الدخول السوري إلى لبنان مراحله، شروطه، استهدافاته

بقلم جورج حاوي

سوف أتذكر حقائق تاريخية عن الدخول السوري الى لبنان. تقول سوريا بأنها جاءت بطلب من السلطة اللبنانية والمسيحيين. ويقول المسيحيون والسلطة اللبنانية أن ذلك لم يكن إلا بطلب من قِبَلنا، ولكن ليس بهذا الوضع.

الدخول السوري تم على أربع مراحل. المرحلة الأولى تمت من دون طلب من أحد. أنا وصديقي ورفيقي محسن إبراهيم كنا عند الاستاذ عبد الحليم خدام في بدايات 1976، فأُخبرنا بأن جيش التحرير الفلسطيني الموجود في سوريا اجتاز الحدود عند منطقة «المصنع»، ودخل لبنان، ووصل الى  منطقة «ضهر البيدر». وفي ذلك الوقت جئنا بسيارة «كاديلاك» مصفحة مع الأستاذ عبد الحليم خدام والعماد أول حكمت الشهابي رئيس أركان الجيش. في الطريق، وعلى مسافة مائة متر، كان يوجد جندي من جيش التحرير الفلسطيني. وكان الاستنفار على طول الطريق.

 وفي «ضهر البيدر» بدأنا نفكر بأنه لا يصح أن يشاهدنا اللبنانيون قادمين داخل سيارة سورية مع الأخوان في القيادة السورية. لكن الإخوان السوريين بادرونا هم بالقول أنه لا يصح أن يصلوا إلى حيث سيستقبلهم وزير خارجية لبنان آنذاك، قريبي فؤاد نفاع، فيما نحن معهم في السيارة ذاتها. وهو الأمر الذي سيعمل على إظهارهم بأنهم منحازون لطرف لبناني معين. لقد سبقونا وطلبوا هم منا أن ينزلونا على الطريق. قالوا لنا «إعملوا معروف ما تحرجونا انزلوا والحقونا بسياراتكم». لقد حصل هذا قبل أن يطلب منهم أحد الدخول، وقبل أن يستعين بهم الفريق الذي كان في السلطة رسمياً وميليشياوياً..

كمال جنبلاط وحاوي

بدأ هذا الدور يتفاعل، واستفدنا منه كقوى وكحركة وطنية وكمقاومة. وفي ظلّه حصلت اجتياحات وتجاوزات أحياناً. بل يمكن ان نقول «إنه في اليوم الذي كنّا فيه نتغدّى عند الرئيس حافظ الأسد، كمال جنبلاط وأنا وعباس خلف ومحسن دلول وآخرون، كانت قوات من «الصاعقة» و«جيش التحرير الفلسطيني» قد باتت عند مشارف «زغرتا» في الشمال. اتصل الرئيس سليمان فرنجية بالرئيس حافظ الأسد، ونحن نتناول الغداء، مشتكياً. وأبدى الرئيس حافظ الأسد أسفه وعدم رضاه عما كان يحصل. وأردف مضيفاً: «لكن أنا غير قادر على منع الفلسطينيين فيما أشقاؤهم يُذبحون في المخيمات، أو في غيرها، دون أن يتحركوا. واتفق الرئيسان على أن يزور دمشق الرئيس سليمان فرنجية والرئيس الشهيد رشيد كرامي. وفعلاً تم ذلك، وجرى تقديم الوثيقة الدستورية.

إذن، جرى مدّ يد سياسية على قاعدة ضغط عسكري. الوثيقة الدستورية أدخلت سوريا طرفاً أساسياً في الحل السياسي في لبنان، وبالتالي كان دخولها، من خلال جيش التحرير الفلسطيني ومنظمة الصاعقة والقوى الحليفة لها فلسطينياً ولبنانياً، دخولاً عسكرياً قبل أن يكون مطلباً سياسياً للبعض.

هنا جاءت المرحلة الثانية. وهي مرحلة الخلاف السوري الفلسطيني، والخلاف السوري والوطني اللبناني الفلسطيني الذي تخطّى اتفاق الوثيقة الدستورية، وأراد أن يكمل برنامج الإصلاح الذي طرحته الحركة الوطنية. لكن هذا الدخول بدأ يسياسة التوازن التي اعتمدتها سوريا وتبدّلت بفعلها التحالفات. فبدل أن تكون هذه التحالفات بين الفلسطينيين واليسار، من جهة، وسوريا، من جهة ثانية، انتقلت لأن تكون تحالفات بين سوريا والفريق المواجه للفلسطينيين كي يمنعوا امتداد الحركة اليسارية اللبنانية والحركة الفلسطينية، نتيجة تفوق القدرة العسكرية والقتالية للتحالف الفلسطيني اليساري الوطني اللبناني بقيادة كمال جنبلاط. استعان الفريق الحاكم آنذاك (بيار الجميل الأب) بسوريا وبالأميركيين. أميركا نصحتهم بالاستعانة بسوريا لأنها الأقرب.

الجيش السوري لبنان

وهكذا جاء الدخول السوري الثاني بطلب من السلطة اللبنانية، رئيس الجمهورية وفريقه، مجازاً أميركياً. وكنت قد قلت سابقاً بأنه مجاز إسرائيلياً، حيث تولّى الملك حسين جلب الموافقة الاسرائيلية في اجتماع عقده سراً بينه وبين مناحين بيغن في السفارة الاسرائيلية في لندن، وبلّغه الى الرئيس حافظ الأسد. وبالتالي فهذا الدخول كان مساعدة أميركية للسلطة اللبنانية ومجازاً إسرائيلياً. وكان موجهاَ ضد الحركة الوطنية وضد الفلسطينيين. ثم حصل ما حصل خلاله، وصولاً الى استشهاد كمال جنبلاط، والى الخلل الداخلي الذي كان مستمراً لولا زيارة السادات للقدس. ذلك أن سوريا كانت تريد أن تقبض على الورقة اللبنانية كلياً وعلى الورقة الفلسطينية كليا، لتذهب، في ظل ما كان يحضّر له من مؤتمر دولي لحل أزمة الشرق الأوسط في جنيف، ومعها الورقة الفلسطينية «كدولة وهوية» وكذلك ورقتي لبنان وسوريا.

وكانت الصحف الغربية تكتب عن «أسد سوريا الكبرى». لكن فوجئت سوريا بأن الرئيس أنور السادات حوّل المناقصة في اتجاه آخر، وقفز إلى تل أبيب مباشرة، إلى القدس. وبالتالي تساقط الوهم بمؤتمر جنيف ليصبح في واقع تسوية ليست في صالح سوريا. فتغيّر كل شيء. جميعنا في لبنان كنّا قد تلقينا إنذاراً وتهديداً بالقتل في ذلك الأسبوع، وأعطينا مدة أسبوع فقط. ولكن تم الاتصال بنا بعد وصول السادات الي القدس، وقيل لنا: تعالوا، يا جورج ويا محسن ويا وليد جنبلاط وياسر عرفات ويا أبو جهاد وأبو الهول وأبو إياد وأبو اللطف، لنبحث في مواجهة زيارة السادات للقدس.

My beautiful picture

بدأنا في المرحلة الثالثة وهي مرحلة التعاون الفلسطيني والوطني اللبناني والسوري لمواجهة السادات ومعه حلفاء سوريا السابقين في لبنان. وهكذا كان موقف سوريا: يوم مع السلطة الفلسطينية، ويوم مع بشير الجميل، إلى أن دخلت في صدام مع هذا الأخير. وفي رأيي فإنها لم تحسن إيجاد تسوية لبنانية في ذلك الوقت. فبدأت تناقضها، ليس معنا فقط، بل أيضاً مع القوى التي استعانت بها، وبدأت العمليات العسكرية ضدها. وكان الحادث الشهير في الفياضية، ثم بدأت العمليات العسكرية في الأشرفية، والقتال بين «القوات اللبنانية» وتحالفاتها وبين سوريا في تلك المرحلة. وكنا ننظر مع الأسف الى أن هذا القتال سوف يعزز موقفنا، بدل أن ندرك بأنه سيكون مدعاة تفكك داخلي يسمح للعالم الخارجي في التأثير أكثر فأكثر في حربنا الداخلية.

لقد ساد اعتقاد عند البعض بأن الدخول السوري الى لبنان هو وسيلة تخفيف من العامل الاسرائيلي. لكن العكس صار هو الصحيح. فالدخول السوري زاد من العامل الاسرائيلي، إلى أن وصل التدخل الاسرائيلي في أول مرة الى احتلال قسم من الجنوب عام 1978، ثم وصل في عام 1982 الى بيروت. وهكذا، مرّت العلاقة مع سوريا بتموجات، انتهت عند حالة التعاون والتوافق التي كانت بيننا وبين سوريا في مواجهة آثار ونتائج احتلال 1982، ثم اسقاط  اتفاق 17 أيار، ثم في حرب الجبل التي جاءت في هذا السياق. ويبقى موضوع  العماد ميشال عون والقصف الداخلي، وصولاً الى الطائف.

الطائف

«الطائف» وضع الحد مشكوراً للنزيف الداخلي وللتفتت، وحدّد أسساً لمهمة إعادة بناء الدولة. ووضع أسساً لتنظيم العلاقة مع سوريا. وكان من هذه الأسس أنه بعد فترة سنتين تنسحب سوريا الى البقاع، بعد الإصلاحات التي يذكر ضمنها إلغاء الاتفاق وإعادة بناء الدولة ومؤسساتها وانتخاب المجلس النيابي وسوى ذلك، ليعاد النظر في صيغة وشكل ومآل وجود الاتفاق بين الدولتين، الذي حصل نتيجة اغتيال الشهيد رينيه معوض، ونتيجة رفض العماد عون «اتفاق الطائف»، ومعارضته وممانعته لهذا السياق، ثم نتيجة تطورات إقليمية تجلت بذلك الجنون الصدامي باجتياح الكويت، وبالتالي بحاجة أميركا لتغطية عربية لحرب الخليج الأولى أعطتها إياها مصر بصورة طبيعية، أعطتها سوريا أيضاً بإرسال فرقة رمزية. وبذلك أخذت سوريا من الأميركان، وبإذن اسرائيلي، حق إسقاط العماد عون عسكرياً. وبالتالي انفردت بتطبيق «اتفاق الطائف» سياسياً، خارج إطار اللجنة الثلاثية التي كانت مكلفة من الجامعة العربية، وعسكرياً من خلال كون جنودها وجيشها هم الذين حسموا العقبات التي حالت دون تطبيق «الطائف».

على هذا الأساس بُنيت الدولة اللبنانية كلها، بمؤسساتها وسياساتها وأركانها وخدماتها، على محور الوجود السوري المحتضَن أميركيا، وبتوكيل أميركي سعودي. يعني هذا أن أصحاب «الطائف» وكَّلوا سوريا أن تقوم هي بمهمة تطبيق «الطائف»، الذي انتقل، على أساس هذا التوكيل، من «طائف» عربي سوري بموافقة دولية، الى «طائف» سوري يحظى بتوقيع عربي. في هذا السياق، سقطت جميع الحواجز الداخلية والخارجية أمام الوصاية السورية: سقطت عسكرياً بسقوط ميشال عون في «بعبدا»، وسقطت سياسياً لكون الأطراف التي عارضت «اتفاق الطائف» لم يعد لها الوجود الفعلي على الأرض. وبالتالي احتُضن «الطائف» من قبل البطريرك وسمير جعجع و«القوات اللبنانية» ومن الأطراف المختلفة كلها.

ولكن «الطائف»، الذي كان توازناً لبنانياً ما، وعربياً ما، اختلّ وطُبّق بلا توازن لبناني حيال طرفين: حيال الشباب الصاعد وحيال الاتجاهات اليسارية والديمقراطية، التي كانت تطمح الى أن تؤدي هذه الحرب الأهلية، رغم التدخلات الخارجية والسياسية، إلى إصلاح حقيقي ينقل البلاد من ولاية الطوائف والمذاهب الى الوطن. ثم كانت تأمل بأن تكون المقاومة التي نهضت على يد اليسار ونحن تحديداً كشيوعيين وأنا شخصياً ودورنا في هذا السياق لتتوسع فيما بعد إلى “حزب الله” إلى “أمل”، إلى حركة شعب بأسره….، وبأن تكون تحريراً للجنوب وتأسيساً لحالة تطوير في النظام نحو وحدة وطنية لبنانية حقيقية.

لكن، وللأسف الشديد، طُبّق «الطائف» بشكل انتقائي. فلم يلغ هيمنة ما ليقيم وطناً، بل ألغى هيمنة سميت المارونية السياسية ليقيم هيمنة إسلامية عامة، وشيعية خاصة، تبدو الآن عارية بعد سقوط جانبي المشاركة في هذا الجانب، ألا وهو الجانب السني المتمثّل بالشهيد رفيق الحريري ومشاركة وليد جنبلاط الدرزية، لتبدو الصورة الحقيقية للحالة الشيعية التي تحمل على عاتقها كل وزر الوضع اللبناني. ثم طُبق اتفاق الطائف انتقائياً أيضاً فيما يتعلق بالوجود السوري. فألغيت فترة السنتين تحت ذريعة الاحتلال الإسرائيلي. وكنا نحن متواطئين في هذا الأمر.

patriarch-sfeir

وكان برأينا، والبطريرك صفير نفسه قال، إنه لم يكن مناسباً في مرحلة النضال لإخراج العدو الإسرائيلي أن نطالب بإخراج الحليف السوري. ولكن الخطأ الأكبر والتاريخي الذي ارتكبته القيادة السورية في لبنان أنها لم تبادر، وفي الأسبوع الأول لخروج الاحتلال الاسرائيلي من الجنوب تحت ضربات المقاومة، الى طرح إعادة النظر بشكل وجود قواتها في لبنان، وبشكل تطبيق الطائف. بل فعلت العكس. أنا أريد هنا أن أقول وبصراحة أن القيادة السورية وقد عبر عن ذلك مصطفى طلاس وفاروق الشرع كانت غير متوقعة إطلاقاً إمكانية إخراج احتلال القوات الإسرائيلية من الجنوب اللبناني بفعل المقاومة. مصطفى طلاس قال بأنها هدية كبيرة لا يعتقد أن إسرائيلي تستطيع أن تعطيها للمقاومة. وكأنها هدية وليست هزيمة إسرائيلية بفعل المقاومة. وفاروق الشرع قال في اجتماع مجلس الوزراء في سوريا، وفي اجتماع الجبهة الوطنية القومية، «أقطع يدي إذا انسحبت إسرائيل من لبنان».

ولكنها انسحبت ولم يقطع يده، ولم يقطع لسانه، وما زال يحكي مع الأسف بنفس اللغة التي يجب ان يحاسب عليها. سورية لم تدرك أن هناك تحولاً ما في المزاج اللبناني، الذي احتمل التجاوزات من قِبَلنا، ومن قِبَل سوريا، ومن قبل المقاومة الفلسطينية، إذ لم يعد يحتمل ذلك الآن. ولم يعد يجد مبرراً لهذا الوجود السوري سياسياً وعسكرياً وأمنياً، والذي أدى الى صدور البيان الشهير لمجلس المطارنة، والذي لم يظهَّر على حقيقته، بل بالعكس قوبل ببيانات من «خلية حمد».

ولكن الرئيس نبيه بري قام بمبادرة آنذاك للاتفاق مع المسؤولين السوريين. فجاء الى بكركي وعرض أمرين: الأول موضوع المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وإطلاقهم، والموضوع الثاني جدولة الانسحاب السوري تحت عنوان إعادة الانتشار. مع الأسف، تم إحباط هذه المحاولة التي كانت حلاً. جاء هذا الإفشال من السلطة اللبنانية، وتحديداً من الرئيس إميل لحود، الذي هدد بالاستقالة لكون هذه الأمور جرت من دون معرفته! وكأنما كل شيء يجب أن يمر عبره. ولا شيء يمر عبره لأنه كانت له وجهة نظر معيّنة في طريقة استخدام هذا الوجود السوري لتعزيز المواقع، وليس لبناء وطنية لبنانية تستغني عن الدعم الخارجي. الرئيس لحود أفشل كذلك مبادرة قام بها الشهيد رفيق الحريري، وهي إعادة عون من موقع الكرامة والقوة وليس كما سيجري لاحقاً من موقع القهر للنظام. وأفشل الرئيس لحود أيضاً محاولة لإطلاق سراح جعجع، والتي قمت أنا بها، وجمَّعت رأياً عاماً لتحسين شروط اعتقاله، ثم إطلاق سراحه. أفشل الرئيس لحود هذه المحاولة على أساس وجهة نظر ضيقة هي في النهاية تأبيد الاستفادة من الوجود السوري، بتعزيز نوع من السيطرة متعارض مع التقاليد والتراث  وطبيعة المجتمع اللبناني التعددي والتنوعي والحر، إذا كنت لا تريد القول أنها طبيعة ديمقراطية بالمعنى المتطور لكلمة ديمقراطية.

وحصلت هنا المكابرة من قبل السوريين. وكأنهم أحرار في إعادة انتشار ألف هنا وألفين هناك، في وقت كنا بحاجة جدية إلى إعادة النظر في استراتيجيتين سقطتا بعد أحداث الحادي عشر من أيلول. وقلت لهم بصراحة أنه، بعد أحداث الحادث عشر من أيلول واحتلال أفغانستان والعراق خاصة، لا يمكن استخدام الجنوب مركز ابتزاز واستنزاف لتحرير الجولان. ومزارع شبعا ما هي إلا حجة واهية ومفتعلة لاستمرار الصراع في الجنوب، لأجل استدراج التفاوض السوري الاسرائيلي. الأمر الذي دفعني أكثر من مرة للقول بأننا لسنا بحاجة الى التفاوض. لقد حرّرنا أرضنا من دون تنازلات، فلماذا وحدة المسار التي ستدفعنا الى التنازل بتوقيع سلام مع إسرائيل؟ وهذا ما قلته للرئيس بشار الأسد بأنه ستقع كارثة إذا لم يكن لسوريا أوراق قوة غير الجنوب ومزارع شبعا لتحرير الجولان. وهذا يعني أننا مستندون عليكم. لم يعد هذا ممكناً الآن من بوابة الجنوب، واستخدامه غلط. «فلا أحد يضحك على ذقن أحد». إذن، لا مزارع شبعا، أو القرى السبع، أو أي حجة من هذا القبيل، أخشى معها أن تكون وسيلة لاسقاط الجنوب وبيروت وإسقاط دمشق.

الاستراتيجية الثانية التي سقطت ولم ينتبه لها الإخوان السوريون وآمل أن يطلع هذا الريبورتاج قبل أن يفوت وقتها هي استراتيجية التهديد بالحرب الأهلية في لبنان من أجل ضمان السلم الأهلي، وأن وجود الإخوان السوريين هو الذي يضمن السلم الأهلي! قلت لهم، بعد احتلال العراق، وبعد هذا، فإن «سمكة القرش» الأميركية في البحر المتوسط تبحث عن فريسة ثانية هي لبنان وسوريا. وعلى أساس هذه الاستراتيجية التي سقطت، يتم استدعاء مجلس الأمن، وتستدعي القرار 1566 وليس القرار 1559. ويجري العمل والتحضير الآن في ظل ملابسات اغتيال الشهيد رفيق الحريري وما ستكشفه لجنة التحقيق من مسؤوليات حتى أبسطها من إهمال وتقصير ومحاولات إخفاء للجريمة، إذا لم تكشف المسؤولية المباشرة التي ستظهر لاحقاً.

نعم لبنان هو بقعة الضوء الأميركي والفرنسي والإسرائيلي والأوروبي والعالمي، وبإسم الأمم المتحدة. فعلينا أن نعقل، وليس أن نتعامى، مع الأسف، عن دعوة للحوار، كانت قبل التجديد للرئيس إميل لحود، منطلقة من الفهم للواقع الجديد الذي خلّفته أحداث 11 أيلول وتداعياتها وصولاً الى احتلال العراق، في منطقة من العالم ليس فيها فكر ولا عقل!. لا، لم يؤخذ بتلك الدعوة. بدلاً منها فُرض تجديد بالقوة والضغط، وانتزاع الأكثرية المطواعة وغير المطواعة الممانعة. إنما بالأخير، فإن هاتين الأكثريتين لا تريدان أن تواجهان سوريا. ثم تم اللجوء بعد التجديد الى تصعيب المهمة أمام رفيق الحريري. تم تشكيل حكومة فئوية هدفها فقط القول أن كل الذين تصدوا للتجديد سيتكسّر رأسهم. ثم معاداة وليد جنبلاط بشكل أساسي، وإحاطة الحكومة ببعض التافهين الذين كل هدفهم فقط عزل وليد جنبلاط. ثم شتيمة الحريري وتكسير وقطع الرؤوس إلى آخره من الوزراء والنواب، ومن نائب رئيس المجلس النيابي ومن سواهم. وفي هذا السياق جاءت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ومحاولة إخفاء الجريمة بدلاً من معالجتها بشكل سليم.

وصلنا لحالة أنهم لم يعرفوا كيف يتراجعون إذ أصبحوا أمام الانهيار والتراجع والعسكري الذي لا يضع خطة للتراجع كما يضع خطة للهجوم هو عسكري فاشل وساقط في علم العسكر وعلم السياسة.

كان يجب أن يدرج كيف تتراجع سوريا، وكيف يتراجع الحكم القائم على محورها، منذ يوم أن قال الرئيس علي عبد الله صالح: «يا إخوان تعالوا لنحلق قبل أن يحلقوا لنا». وأنا قلت في دمشق، في الذكرى السنوية لوفاة الصديق عبد الله الأحمد عضو القيادة القومية السابق، يجب ان ندرك عن ماذا يجب أن نتنازل وبماذا يجب أن نتمسك، فنهيّىء أنفسنا لمواجهة جديدة. ولا يجب أن نعتبر دعوة البطريرك الماروني إلى الحوار دعوة ضعف، بل العكس هي حالة كرم تمتد في ظل إدراكه لمسؤولياته الوطنية والقومية. وقلت لماذا تنظرون للديمقراطية على أنها عقوبة أميركية، بينما هي سلاحنا الأفضل في مواجهة أميركا والتدخل الخارجي؟

مع الأسف كل دعوة العقل هذه ذهبت، وصرنا أمام واقع كارثي، الواقع الذي لا يعرف المعني به كيف يتراجع ويحمي نفسه، سينهار. وقد جرى أول انهيار.

آمل أن تعرف سوريا، والحكم الذي بُني على قوتها في لبنان، كيف تتراجع الآن حتى لا تنهار ليس فقط في لبنان، بل حتى لا تنهار في سوريا نفسها، لأنني لست من أنصار إسقاط هذا الحكم في سورية. هذا الحكم العلماني، الذي يأتي على أنقاضه كل طائفي ومذهبي وإخوان مسلمين. وسيدفع اللبنانيون ثمن ذلك غالياً، ومسيحيو لبنان خاصة وديمقراطيو لبنان وغيرهم. فمن موقع حرصي على وحدة لبنان، وعلى إغلاق لبنان على التدخلات الخارجية، وعلى التعاون اللبناني السوري، أدعو السوريين الى معرفة كيف التراجع حتى تبنى علاقات تحالفية حقيقية لاحقاً.

ليس صحيحاً أن اللبنانيين لا يستطيعون ان يحكموا أنفسهم، وإنهم أمام خيارات وحيدة هي أن تحكمهم سوريا أو إسرائيل أو أميركا. اللبنانيون حرروا أرضهم، وسوريا لم تحرر أرضها بعد. اللبنانيون طلائعيون في العروبة ، والعرب الآخرون قدّموا تنازلات وصلت الى التنازل عن سيادتهم وقرارهم الوطني مقابل استعادة بعض أرضهم. واللبنانيون عريقون في الديمقراطية. وليس صحيحاً أن هناك خطراً في خروج سوريا من لبنان، وأن ذلك سيحدث عدم استقرار. بالعكس استمرار الصيغة السابقة من الوجود السوري ومن استخدام الجنوب سيكون مدعاة لإعادة العامل الاسرائيلي والأميركي والأوروبي الى الساحة اللبنانية. هل تريدون إقفال لبنان أمام العوامل الأميركية والأوروبية والإسرائيلية؟ اخرجوا.

نحن نريد علاقات من نوع جديد، على قاعدة وطنية لبنانية وليس حكم سوريا للبنان، ولا استبداله بحكم أميركي اسرائيلي.

وبثقة أقول إن مسيحيين لبنان، وأنا لا أنطق باسمهم، فأنا علماني ومقاوم وأكثر ما أكون الى جانب سلاح المقاومة، إن مسيحيين لبنان جرّبوا العلاقة مع اسرائيل وفشلوا وعادوا عنها. وهم مدركون ان اسرائيلي عدو، وأن هناك إجماعاً لبنانياً على العداء لإسرائيل. لماذا يصر البعض على تصوير أنه لا يزال لإسرائيل مواقع في الساحة اللبنانية، وهم يحاولون تبرير سياسة العلاقة الغلط بيننا وبين سوريا بالقول إذا خرجت سوريا تدخل إسرائيل؟ إذا بقيت سوريا بقيت إسرائيل، بمعنى الدخول المجتمعي وليس فقط الدخول العسكري.

—————————–

(*) المصدر: مجلة الفكر التقدمي العدد 21