تثبيت «بلفور» وتعديل «سايكس بيكو»!

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

في دلالات وتفسيرات عملية التبادل السكاني التي جرت في سوريا بين الزبداني وجوارها، وقريتي كفريا والفوعة وجوارهما، خطران متلازمان. الأول التبادل السكاني الرضائي بما يعني الفرز الديموغرافي الواضح. نعم، فرز سكاني، أي إخلاء منطقة من أهلها من لون مذهبي معين (للأسف نقول ذلك لكنها الحقيقة) مقابل إخلاء المنطقة الأخرى من أهلها من لون مذهبي آخر! وهذا يعني استكمال مشروع «تنقية» المناطق التي تسيطر عليها قوات النظام، وبعض المناطق التي تسيطر عليها قوات مقاتلة له! وهذا بحد ذاته خطر كبير على وحدة سوريا، وعلى التنوّع فيها في ظل توزّع مناطق النفوذ «النقية» على امتداد الأرض السورية كلها باستثناء العاصمة دمشق حتى إشعار آخر. أما الخطر الثاني فهو تأكيد سيطرة النظام على الخط الممتد من اللاذقية إلى العاصمة وامتداداً إلى الغوطة وبعض مناطقها والاستعداد لتوسيع الدائرة بعد التدخل الروسي الحاسم إلى جانبه، وتأمين هذا الخط الخطر كان يشكل هدفاً استراتيجياً للنظام ومن خلفه إيران وحلفائها. حسم الموضوع، في هذه المرحلة على الأقل، ولو مقابل الفرز الديموغرافي الذي أشرنا إليه، والذي يشكل حلقة من حلقات الفرز التي بدأت من القصير منذ سنوات. توقيت هذه العملية، وبعد مقتل زهران علوش بأيام، والتقدّم الملحوظ الذي تحرزه قوات النظام مدعومة من الطيران الروسي، كان لافتاً. هذه خطوات تسجّل على الأرض بالتوازي مع بدء الحديث عن «حوار» مفترض بين السوريين بعد قرار مجلس الأمن 2254 بالتوافق الروسي الأميركي، حيث يسعى كل طرف إلى تعزيز شروطه في عملية التفاوض. هذه طبيعة الحروب. وطبيعة التفاوض في ظلها أو إلى جانبها.

في سوريا، ورغم كل الحديث عن بداية مسيرة الحل ولو ببطء انطلاقاً من القرار الدولي المستند إلى ما سبقه من قرارات وخطوات، لا تزال الحرب في بداياتها وليس مسيرة الحل في بدايتها! هذا هو الظاهر. وهذا هو المخفي المعروف في لعبة الدول وحساباتها. وهذه هي التجارب السابقة التي تعلمنا. وهذه هي النفوس والعقليات المحركة لمسارات الأمور على الأرض.
أما في لبنان، فالمشهد أكثر بشاعة. لقد تمّ الاتفاق على أن تكون عملية التبادل «والترحيل» لأبناء المناطق السورية المذكورة من سوريا إلى لبنان، ومن لبنان إلى تركيا، ومن سوريا إلى تركيا ثم إلى لبنان! لبنان هو المعبر. وهو الحاجة الدائمة في هذه المرحلة. المشهد تجلى في المطار وعلى طريقه وعلى طريق المصنع. الخارجون من الزبداني يستقبلهم «مجتمع لبناني» من لون معين. يرفع شعارات النصر، يتحدث عن صمودهم وآلامهم. وفي المطار يستقبل «المرحّلين» من كفريا والفوعة «مجتمع لبناني» آخر، يرفع شعارات النصر أيضاً ويتحدث عن صمود وصبر ومعاناة وبطولات المرحّلين! كأننا مجتمعان مختلفان. مجتمعان لا يربط بينهما شيء. بل تفصل بيننا الطرقات أو تستخدم في الاتجاهين المعاكسين. والدولة ومؤسساتها تنظم عمليات المرور والانتقال في الداخل، والتبادل في الخارج عبر طرقات الداخل اللبناني ومعابره البرية والجوية!

للأسف هذه هي سوريا حجر الزاوية، هي سوريا الممزقة اليوم. وهذا هو لبنان المنقسم على ذاته حول كل الأمور. فرز ديموغرافي على الأرض في سوريا وإسقاط للتنوع، وسماء مفتوحة لكل أشكال «التنوّع العسكري» «والحربي» لقصف وضرب السوريين وتدمير ما تبقى في البلاد. والثابت الوحيد مصلحة إسرائيل وحرية حركتها. وهذا ما أكدته الاتصالات الروسية الإسرائيلية الأخيرة إثر زيارة وفد أمني روسي إلى تل أبيب للقاء كبار القادة الإسرائيليين الأمنيين والعسكريين. محور الاجتماع كان حرية حركة إسرائيل في الأجواء وعلى الأرض السورية لضرب كل ما يمكن أن يهدد أمن الدولة العبرية، ولتضمن روسيا بدورها ألا تشكل أي مواقع في سوريا يمكن تهديداً لأمن واستقرار إسرائيل! وكل ذلك يتم اليوم بتنسيق أميركي روسي.

للأسف، نبدأ عاماً جديداً دون أن ننتبه إلى أننا على أبواب العام السادس لبداية الأزمة السورية. تمر الأيام ولا نقيم اعتباراً للوقت الذي يلاحقنا بدل أن نلاحقه، فيتعبنا ونرى الكوارث التي حلّت بنا ولا نرى في المقابل ما ينتظرنا منها بعد.

في كل مرة أتطلع إلى أحداث المنطقة انطلاقاً من فلسطين إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا وغيرها.. أعود وأكرر ما كتبته في نهاية عام 2011: «في بدايات القرن الماضي صدر وعد بلفور بإقامة دولة إسرائيل وكان اتفاق سايكس بيكو الذي قسّم المنطقة ورسم خريطة جديدة لها.. كأننا في بدايات هذا القرن أمام محاولة تثبيت وعد بلفور وتكريس موقع ودور إسرائيل، وتعديل اتفاق سايكس بيكو من خلال تغيير خريطة المنطقة الجغرافية والسياسية، وهذا ما يتبلور واقعاً في كثير من المناطق».