل مرة نستدير مبتعدين عما التصقنا به مضطرين. فان الفراق يبدو قسرياً ومفاجئاً وأليماً. ولهذا فان شوقنا لامتلاك التجربة، يتخذ حافزاً للبحث عن لغة حساسة بصورة تكفي لابراز الأثر الذي تحدثه الوقائع الخارجية في مشاعرنا ووعينا. فالسعي المحموم، أو اللهفة لتذكرنا تجربتنا، هما اقوى منابع الفن وهما السبب الذي جعل الاغريق القدماء يطلقون على آلهة الذاكرة عندهم اسم «نيموسين» وهي ام الألهات الفنية ( ).

الذاكرة والتجربة الفنية
ان «نيموسين» الالهة الاغريقية ربة الذاكرة عند الاغريق هي ام آلهة العلوم والفنون جميعا وهي المنبع الأصلي، الموجود في كل ذهن بشري تصدر عنه الرغبة في امتلاك مشاهد الحياة. وهي التي تأخذ بيد الشاعر التجريبي الى أن يلاحظ فعلاً ويندهش لأنه أمكنه استعادة لحظة من لحظات التجربة. باكتشاف اللغة والشكل الملائمين تفعل الذاكرة فعلها تلقائياً، من خلال الحركة في القصيدة، فتلتقط صورة الاستسلام العاطفي وتقفز نفس الشاعر الطفولية من ظلمات الحياة المنسية لتتجدد في التجربة الفنية:
تغني لي امرأة، بكل رقة، عند الغسق.
ترجع بي سنين الى الماضي حتى أرى
طفلاً يقبع تحت البيانو،
وهو يداعب قدمي الأم الصغيرتين المتحفزتين، والأم تبتسم وهي تغني
وبالرغم مني يدفعني الغناء البارع الساحر
الى الماضي ويخونني حتى يتفجر قلبي باكياً شوقاً
الى أمسيات الآحاد القديمة في بيتنا.
فلقد عاد السحر
سحر أيام الطفولة ليغمرني. اما رجولتي فقد قذف بها ومضى في طوفان الذكرى وأنا أبكي كطفل على الماضي.

فقصيدة د.ه. لورانس وعنوانها البيانو ذات مشهد رومانسي رائع مثير. المرأة التي «تغني لي» تثير ذاكرة الشاعر أكثر مما تنتزع اعجابه بها وبأدائها، ومع توهج غنائها وعزفها حناناً وشوقاً تتسارع عودة الشاعر نفسياً الى طفولته، انها روعة أيام الطفولة وأمه تغني له وتدندن.

انها المشاهد المتباينة المرسومة بطريقة درامية تبدو للناظر كأنها آثار متناوبة في مشهد سينمائي آت من الذاكرة. فالمغنية المتحمسة والرجل الناضج المستمع أثارا صورة الأم وابنها الصغير. فانبعثت نغمة عاطفية مألوفة لدينا . فـ طوفان الذكريات يجرف الراوي الى ماضيه الحي في الذاكرة حيث تعيش التجربة الخالصة. أما شوقه الى ما يسميه «ستيفنس» بـ النغمة الخالدة في قصيدة «صباح الأحد» فعليه أن يتضامن مع المعرفة الواقعية. والتجربة الفنية هي التي تغير المعادلة فيما لو فقدت الذاكرة ذاتها ( ).

في قصيدة «أوستين كلارك» وعنوانها «نيموسين في التراب» مشهد يدور حول فقدان الذاكرة، حيث يتملك الشاعر احساس حقيقي بالموت أفقده الصلة بماضيه الحي وقطعه عنه كلية، فأدخل الى مستشفى للأمراض العقلية يعاني فيه نوبات هلوسة عنيفة.

وذات يوم يشعر فجأة بأنه أصبح أصغر وأنه عاد الى بيت طفولته، ويصبح هذا، للحظة واحدة سعيدة فقط، هو واقعه الطبيعي ثانية، إنها أشبه بسيرة ذاتية يعود فيها صاحبها الى عهد الطفولة:
وفي الحال قلبته «نيموسين» الى طفل
صغير في السابعة من عمره بدأ النوم يداعب أجفانه
والمكوك يثرثر وهي تخيط
حاشية الثوب، وفي الخارج حديقة تصلي
وقد تزينت أشجارها ببراعم متفتحة .
وحمرة الشفق تتوارى عن
كوخ الورشة، وعن البرميل والكهف السري

فهذا المقطع، شأنه شأن قصيدة البيانو، للشاعر لورانس يتركز حول قدرة الذاكرة في بعض الظروف على استعادة حالات الوجود الماضية معزولة ومؤطرة ومتألقة بنور حياة خاصة بها وبالعاطفة التي أدت الى تذكرها . أما مدة العاطفة فهي ما تشترك فيه اللحظة الحاضرة مع تلك الحالة الماضية. وحين كنا نعيش في ذلك الزمن الآخر لم نكن نعي بهاءها الخاص.

«بروست»، أعظم من كتب عن الذاكرة البشرية بالمعنى الذي نبحثه الآن، في هذا المجال نرى بروست يكتب : «ان رائحة الاشياء وطعمها يظلان في الجو زمناً طويلاً كالأرواح، جاهزة لتذكيرنا، منتظرة لحظتها المناسبة يحدوها الأمل، واقفة بين أطلال كل ما تبقى، وتحمل دون ان تنوء بالعبء في جوهرها الذري الدقيق الذي يكاد لا يوجد، صرح الذكريات الشامخ»( ).

وحينما ننعزل عن ركام ذاتنا وعن صرح ذكرياتها الشامخ، يكون الاكتئاب الناجم حالة حادة من الاضطراب النفسي، من مثل ما شاهدناه في «نيموسين في التراب». وليس هناك أشد من الاكتئاب انتشاراً بين الأحزان، سواء أكان هذا الاكتئاب في أقسى أشكاله أم في أهونها خصوصاً ما رأيناه في قصيدة «البيانو» حيث ينشأ الضيق من لحظة اضطراب مؤقتة في العلاقة بين الحاضر والماضي. والاكتئاب حالة صحية ومفيدة لمعظمنا لأنه يكشف مواطن الضعف فينا، فيساعدنا على اعادة توجيه ذواتنا دفاعاً عن النفس. ولكنه عند البعض هو حالة يستحيل التخلص منها، والأسواء من هذا أنه يعتبر عرضا لاضطراب ما. ونحن نقول: كم من الأناشيد تعالج حالات من الاكتئاب وتعبر عنها وتستدعي بعض الذكريات الشخصية. وكم من الناس يبكون ذكريات طفولتهم، في حين نراهم يناضلون وهم يحملون شعوراً بأنهم قد فشلوا في تحقيق أحلام طفولتهم . وتعتبر قصيدة «راندال جاريل»: «المشهد الابتدائي» تعبيراً عن حالة الاكتئاب هذه التي تتصف بها حياة ملايين الناس، بذكرياتهم المختلفة:

اذا عدت بذكريات الى الماضي أرى
الشمس البيضاء كطبق معدني
تحول الأعشاب الى هشيم
وأرى الشارع تثنياً، ينعطف مبتلاً
وينتهي عند الجدار الذي يتغنى تحته الأطفال.
وأرى العشب الهزيل عند باب الفتاة،
مداساً، مبعثراً، أصفر، متعفناً،
والحقل الكئيب، ببقرة وحيدة مربوطة فيه،
والأرض تستيقظ حزينة على حياتي،
«أنا، أنا، المستقبل الذي يصلح كل شيء».

وليست هذه الصور مجرد خيال، بل هي ذكرى الشعور بالحزن الكلي الشبيه بالكابوس الراسخ في ذهن الطفل، وهي حقيقة في الذاكرة، مثل الشمس البيضاء كطبق معدني، ومثل العشب الهزيل عند باب الفتاة، الى البيت الساخر الأخير: «أنا أنا، المستقبل الذي يصلح كل شيء».

برأينا أن هذه التجارب، تسطع في أذهاننا كالوحي، خيراً كانت أم شراً. وقد عرضها علينا بروست في روايته: «في البحث عن الزمن الضائع». ولا تمر علينا لحظة ما خالدة، لا نكون فيها ما نحن اياه، بل ما كناه قبلاً. واشتراك الذكريات بين اناس تربطهم علاقات شخصية حميمة ربما أسفر عن مكاشفة مماثلة وربما تثير فيهم حالة من المشاركة الوجدانية تجعل احدهم على الأقل يتذكر، ما لم يحدث له قط كما لو كان هو الشخص الآخر فعلا.

ولعل فيما قدمنا من قصائد الشعر التجريبي لهو خير دليل على ضغط الذاكرة على الخيال الشاعري تحت تأثير حالات الاحتداد النفسي التي تفوق المعتاد. وهذا الاحتداد يمكن أن يحصل، فعلاً في حياة كل فرد. فالرجل الذي ارتد باكياً الى عالم طفولته بتأثير أغنية امراة، و مختل العقل الذي تحول فجأة الى طفل وشعر بالطمأنينية مع امه، والشاب المثقل بالخطايا الذي استحضر فجأة مشاهد طفولته الكئيبة، كل هؤلاء شخصيات مرموقة تعرفنا عليها عن طريق ذكريات الشعراء الشخصية، فأصبحوا فوراً جزءا من ذكرياتنا نحن الناس العاديين. فالذاكرة هي مفتاح الوصول والاتحاد الذي يقود الناس الى التعاطف. والفن على انواعه يضيء هذا الوصول ويوسع من مداه بكشفه عن التفصيلات الدقيقة لتجارب الآخرين. فالشعر يعتمد اعتماداً مطلقاً على صدقه الغريزي المتناسب مع ما يفهمه الشاعر بالذات عن الواقع. ولا يخشى النظريات المجردة أن تفسد عمليته. وقد يمكننا أن نكشف عن كل الأمور بمختلف أنواعها بواسطة الشعر، بيد أن الشاعر، بدون اللغة ليس أقدر على التنبؤ بـ مكتشفاته أو حتى السيطرة على تجربته، من الطفل وقدرته على أن يقرر سلفاً رجولته أو مستقبله. ببساطة أقول أن اللغة التي يوحي بها الشاعر بعودة البطل الى عالم صغير آمن لطفل سعيد انما يدفعها تيار الخوف الخفي من القوى الخارجية الشريرة التي تهدد ذلك العالم. لأن ظرف عالم العمل أو عالم البالغين، موجود ايضاً، والظلمة متربصة لا ريب في ذلك.

فالموقف الأصلي والذكريات والأفكار التي تدور حول التقدم في السن والخيبة، كلها عادية جداً، بحيث تبدو بسيطة، بيد أن ما ليس بعادي وبسيط هو قدرة الشاعر على صوغ العبارات التي تجعلنا نشعر بتوقد ذكائه من جهة وبجمالية تجربته الفنية في الشعر من جهة أخرى. وهذا ما يعرف بأوتافاريما «ottavarima» والذي يحب «بيتس» استخدامه كثيراً. حيث يفسح لشاعر موهوب مثل «بيتس» مجالاً كافياً يتحرك فيه برشاقة ليطور أفكاره وينوع انغامه ودرجة تركيزه بآن واحد. أما «لورنس» و«كلارك» و«جاريل» فهم يستخدمون صيغاً أقل صعوبة، اذ أن الثنائيات المقفاة والايقاعات غير المتوازنة والالفاظ السريعة والمبتذلة احياناً في قصيدة التجربة والتي استخدمت من قبل الشعراء تعتبر في الغالب قصيدة غنائية شعبية نفسية من نوع Ballad. أي أنها حكاية بسيطة تسرد بخطوط عريضة حكاية تجربة باطنية سلبية او ايجابية الى حد كبير. كذلك فان الابيات الأقصر، والبنية الداخلية المعقدة، والايحاء الذاتي المركب، في قصيدة نيموسين في التراب، هي الأخرى ملائمة للتعبير عن الوعي المحتد وايصاله الينا. وهذا ما يؤدي الى اطلاق العنان لعقل فني وعفوي يسعى جاهداً لاعتصار معنى تجربته حتى ثمالتها، ويكسوها لبوساً فنياً رقيقاً للغاية.

في قصيدة الشيطان والوحش يعالج «بيتس» ما يحدث عادة في سن الشيخوخة عندما تتهاوى الضوابط التي تسيطر على وعينا في حياتنا اليومية. انها حالة يمكن ان نسميها الخرف لولا أن القصيدة صيغت صياغة رائعة وحبكت حبكاً ذكياً في وقت واحد. بالاضافة الى أن الحالة التي تصفها القصيدة هي حالة لا وعي الذات . مما يجعل الحاجة ماسة في النهاية لاستخدام الذاكرة لاستحضار تلك الحالة والايحاء بخصائصها الى القاريء( ).

وبيتس هنا، لا يخرج عن القاعدة الأساسية في جعل قصيدته رد فعل مباشر لموقف انساني عادي، ليتبين له في ذروة القصيدة، وهن الشيخوخة الذي يتذمر منه الشاعر كذلك في قصائد أخرى. يقول:
انا واثق
ان التقدم في السن، الذي
يجمد الدماء، هو الذي جلب هذا الشعور الحلو
ومع ذلك فلا أعز عندي ولا أثمن
من أن أجد سبيلاً أو وسيلة
كي أجعله يتأخر نصف يوم.

بالعودة الى قصيدة «الشيطان والوحش» للشاعر «بيتس»، نرى القصيدة تبدأ بحديث صوفي عن أرض طيبة القاحلة، وبحيرة مريوط The mariotic sea المنطقة التي اقترن اسمها بالرهبانية المسيحية في مصر في القرن الرابع الميلادي و بـ انطونيوس المجيد، القديس الذي اسس ذلك المذهب. وهنا تتخلى عناصر الزهد والتقشف هذه عن الدوافع الدينية وعن شهواتها الدنيوية لتموت مسبقاً. ويتصور «بيتس» أنه حين تبدأ الحوافز والشهوات تضعف وتتلاشى، تكتشف نشوة لم تعد بحاجة الى تطلبها، اذ أن ضعفها وحده هو الذي جلبها:
يا لها من عذوبة شاردة
فوق أراضي «طيبة» القاحلة
أو على شواطيء بحيرة «مريوط»
عندما مات «انطوني» المجيد
وألفان آخران معه على تلك الشواطيء
وذوت أجسادهم حتى غدت اقفاصاً من عظام
فماذا بقي للقياصرة سوى عروشهم؟

والمفارقة في حالة أنطونيوس وأتباعه أنهم لم يذوقوا المتعة التي يحسدهم عليها أي شهواني فحسب، بل اكتسبوا منذ أن اختاروا مصيرهم امتيازاً لا يمكن للعالم الحي ان يمنحهم اياه و امتيازاً يجعل سلطان الاباطرة وعنفوانهم الى جانبه امراً تافهاً. يتحدث بيتس بيقين وثيق عن المعرفة التي تنكشف لنا جميعاً خصوصاً عندما تتطرق الى أذهاننا فكرة الموت أو احدى خيبات الأمل الكبرى : وهي عشوائية رغباتنا وقيمنا . فلكل حياة شيطانها ووحشها بيد ان هناك أوقاتاً نلمح فيها مدى الانعتاق الخالص الذي نحصله اذا ما تخلصنا منهما وذلك بالكف عن السعي وراء اشباع رغباتنا المادية والنفسية وحتى الروحية.

وقد بنيت القصيدة كلها على تذكر الشاعر لنقطة واحدة من تجربة لم تدم سوى بضع لحظات على الأقل، ويمكن أن تجيء هذه اللحظات وتغدو دون أن تلحظ. ولكي يبقي المتكلم في قصيدة «الشيطان والوحش» هذه اللحظات امام ناظريه، عليه أن يحتفظ بالذاكرة في أقصى حالات حدثها، مع ما فيها من تلونات وعي مخاتلة كالشيطان والوحش. وتعطينا القصيدة صورة عن شخص متعلم واسع الثقافة استغرقه بالكلية احساس معقد متعدد، فهناك تفجر المسرة الطفولية الأساسية القريبة من أوائل وجد صوفي، لكننا نجد في الوقت ذاته، مدى الوعي الحافل لانسان عادي ناضج مثقف وقع تحت تأثير هذه الحالة التي اجتاحته وهي في الأوج( ).

الموسيقى التصويرية
اذا كان الشاعر بيتس yeats يسخر شوقه كله وعلمه، وذكاءه للعمل في محاولة فهم ما حدث في قصيدة «الشيطان والوحش» فهل الموسيقى الخاصة لهذه القصيدة تأتي من البهجة الجديدة الساذجة التي تغمره لبضع دقائق عل الأقل أم انها موسيقى الادراك، الصادرة عن تأثرنا بواقع العالم الخارجي بحالاتنا الداخلية النفسية والجسدية، وهي من أكثر منابع الشعر توافراً. اذ هي في الواقع لا تنفصل عن كوننا بشراً وعن كوننا نعيش في حدود الزمان والمكان. فحواسنا دائماً على أهبة الاستعداد للاستجابة الى كل ما تصادفه في طريقها . وعندما نتحرك، فان تلك الحقيقة بحد ذاتها تصبح عنصراً هاماً في ادراكنا. وكثير من القصائد تنشأ من امساك الشاعر بادراكه الجاري مع احساسه بايقاع هذا الادراك بآن واحد . وحركة القصيدة اذاً، هي من دفع وعي الشاعر وخياله ( ).

وتعتبر قصيدة باترسون لوليام كارلوس وليامز W.C. Williams من أعظم الاستكشافات الحديثة للشعر الكامن في الحياة العامة من حولنا. فهو يحاول في قصيدة «باترسون» هذه استقصاء اللغة المناسبة والصيغ الايقاعية الملائمة للتعبير عن التجربة اليومية للناس في المدينة الاميركية الصناعية، وعن تاريخ هؤلاء الناس وخيبات آمالهم وامكانياتهم، والنص/ القصيدة هو في معظمه وصف وتعليق على حادثة عفوية وقعت بين الجماهير في أحد شوارع المدينة:
امرأة من مدينتنا
منبسطة البطن
تلبس بنطالاً بالياً، تمشي مسرعة
في الشارع
حيث رأيتها
لا هي بالقصيرة
ولا بالطويلة ولا بالكهلة ولا بالصبية
استوقفتني
في طريقي حتى رأيتها
تغيب في الزحام
عليها زركشة لا تلفت الانتباه
صنعت من قماش قاتم، أريد لها
كما اعتقد، أن تكون زهرة
بسطت وثبتت بدبوس على ثديها الأيمن
كانت ترتدي زياً رجالياً.
وكأنها تقول: اذهبوا
الى جهنم

وقصيدة «باترسون»، مهتمة بمجموعها بما يعتبره الشاعر غياباً لـ اللغة المشتركة في أميركا، فهو يعتقد أن في البلاد اتجاهاً مدمراً ممزقاً يحول دون اتصال الناس ببعضهم ويشجع العنف بدون تمييز شخصي، وما على المرء الا أن يقرأ بقية القصيدة.

ان الانطباع الذي تحدثه المرأة انطباع خاطف خصوصاً في قصيدة «المرأة في مدينتنا»، فهي تمشي مسرعة، كلقطة سينمائية قريبة، تغدو كل تفاصيل مظهرها المكتوبة بارزة ومثيرة عندما تصبح صورتها في البؤرة.

لذا يقف المتكلم دهشاً، ثم يلاحظ تفاصيل أدق عن لباسها، وقسماتها، ثم اذا بها غابت. وما اشارة التعجب هنا الا صدى للأثر السابق «حين استوقفتني في طريقي»، والآن يبرز بعد غيابها نغم جديد لمحادثة عاطفية وتساؤل متلهف.

هذه تنقلات بصرية وعاطفية ترافق عملية تجمع التجربة ثم انحسارها، في حين أن موسيقى النص تشبه ما يقوله الشاعر عن المرأة، هادئة،خرساء في الظاهر ومع ذلك فهي في الواقع حافلة بالآثار المشحونة النشطة.

ان موسيقى رؤيانا، وموسيقى شوقنا للامساك بتلك الرؤيا، لا تنفصلان عن الاحساس بأن لدينا مفتاح اللغز لكل ما نتمناه ونقدره، في الحياة، هنا، أمام أعيننا وفي أكثر الأماكن الحافلة المطروقة.

فالشعر التجريبي، يستقصي اللغة المناسبة والصيغة الملائمة للنفاذ الى أعماق تجربة واقعية أو خيالية، وربما بدت عبارة يستقصي مصطنعة متكلفة، لأن كل قصيدة تبدأ عملياً بعبارة أو بيت يردد أصداء شعور ما لم يتضح بعد. هي دافع شبه غريزي لعبارة لغوية تبحث عمن اطلقها. وسواء أكنا شعراء، أم لم نكن، فإننا نمارس عملية تمثل التجربة مدركين الى حد ما أهميتها عندنا، مطلقين الأعنة لأذهاننا ومخيلاتنا لتبدع فيها ما تشاء. وبما أن هذا النهج طبيعي وانساني، ومألوف لدى الناس كافة، فانه يرضي الشاعر بشكل خاص عندما يتوارد الكلام بايقاعه الفطري الى ذهنه ويحتفظ له بذكرى التجربة ونكهتها .

برأينا أن من الفن صنع شيء ما من اللغة بعد أن تحدد اللغة ذاتها معالم الطريق . فكثير من الناس مدركون للغة، لكن الشاعر يحتاج الى أن يخلق منها صورة نقية للبصيرة وللعاطفة ليعطي بذلك بعداً انسانياً لمادة الوجود الخام . ومن هذا الجانب التقليدي جانب الأناقة في الشكل يستمد كل فن قيمته الخالصة( ).

فالرسوم البهيجة المنسوجة في جدران خيمة من خيام القبائل مثلاً تخلق عالماً فسيحاً لا حدود له. وبدونها تظل الخيام مجرد حواجز خانقة لأهل البادية. الشعر يفعل ما تفعله الرسوم على الخيام. انه يعبر عما نشعر به ونجربه، ولكنه أيضاً ينسج صوراً ومعانٍ انسانية من خيوط الواقع وألوانه. وهو، باستخدامه المبدع البارع للشكل يحررنا من حدودنا العادية، التي تكف عن أن تكون حدودنا الحقيقية، حالماً يتنامى الادراك التصويري.

ان استجابتنا الحسية البسيطة للواقع ونحن نتحرك عبر الزمان والمكان، أو حتى عندما نقف ساكنين نتلقى لمسات ذلك الواقع بحواسنا كلها إنما هي مصدر الانفعال اللغوي الخاص عند الشاعر، كما انها المقياس الذي يستعمله لقياس الاهتزازات في العالم حوله، والوسيلة التي يتخذها للرد عليها، من خلال جمالية تلهمه اياها موسيقى الايقاعات التصويرية للمشاهد المعاينة يومياً.

وخير تعبير عن كيفية احساس الشاعر بهذا كله هو الأبيات الصادقة التي تلي مطلع قصيدة أغنية «نفسي song of Myself» للشاعر «وايتمان Whitman» والتي تؤكد علاقة الشاعر بالواقع الموضوعي . وتشير هذه الأبيات الى أكثر الأسس بدائية لموسيقى جسم وحركته وايقاعها، فهي نبضات القلب، وحركة التنفس، ودورات النوم واليقظة الأكثر امتداداً . ورغم أن عقولنا الواعية لا تدرك هذه الايقاعات الا في ظروف خاصة، فان عقولنا الباطنة على الأقل تستجيب لها دائماً بطريقة معقدة. وعندما تكون الامور على ما يرام، كما في قصيدة «وايتمان»، فان بهجة عارمةتميز ادراكنا لايقاع الحياة كلها في انسيابية جمالية ( ):
البيوت والغرف مترعة بالأريج والرفوف
تعبق بالعطور
وأنا أتنشق الشذى وأعرفه وأحبه
ربما أسكرني هذا الرحيق، ولكني لن أتيح له الفرصة .
طنين الكلمات يتجشؤها صوتي لتنطلق
مع تيارات الريح ودواماته
بضع قبلات رقيقة وبضع ضمات
حول الكتفين :
عزف النور والظل على الأشجار، وغنج
الأغصان اللدنة،
البهجة مع الوحدة، أو في زحمة الشوارع، أو
في بطاح الحقول أو على سفوح التلال،
لن تنظر بعد اليوم حتى بعيني، ولن تأخذ الأشياء
حتى مني،
بل سوف تصير الى كل الأطراف، وتستخلصها من ذاتك.

فالادراك الحسي منصب هنا على عمل أعضاء جسم الشاعر وعلى العالم الخارجي كذلك. وهو لا يريد أن يستقطر الخلاصات العطرية، بل يرغب في أن يأخذ الحياة كماهي، على سجيتها، ثم يطلقها ثانية ليتلقاها قراؤه كاملة فيتمثلونها في ذواتهم ثم ليتفهومها من جديد بطرائقهم الخاصة، وذلك على ضوء ما تتركه في نفوسهم موسيقى الادراك ومشاهده بصورة عامة. فتحت سلسلة من الأنغام والأمزجة النفسية والخلقية والروحية هناك سلسلة أخرى من المشاعر الجسدية التي تجعل الشعر التجريبي ينبض حياة، تماماً كما يسمو بجمالية متأنقة.

برأينا إن الموسيقى التصويرية التي تصاحب بصورة مستمرة شعر التجربة، إنما تضيف إلى جماليته الفنية المكتسبة من عفوية الحياة وإيقاعها، جمالية أخرى تضفيها عليه موسيقى الإدراك في حدود الزمان والمكان. فأعظم الشعر هو ألصقه بالحياة العامة، ليس لأنه يعبر عن أوضح الأمور فقط، بل لأنه يعبر عن الخصائص الحقيقية لما تدركه حواسنا وما تشعر به قلوبنا تجاه تلك المدركات. إنه يكشف لنا عن مكان موسيقى إدراكنا بطريقة تجعلنا نتعرف على أنفسنا بشكل لم نكن نعرفها به من قبل. لنستمع إلى «وردزورث» يقول من قصيدة له:

ونحن للتراب، تنمو روحنا الخالدة
كما الأنغام في الموسيقى..
موسيقى الترابط والشعور

إن موسيقى الإدراك يسهل تمييزها لأنها تشبه الموسيقى المرافقة لنص سينمائي. وهذا النوع من الموسيقى يرافقنا جميعاً ونحن نتحرك في الزمان والمكان ونستجيب لكل ما يحدث حولنا كموسيقى الانفعالات الميلودرامية العنيفة التي يمكن أن ترافق، مثلاً، الجهاد من أجل كبح جماح فرس عنيد أو موسيقى الشجار المتضاربة، أو الموسيقى التي تصور الخرير الرتيب لعمل ميكانيكي ممل. ويمكن إيضاح ذلك بتسليط آلة تصوير سينمائية على أرضية درامية واحدة وسياق واحد. ولكل منها نموذج موسيقي يستجيب لوقع تلك الظروف وآثارها على ذهن الشاعر يوحي بها مصدر خارجي معين.

والواقع أن الشعور ينساب في اتجاهين: من الأشياء الخارجية إلى العقل، ثم من العقل إلى الخارج ليشمل كل الأشياء التي يدركها، ولو أن التيار الثاني هو التيار الأساسي في موسيقى القصيدة.

والشاعر في القصيدة التجريبية ينطلق مباشرة من اكتشاف أن الشعر هو صوت الحياة العامة الذي يعطي شكلاً وتعبيراً لسديم الانطباعات والدوافع، ذلك السديم الذي يتكون منه الوجود إذا افتقر إلى اللغة. ومن الصعب علينا معرفة ما إذا كانت ملامسة الواقع لاستعداده الشديد للتحسس هي التي أثارته وأيقظته على موسيقى الحياة. في قصيدة «أغنية نفسي» Song of myself لويتمان يصف الشاعر التفاعل المتبادل بين الذات الباطنية وبين العالم الخارجي:
أهذه إذن لمسة تجعلني اختلج فأصبح ذاتاً جديدة؟
ألسنة اللهب والأثير تندفع في عروقي،
تتطاول أجزاء خائنة مني، وتزاحم لتساعدها
يتحول لحمي ودمي إلى سياط برق تصعق ما
لا يكاد يختلف عن ذاتي،
والمثيرات اللاهية تتداعى علي من كل جانب فتصلب أطرافي.
فمطلع الفقرة الثامنة والعشرين من «أغنية نفسي» يدل على أن الإدراك التام عند ويتمان هو نوع من عذاب الكآبة ونوع من النشوة… وهما جانبا الطرب… أكثر مما هو حالة من التأمل الهادئ. إنه حالة من الاختلاط في العلاقة بين المرء وبقية الحياة. «فالذات الجديدة» التي تجعله «يختلج» بلمسة الحياة من الصعب جداً اعتبارها تلك الحالة الثابتة الهادئة التي يفكر فيها معظم الناس عندما يتحدثون عن العثور على ذواتهم الحقيقية. إنها الوجود تحت أشد الظروف ضغطاً، حيث يقع الهجوم على كل جانب من جوانب المرء( ).

إنه لوصف دقيق رائع مرعب في النهاية عندما يرسم صورة واقعية بتفاصيلها القليلة لعملية جراحية تجري على ظهر السفينة قبل اكتشاف التخدير الحديث:
حفيف مبضع الجراح، وأسنان منشاره القارضة،
أزيز وصليل، وتقطر دماء، وصراخ آلام مبرحة،
وأنات طويلة رتيبة متخامدة
هكذا، إنها الخسارة التي لا تعوض.
إنه الإلحاح على «ألم» العمليات الحيوية وعلى غنى تلك العمليات، يحس بها الشاعر إحساساً كاملاً وسريعاً بسبب تحسسه للمس.
إن تعبير ويتمان عن الإدراك المحتد في مقاطع «أغنية نفسي» لأمر متميز فائق. فإبراز الحالات الذهنية الباطنية إبرازاً بهذه الدرجة من الحسية، وكأن لها جسداً وجهازاً عصبياً خاصاً بها، هو أمر من أهم أهداف الشعر التجريبي الغنائي، لكنه هدف نادراً ما يتحقق بمثل هذه العفوية غير المتكلفة. ونجاح الشاعر في العثور على اللغة المناسبة والإيقاع والديناميكية الموسيقية، للتعبير عن إدراكه هذا بعمل شعري، كان خاصة من خصائص عبقريته وقدرته الفنية ذات الطابع العفوي. يقول «ورد زورث» في قصيدة له:
بعد أن رأيت
ذلك المشهد طغت على ذهني، أياماً عديدة،
أفكار غامضة وأحاسيس قاتمة مترددة
وأحوال الكون المجهولة، على افكاري
خيمت ظلمة حالكة، قل إنها وحدة موحشة
أو ضياع خاوٍ، فلم يبق في ذاكرتي
أشكال مألوفة ولا صور أشجار بهية،
أو بحار أو سماء، واختفت ألوان الحقول الخضراء،
لم يبق سوى أشكال ضخمة عاتية لا تعيش
كما يعيش الناس، تتسلل على مهلها إلى الذهن
نهاراً، وتكون لأحلامي مصدر إزعاج ليلاً.

فهو يكشف عن عبء روحي ثقيل، فجمله طويلة متثاقلة، والنسبة العالية من الأبيات المسترسلة تحول دون حدوث أي انقطاع جدي خطير في وصفه المطول لعلته الروحية. وعلى المرء أن يتلو النص كأنه يتلمس دربه ليدخل جوه العاطفي. أما موسيقى القصيدة فهي أنين متقطع وكأنها نواح روح مظلومة مسكونة( ).

تعمل أذهاننا دائماً في أغور أنفسنا الداخلية. فنحن نمتص العالم الخارجي إلى أعماقنا، تماماً كما يضع الأطفال كل ما هو أمامهم في أفواههم. فتلمس الشيء، كما حدث لويتمان بنشوة عارمة، هو وسيلة من وسائل جلبه إلى داخل أجسادنا وأذهاننا. إن التجربة كلها غزو لذواتنا وغالباً ما يكون الغزو هذا مرغوباً. وكل ما يدخل ذواتنا يتم تمثله بسلسلة عمليات داخلية وتحويله إلى طبيعتنا نحن، تماماً كما يهضم الجسم الطعام ويتمثله. وكل ما نخوض من تجارب يصطبغ بمعنى إنساني وشخصي بهذه العملية، كما نقوم نحن بدورنا بإطلاق صور إلى العالم الخارجي تعكس تجاربنا الأصلية وما صنعناه منها بفعل ضغط ذكرياتنا وحاجاتنا وشخصياتنا.

فالقصيدة تلتقط الحوافز من الحياة العادية بطريقة معقدة وملحة ثم تعيد توجيهها باتجاه الحالة العاطفية المركزية. ولبيان الطريقة التي يلتقط بها العقل الانطباعات ويحولها إلى قوة دافعة وموسيقى من نوع جديد، نتوقف عند قصيدة «أغنية حب» Love song الموجزة للشاعر «وليام كارلوس وليامز» حيث يستخدم الألوان والكلمات المكررة:
إنني مضطجع هنا، أفكر فيك
لطخة الحب
بادية على العالم
صفراء، صفراء، صفراء
تقرض الأوراق،
تلطخ بالزعفران
فنحن نرى أن «لطخة الحب» التي يتغنى بها الشاعر تشبه «اللمسة» في قصيدة «أغنية نفسي» للشاعر ويتمان. أنها صورة أعيد ارسالها إلى العالم منطلقة من نفسية الشاعر التي تمثلت كل أشكال الانطباعات وأنواعها ثم أعادت خلق هذا الشيء الجديد. هذه الصورة التي تولدت عن تفاعل الذهن مع كل ما أغار عليه. فمن أين جاءت، مثلاً، «لطخة حب» وليامز؟ إن النظر في منابعها يعني النظر في جرأة الشاعر الفاضحة، حيث نجد ربطه «الأصفر» بـ«اللطخات» وبـ«البقع»، و بـ«العسل».
فالقصيدة تكشف شعوراً باطنياً بأن العالم خلق من أشياء محددة واضحة المعالم سابحة في النور، إلى أن تسلط المبدأ الجنسي فلطخ جمال الطبيعة والتهمه، «مفسداً» إياه بذلك.

أما الموسيقى الشعورية الداخلية المتلاقية مع موسيقى الإدراك الخارجي وديناميتها التي لا يمكن التنبؤ بها، والتي توافي شعر التجربة فهي التي توضح طريقة استخلاص الايقاعات الشعرية المتناسقة من قلب الحياة العادية، ومن ثم إبرازها لتجلو جمالية شعر التجربة( ).
اللون السياسي:

ويبدو أن الشعر التجريبي، مشبع بالوجدان السياسي أيضاً. ففي مواجهة سلطة الدولة، ومشاكل الحرب والسلام، وقضايا متطلبات الإنسان، ومسائل التحرر لا يستطيع أحد أن يتوهم أنه بعيد عن مؤثرات السياسة إلا الناس البسطاء. وهذه المسألة بكاملها ليست مسألة بسيطة إذ مهما شعر أحدنا بالاستقلال والكرامة والوفرة يظل واقعاً تحت تأثير التوترات العالمية بأي شكل من الأشكال. يقول «كنيث فيرنغ» في قصيدته «ترنيمة جنائزية» واصفاً مواطناً أميركياً تأثر بالركود الاقتصادي:
من انفراج إلى انفراج، لقد اعتز وتباهى

بالطريقة المعينة الخصوصية التي يحيا بها حياته الخاصة،
ومع ذلك فقد قطعوا عنه الغاز، ومع ذلك
حبس عنه المصرف الودائع، ورغم ذلك أطل المالك مطالباً
ومع ذلك تحطم المذياع..

ربما لا يخطر لنا في الأحوال العادية بأن «حياتنا الخاصة» سياسية بشكل ما، ولكن عندما تضرب المجتمع كارثة ما: كالركود الاقتصادي، نشعر أن المصلحة الخاصة تعتمد أخيراً على المصالح المشتركة. وفي أبيات «فيرنغ» سحرية قاسية تحدد هذه القضية من الناحية الذاتية، إنها مرثاة رجل تأثر طراز حياته «الشخصية» أخيراً بصورة مريعة بفعل قوى غير ذاتية. وإنه لأمر هام أن نجد في الشعر التجريبي كثيراً من مثل هذه السخرية الناجمة عن صدمة اكتشاف إن حياة الفرد الخاصة ليست ملكاً له بل هي خاضعة لعمليات لا سيطرة لنا عليها، إلا بالعمل.

إن المحرض الداخلي للضمير عميق بسبب الفقر والعنف والتحقير الذي يتعرض له كثير من الناس. ومنذ القرون المنصرمة يوجد دائماً أنبياء وشعراء يرفضون الاستسلام والتخاذل بسهولة. تضم المنتخبات الشعرية «الصيحة من أجل العدالة» The cry for justice أمثلة كثيرة من الشعر والنصوص المقدسة والوثائق القديمة عن هذا الإدراك المبكر. أما مسرحية «الملك لير» للشاعر شكسبير فتصور معاناة الناس ومشاركة الشاعر لهم في معاناتهم:
أيها التعساء العراة اينما كنتم،
يا من تواجهون ضربات هذه العاصفة التي لا ترحم،
كيف يمكن لرؤوسكم الحاسرة وجنوبكم الجائعة،
وثيابكم الممزقة المعقدة، وأسمالكم البالية أن تحميكم
من أنواء كهذه؟ آه، لم
أعر هذا الامر اهتماماً كافياً! تجرعي الدواء، أيتها العجرفة،
تعرّي لتشعري بما يشعر به البؤساء،
علك تنفضين الفائض عنك لهؤلاء
وتظهرين السماء أكثر عدالة.

يقول «لير» هذا الكلام أثناء عاصفة شتاء عنيفة في أرض بوار اندفع إليها ملتاثاً بسبب جحود بناته، فقد صعقته التجربة وحرضته على رؤية الحياة عبر عيون كل «تعساء الأرض الفقراء العراة».

إن وجهة نظر الضحايا ونقاد الظلم الاجتماعي تتقدم إلى الصدارة وبتسارع أكبر. ففي أواخر القرن الثامن عشر كتب «وليام بليك» قصيدته الشهيرة «لندن» التي نرى فيها أنفسنا ونحن نندرج في العالم المعاصر: عالم المدن الحديثة الكبرى، وتكشف أبيات «بليك» أيضاً احساساً مصدره الألم من تشابك الجهل والخوف والوحشية مما يجعل العطف وحده غير كاف لإحداث التغيير( ). وتعتبر قصيدته «لندن» وثيقة ثورية كما هي دفقة عطف:
إنني أتجول في كل الشوارع الموقوفة
حيث ينساب نهر التايمس الموقوف
وألحظ في كل وجه ألقاه
علائم الضعف، وعلائم الحزن والأسى.
أسمع في صرخة كل إنسان،
في كل صرخة خوف صادرة عن طفل رضيع،
في كل صوت، في كل لغة،
أسمع صليل الأصفاد التي سكبها الذهن البشري،
وأسمع كيف تروّع صرخة منظف المداخن
كل كنيسة صبغها السخام بالسواد،
وكيف تنساب آهة الجندي التعيس
دماً على جدران القصر.

يتوازن الإشفاق النبيل والثورة في هذه القصيدة توازناً تاماً. ومع ذلك فإن الكلمة منها تشكل بحد ذاتها جزءاً من صورة معبرة جداً. «فالكنيسة المصبوغة بالسخام سواداً» هي حرفياً صورة المباني المغطاة بالسخام، ورمز لفساد رجال الدين وقبولهم بالاستغلال المؤلم المحزن للأطفال الصغار. أما صورة «آهة الجندي التعيس» التي «تنساب دماً على جدران القصر» فهي صورة رائعة كذلك، تبرز بصيغة مكثفة جداً سلطة الدولة الرهيبة التي تحتفظ بها على حساب الأبرياء المذبوحين. وتمنح التجربة الحية في شوارع المدينة، وليام بليك فرصته الشعرية فيسمع «صليل الأصفاد التي سبكها الذهن البشري» وكبّل بها الناس جميعاً. فكانت تلك الصورة تجسيداً مجازياً لمفهوم نفسي مجرد. ذلك أن الاستعباد يتم بالسيطرة على استجابات الناس العاطفية، بطرق أهمها: ترويضهم بالخرافة الدينية، وتهيئتهم نفسياً وسلفاً لتقبل اضطهادهم، ولهذا أصبح بإمكانهم تقبل تشغيل الأطفال وتحمل التضحية بالشباب في الحرب، وغض النظر عن فضائح انحراف المؤسسات الدينية، والاستسلام لسقوط المرأة في مهاوي البغاء، وفساد قدرات الحب وإمكانياته( ).

وللتعبير عن هذه التلقائية في التجربة الحية، يحشد الشاعر منظومات من العبارات المتوازية والأصوات ذات الرجع ليشدد من وقع كلامه على السامع، وهو بهذا الأسلوب يبدع موسيقى تتجاوز الأفكار والعواطف المباشرة ذاتها، موسيقى ألم الوجود في دنيا الفقراء والمستغلين والمحطمين نفسياً. أما الشاعر «عزرا باوند» Ezra Pound فيصف علاقة «بليك» برؤياه للجحيم البشري فيشبهه بنبي سيطرت عليه رؤياه ولكن قدر عليه ألا يستطيع التصرف:
وأمام مدخل الجحيم، سهل قاحل
وجبلان،
على أحد الجبلين، شخص يركض،
الشخص المهرول راكضاً، عارياً، هو (بليك)
يصرخ، ملوحاً بذراعيه، مطلقاً ساقيه للريح
صارخاً في وجه الشر،
كانت عيناه تحملقان بتوهج باتجاه مدخل الجحيم..

إنه المشهد الوارد في الكوميديا الإلهية Divine Comedy للشاعر دانتي Dante وهو يقع بين المطهر وبين الجحيم. فطبيعة بليك الطيبة تبعده بالضرورة عن الجحيم لكنه لا بد أن يسلك الدروب الجبلية الملتوية التي وصفها «دانتي» في الكانتو (الإنشاد) السادس عشر، والتي يشير إليها «باوند» هنا في هذا النص( ).
إن بليك قريب جداً من الإنسانية العادية دون أن يعي ذلك القرب، كما هو واضح في قصيدة «لندن» وفي قصائد أخرى عديدة في مجموعته «أغنيات البراءة وأغنيات التجربة Songs of innocence and songs of experience فهو لا يشعر بأي تناقض بين كونه واحداً من الناس العاديين وكونه شاعراً وعرافاً يتكلم بلغة كتبه «النبوية» الصعبة.
وهذه قصيدة «سيغفريد ساسون»: «كبت تجربة حرب Repression of war experience» التي يكتشف فيها جندي عائد إلى وطنه بإجازة أنه يحاول كبت الذكريات والاقترافات المخزية، والقصيدة صادرة عن مشاهدات ساسون الشخصية في الحرب العالمية الأولى. وتبدأ القصيدة كالتالي:

أشعلوا الشموع الآن، شمعة، شمعتين، ها هي فراشة،
يا لهم من متسولين أغبياء أولئك الذين يندفعون
فيحرقون أجنحتهم بالمجد، باللهب السائل
فالنقطة المحيرة الحاسمة تبدأ حين تلتقي عندها السياسة، بالحساسية الشخصية، والشعر، والتي تتطابق عندها الذكريات والمشاعر الذاتية مع أمور المصلحة العامة. والحرب مثال رائع على التجربة الذاتية، وخاصة المعاناة، التي يشترك فيها الجمهور على نطاق واسع.

فالشاعر الانكليزي «روبرت جريفز» يكتب في قصيدته «تذكر الحرب» كيف أن عملية الكبت هذه تحث عبر السنين ذاكرة المحاربين القدماء عندما «تنطلق شرارة اللحظة التي لا تطاق» فهم ينسون: «لعبة البنادق المرحة» عندما «يتساقط الجنود الأزلام» صفوفاً فيتذكر العقل العادي «تلوث الجو العام» في ظل قانون الموت الذي «يرعى» «الاحتضار الصحي، والإصابة بالمقدور قبل الأوان» ومع ذلك لا بد للعقل أن يفعل هذا، كما يقول «جريفز»، إذا ما اردنا مقاومة عودة «الرؤى المتبجحة» في المستقبل، والتي تستخدم لتبرير الحروب. بيد أن المحارب القديم ينسى تدريجياً حتى ولو كان في جسده ما يذكره بكل شيء:
مداخل الجروح ومخارجها نظيفة لامعة،
أما ندوبها فلا تؤلم إلا عندما يحرك المطر الذكريات
ينسى ذو الساق الواحدة ساقه الخشبية.
وينسى ذو الذراع الواحدة ذراعه الخشبية الممفصلة.
«إنها العساكر تذوي، وليست أزهاراً». ومع ذلك، كما يرى «أوين» يصعب علينا أن نتوقع من هؤلاء الجنود أن يعوا أنهم يستخدمون «مجرد شواغر لبدائل سيلحقون بهم» ويلتقط الشاعر أوين هذه التجربة فيقول:
سعيد ذلك الجندي العائد إلى الوطن، خالي الذهن
سعيد ذلك الفتى الذي لم يعمل ذهنه قط:
فأيامه جديرة بالنسيان لا بالذكرى.

إن أوين كما ساسون أو جريفز يضغط لغته في تراكيب معقدة ومعذبة، وفي إيقاعات غير متناسقة، تتساوق مع تجربته الخاصة في الشعر السياسي الذي يلتقط البرهة العامة ويعبر عنها بحرارة ذاتية( ).

فقد ركزت قصيدة الشاعر ساسون على الصراع الذي يمارسه جندي عاقل قادر على التحليل، وكأنه ضابط، كساسون نفسه، من أجل السيطرة على ذاته وضبطها وهو في إجازة قصيرة في وطنه. أما قصيدة (جريفز) فإنها تنظر إلى حقبة منصرمة من النسيان تغطي عشرين عاماً خلت. وتتجلى سخريتها الخاصة في واقعة أن الجرحى والمقعدين والعميان يحملون معهم دائماً ما يذكرهم بالحرب أينما حلوا وحيثما رحلوا. أما قصيدة الشاعر أوين فتتضمن الكثير من الخط العاطفي للقصيدتين الأخريين، بيد أن حدودها القصوى تتضمن نموذجاً خاصاً من الوعي الأخلاقي الذي يجعل الجو المحيط بالقصيدة سريعاً وكثيفاً، وكأن الشاعر لا يتحدث عن اختيارات أخلاقية بل عن روائح وأصوات وأشياء يحس بها إحساساً.

إن قضية «عدم الإحساس» قضية كيف نتحول إلى وحوش لا إنسانيين، وذلك بإغماض أعيننا عما يمكن أن نفعله، هي الشاغل الأساسي الذي استغرق شعر التجربة، إنها تعالج الجانب الأكثر إقفاراً من جوانب الحياة العامة والفكر والكلام.

وليست شهادة العساكر شعراً، بالطبع إلا إذا اعتبرت شهادة العائدين من حرب فيتنام «شعراً غير مقصود» أي أنه لم يقصد بلغتها أن تكون شعراً، ولكنها مع ذلك، تمتلك الصفات الشعرية. وكثيراً ما تكون كلمات كل من النائب العام والمدعى عليه بسيطة بشكل متعمد، مما يضفي على تبادل الكلام فيما بينهما نوعاً من التهكم، لأن الموضوع الذي يجري بحثه مشحون بالمضامين العاطفية.
ويمكن اعتبار المقتطفات من الشهادة (التي نقلها بعض الكتاب الأميركيين عن سجلات القضاء ونقحوها باعتبار أنهم حذفوا منها المحادثات المطلوبة الرتيبة) شعراً له وقع لا يستهان به. ربما لا يدرك المرء لأول وهلة ما ورد فيها من روح التهكم، والفظاظة والرثاء، بيد أن القارئ الواعي، لا شك، يلتقط على الفور النماذج التي تجري بحسبها الأسئلة والردود، وأصداء الأسلوب العامي الشديد البرودة في ظاهره والذي يستخدمه طرفا الاستجواب.
وفي موضع آخر من «كتاب الكوابيس» يلقي «كينيل» ضوءاً وهاجاً على الذهنية التي تتضمنها هذه الشهادات. فيبدأ النص بصورة «قطعة من اللحم البشري» في أرض المعركة، وينتهي بصرخة رمزية في وجه صورة للحرب ترفض أن تخبو.
في الميدان قطعة من اللحم البشري
ينطلق منها الدخان
جيفة، حثالة، فتات، فضلات، نفايات، اقذار
كومة تراكمت من فضلات المشافي
أيها الملازم الأول!
ألا يتوقف حريق هذه الجثة!

إن من وظائف الشعر التجريبي أن يلتقط صوراً مقززة كهذه، خوفاً من أن تغوص في أعماق الحياة تحت الشعور، ثم يدفعها ثانية لتبرز في مقدمة ساحة الوعي. إنها وظيفة هامة لا بد منها كيلا ننسى الوقائع التي جرت لنا.

إن الحاجة إلى التعلق بصور تفزع الذاكرة تشكل في الواقع خلفية الحاجة الأخرى لاستعادة اللحظات التي كانت يوماً من الأيام عزيزة جداً علينا من حيث لا ندري. وفي الشعر، أكثر من جميع صور الفكر الأخرى، تحال الأفكار لتقاس في «مقياس اهتزاز» الوعي الباطني. وحتى إن كانت الفكرة سياسية فإنها، كغيرها من الأفكار، ترد هي الأخرى إلى ذلك الجهاز الذي يقيس الحقيقة بإثارة الذكرى وتحريك المشاعر.

ولعل لغة الشعر التجريبي مناسبة تماماً للناس الذين يعيشون ظروفاً درامية عصيبة، وهي بالتالي مشحونة بمعيار الناس كلهم. ولذلك لم يعد الشعور الإنساني في أبرز مظاهره حكراً على الطبقات الحاكمة بل على أي شخص آخر باعتباره تجسيداً لكل ما هو بشري.

والواقع إن الشعراء التجريبيين لم يعد يكتبون قصائد رؤى وتنبؤات، أو قصائد رنانة عن العالم الجديد أو عن «مدينة الله» الفاضلة، حتى ولا عن مدن الإنسان التي ستنشأ نتيجة لتغير ثوري أو سياسي، بل تنتابهم بدل ذلك رؤى معاكسة من النوع الذي نجده في قصيدة «لندن» للشاعر «بليك» وفي بعض النصوص الشعرية الأخرى التي مرت معنا، أو أنهم يلازمون الرؤى القديمة مع نوع من الإذعان، نراه في وصف «رومان غثري» لمسيرة في أحد شوارع باريس في قصيدته «أناس سائرون»:
في قلوبهم إيمان بلا أمل
أو أمل بلا إيمان، أو كلاهما، بلا أي منهما،

ولا يوجد، برأيي، اليوم سوى قلة من الشعراء التجريبيين يرون في بعض المواقف السياسية المعاصرة أملاً مشرقاً. فهم يعبرون عن التوازن الدقيق الموجود في ذهن كل إنسان بين المواقف السياسية الإيجابية والمواقف السلبية كما أنهم مستغرقون بالعلاقة الغريبة المربكة بين حاجات الناس ورغباتهم من جهة وبين ما هي عليه الأمور في الواقع.

فالشعر التجريبي في هذا العصر ينجذب نحو مظهر متعب مهزوز يائس من قدرتنا على معالجة أبسط دوافعنا الباطنية، ناهيك عن مواجهة أكثر مشاكل العالم إلحاحاً. بل إن ضغوط الوعي السياسي تسفر أحياناً عن أعمال أدبية مدمرة تفت في العزيمة عن عمد كالأبيات التالية التي وردت في قصيدة «الفن الأسود» للشاعر أمامو أميري بركه Imamu Amiri Baraka (الملك جونز) والتي تكشف عن تنوع مثير للمدارك والمشاعر توحي بأن الثقافة يمكن أن تهوي في مزالق الجنون.
فهو يبين أن هناك سبيلاً واحداً مألوفاً هو العنف غالباً ما يدفع اليأس إليه:
نريد «قصائد تقتل»
قصائد سفّاحة. قصائد تطلق
نيران البنادق. قصائد تصارع الشرطة في الأزقة
وتنـزع عنهم سلاحهم بعد تركهم جثثاً هامدة
ونزع ألسنتهم وإرسالها إلى ايرلندة.

إن اليأس الشبيه بيأس «شيلي» أو «بيتس» هو اقرب إلى ما يسميه شاعر آخر هو «تينيسون» بـ«اليأس المقدس» الذي هو انفعال عاطفي لشخص ذي تعاطفات وجدانية واسعة، ونية حسنة أمام ما يعرفه من التاريخ وعلم النفس.

ويمكن للشعر التجريبي السياسي القيم أن يكون أحياناً جدلياً، بيد أن ميزته الرئيسية هي في كونه، كغيره من الشعر الحقيقي، متأصلاً في الإدراك الشخصي. وليست السياسة هي بالضرورة صفته الأساسية بل ربما منحته الجمالية العفوية صفة الصدق الحسي الفاعل( ).

الشؤون الشخصية
تبدو العواطف التي يعبر عنها شعر التجربة تميل إلى كونها عامة وذات مواضيع عامة، كالحب والموت والحزن والوحدة والابتهاج الخالص، وهي تعتمد على اتساق أنغامها في الإيحاء إلى السامع الفرد بسلسلة حالاته النفسية المقترنة بالتداعي. وكثيراً ما نجد في مقطوعة شعرية سراً خاصاً تشاركنا فيه بوساطة التفاتة خاصة في التعبير، كما في مقطوعة «النسيم الغربي» لشاعر مجهول:
متى ستهب أيها النسيم الغربي، ليهطل معك رذاذ المطر؟
أتمنى، بحق يسوع، أن تكون حبيبتي بين أحضاني
وأن أكون في سريري ثانية.

فالطبيعة البدائية مقترنة بشكل ما مع الرغبات البدائية. وقد تحولت حاجة المتكلم الخاصة إلى أمر عام، يمكن عرضه اجتماعياً عبر اللغة. والحافز الشعري الذي يحفزنا على المشاركة في مشاعرنا الخاصة، والموجود فينا دائماً، إنما هو حافز العاطفة «الاجتماعية» التي هي حالة من حالات الإحساس مشحونة بالتعاطف الفياض. وقد تتحول إلى حاجة عامة للابتهاج بما يعتلج في صدورنا حقاً. والى تشجيع الآخرين، والتشجع بهم في مثل هذه المبادرات( ).

وفي قصيدة «إلى أمي» للشاعر جورج باركر، وهي قصيدة بريطانية مستوحاة من أجواء الحرب العالمية الثانية، فيمكن النظر إليها بالطريقة التي تعلن به عن نفسها:
أقرب قريب، وأعز عزيز، وأحب حبيب، وأبعد بعيد،
تجلس تحت النافذة حيث كنت أجدها دائماً
ضخمة كآسيا، تهتز كزلزال من الضحك،
وفي يدها الايرلندية زجاجة جن
إنها تأنف من رفع رأسها لتنظر إلى قاذفة القنابل، ولا تتنازل
فتلقي بالجن وتهرول إلى ملجأ
بل تتكئ على مائدة من خشب الماهوني، كأنها الطود
لا يحركه سوى الإيمان، لهذا ابعث إليها بكل إيماني،
وكل محبتي لتبثها بأنها ستنقل من الحداد إلى الصباح.

والواضح أن القصيدة قد كتبت في ظل المحبة العارمة التي تجتاح صاحبها. والتأكيد الأساسي للقصيدة هو ذلك الذي جاء في مطلعها «أقرب قريب، وأعز عزيز، وأحب حبيب». إن صيغ التفضيل هذه تحدد خصائص الدفقة العاطفية الأولى وكل ما يلي من ابيات باركر التي تصف بهجة أمه وحساسيتها وشجاعتها تتمشى مع ذلك الشعور تماماً كما تتمشى لغة الحماسة البالغة مع مسحة دينية تطغى على الأبيات الختامية.

فالحركة كلها في القصيدة إنما هي موجة حب عارمة كتلك التي تجتاح الانسان المؤمن بمبدأ ما، ثم يحول ما كان يضمره إلى براهين مؤكدة تدفعنا للتعاطف معه.
إن موجة عارمة من الحب المعطاء اللامعقول الذي يتميز به المزاج «السياسي الفياض» المشترك بين الناس جميعاً، تظهر لنا بكل وضوح في مجموعات الشعر التجريبي. فالشاعر التجريبي ينتزع العنصر الجوهري النزوي الرجراج، والحماسة المتوقدة من سياقها الايديولوجي، ويبرز طبيعتها المستقلة وقوتها. إنه الحب، طاقة طليقة، لأنه يمكنه أن يقترن بالشرور تماماً كاحتمال اقترانه بالأمور الخيرة إنسانياً. إنه ما يعرف بالحالة: «الرغبة في تقبيل الرقة على وجهيها». فإذا ما تملكنا هذه الرغبة الجامحة في تفهم من حولنا فإننا لا شك سنشعر بالتعاطف حتى مع الذين يكرهوننا أو مع المتوحشين القساة، بل مع أولئك الذين تبدو آلامهم لا تطاق، أو حتى ذوي الأطوار الغريبة، إنه حافز غريزي عميق الجذور في النفس بحيث يتجلى أكثر ما يتجلى في الشعر ذي اللون التجريبي.

ففي حياتنا اليومية نتحدث عن الحاجة إلى «الاتصال» فيما بيننا، ونتحدث عما يعرف بـ«الإحساس بالانتماء» وعن أهمية «الإيمان» بشيء ما، وعندما نتحدث بهذه الطريقة فإننا لا نعرف ما الذي نريد تبادله أو الانتماء إليه أو الايمان به.

والشعر يدعونا للمشاركة في التجارب المحققة عملياً دون أن نتصارع حولها. إنه يثير، كما يقول «فاليجو» الشوق للـ«شوق الآخر» أي نحو الإحساس يتولد الشعور ذاته عند الآخرين. إن جانباً هاماً من العاطفة الشخصية تتجلى في قصيدة بول جودمان حيث يقول منها:
نهر الجليد الثقيل وجبال الألب المرعبة
التي لا استطيع اجتيازها ولا أعرف شعابها
تحول بيني وبين إيطاليا، وعندما يقترب الشتاء،
ألوذ بهذا الجحر هرباً من الموت
مزوداً بطعام لا طعم له، وحيداً ليس معي من أحب
سوى الأوهام، وأحياناً النحيب والبكاء.
فالشاعر يحشد طاقته ليبقي افكاره الأولى مركزة في خضم هلعه. إن البنية المعذبة لهذه الجمل، والصور الجريئة التي ترصع القصيدة، إنما تعبر عن شقاء تام، إلا أن القوة العضلية، وروح التمرد، والميلودراما مع السخرية الكاريكاتورية، بالذات، تجعل من هذه السوناته غير التقليدية العنيفة إعلان انتصار غريب. ونحن نجد لغة تحاكي مشاعرنا وتبرزها وتعلن انتصارنا على النسيان. إنها جمالية التجربة النابضة بالحياة والنشاط بما فيها من يأس.

إن ما يظهر أمامنا بلا تورية هو إحدى الخصائص الطبيعية للذهن أو الشخصية، كالرغبة في الانغماس بالشهوات الحسية المألوفة لدينا جميعاً ولكنها إما أن تقمع أو تنسى في خضم التفاعل الاجتماعي.

فالشاعر التجريبي يستدعي الأحاسيس الجسدية أو الرغبات المادية المألوفة كما يستدعي مجموعة من الصور الخيالية والألحان التي هي من افكاره الخاصة التي تدور حول الموضوع العام الذي يخصنا جميعاً( ).

ولعل أكثر دوافع الإنسان نحو الشعر هو ذلك الذي يدفع إلى البوح والى المشاركة بالأمور المعروفة لدى جميع الناس يحتفلون بها ويطلقونها في سياق قصيدة متكاملة النمو. وقبل وجود هذا الحجم من الشعر التجريبي بمعناه الحديث، كان الشعراء يكشفون ذلك الحافز البوحي ويستهدون به. وخير مثال على هذا النهج قصيدة من قصائد القرن السادس عشر النابضة حيوية. كتبها الشاعر «السير توماس ويات» بعنوان «هرب عني من كانوا يوماً يسعون ورائي»:
هرب عني من كانوا يوماً يسعون ورائي
حفاة، متسللين إلى مخدعي:
لقد رايتهم لطفاء وادعين خانعين،
وهم اليوم غلاظ شرسون، لا يذكرون
ايام كانوا يخاطرون بأنفسهم
ليحظوا بلقمة خبز من يدي.

فالتصوير يحدث في النفس تأثيراً خالصاً، والكلام المباشر العامي ينفذ إلى القلب. وهو بالتالي يعطينا صورة مقربة للحظة عاطفية حسية معاكسة ذات مسحة جمالية خلاقة!

وعلى بعد أكثر من أربعة قرون نستطيع أن نرى أن قصيدة الشاعر «ويت» تكاشفنا وتجذبنا إلى تتبع جوهر طبيعة الشاعر الداخلية ضمن إطار الروح الحضارية لعصره. وهذا هو الهدف الأساسي والبلاغي للشعر الغنائي. إنه الكشف للقارئ أو السامع عن النبض العضوي لنغم التجربة الفردية الخاصة وتجلياتها الجمالية، بل وكشف ملمسها، وكذلك التأكيد على الحقيقة التي يشعر بها كل إنسان، ولكنه في الوقت ذاته غير متأكد من أن الآخرين يشعرون بها. وربما تصلح قصيدته الحادية عشرة من «أغنية نفسي» المبنية على اسقاط الحس الجنسي الغريب على الآخرين، مثالاً على هذا التأكيد:
ثمانية وعشرون شاباً يسبحون عند الشاطئ
ثمانية وعشرون شاباً كلهم رفاق،
ثمانية وعشرون عاماً من الحياة الأنثوية انصرمت كلها في عزلة وانفراد
إنها تملك البيت الجميل عند مرتفع الضفة،
وتخفي جسداً جميلاً فاخر الثياب خلف ستائر النافذة.
أي الشباب هؤلاء تفضل؟

والقصيدة تبدأ بمشهد بسيط جريء، ونجد فيها إمكانات التفجر العاطفي واحتمالات الملهاة بآن واحد. إلا أن رقة اللغة ورقة كلمة «عزلة» يوجهان القصيدة نحو التفجر العاطفي، بل وأكثر من ذلك، إلى التعاطف الإنساني الذي يبتعد بالمشهد عن الكاريكاتور.
وتكاد القصيدة تكشف عن وجهة نظرها المزدوجة منذ اللحظة الأولى، فهي تتحدث بحيوية عن شباب وبحيوية أكثر عن امرأة ترقبهم من النافذة. ويشعر «ويت» بحاجات المرأة الخفية وبوجودها الخفي شعوراً حاداً. والحاجة إلى تتبع خطى بصيرة فردية إلى أن تتكون وتصبح «قصيدة » هي عالم بحد ذاته. وأيضاً نافذة تطل على الذهن الخفي لكل فرد آخر، مما يمثل الحلقة الأساسية التي تربط الشعر بالحياة العامة. وهذا الدافع يشكل أساس التواصل والبلاغة، وهو أكثر أهمية من اي نظام مكشوف من المبادئ والمعتقدات.

ولعل من علائم الفن التجريبي، القدرة على إيجاد الخطوة الايقاعية للكلمات وطبقتها ومواءمتها مع انحناء الحركة في عملية استكشاف هذه المدركات الجوهرية. ويصدق هذا حين تكدس صور متنوعة، تبدو في ظاهرها غير مترابطة، تكديساً هرمياً في نمط متناسق. ثم يعرض الشاعر هذه الصور ويبرزها لإعطاء القصيدة تأثيرها المطلوب وهي تتحرك مستكشفة، لأن ما تريد قوله ليس تعميماً، كما راينا في قصيدة ويتمان «ثمانية وعشرون شاباً» بأنغامها المتنافرة باتساق: فلحظة من نشوة الحب في وسط كل أنواع الحركة المستمرة التقطت بتركيز شديد ضمن تلك الحركة.

إن تغيير موجة اللغة لتلتقي مع موجة الشعور المحتد تحفز أمام القارئ بارزة في كل العلاقات والروابط التي تجدها بين صور البحر والنور، وبين ما يوحي بالعمل العاطفي، وبين أعماق العاطفة وقممها، وبين انصهار كل تلك العناصر في شفافية التجربة وجماليتها( ).

باختصار إن إيقاع الحياة العامة والإدراك الحار والفوري هما التربة التي تنمو فيها مادة شعر التجربة الأكثر جمالية. ومهما تجاوزت لغة الشعر وخياله الطريقة العادية التي يتكلم بها الناس، فإنها على اية حال تظل على تماس مع إيقاعات لغة الكلام العادي، ومع الخيالات الطافية التي تطلقها المخيلة العامة. وكذلك فإن ذكرى اللحظات المشحونة بأهم ما يغني الشاعر، تمنح الحياة لهذه القصائد بلغتها الجمالية حتى تجعلها أكثر رسوخاً في الزمن وأكثر فعالية فيه.

———————————

(*) دراسة نشرت في مجلة الفكر التقدمي العدد 20