جسد الأمة.. وأجساد أبنائها

غازي العريضي (الاتحاد الاماراتية)

لا تدري وأنت تتطلع إلى واقع منطقتنا عند أي أمر أو حدث أو قضية تتوقّف لتحلّل أو تكتب أو ترصد، وكيف تبرمج أولوية تفكيرك وتركيزك. كل المنطقة مشتعلة. كل العناصر متداخلة ومتشابكة بعضها مع بعض. كثيرة هي التناقضات في العلاقات والتحالفات، كثيرة هي التباينات والخلافات والقراءات بين الأصدقاء والحلفاء. نحن جزء من حالة الضياع الدولي العامة. الثابت الوحيد: النار تأكل كل شيء عندنا. ونحن نصب الزيت عليها ممزوجاً بكل مواد الحقد السامة والمتفجرة وعناصر الجهل والخفة والولع باللعب بالنار! إلا أنني اليوم أتوقف عند واحدة من النتائج الخطيرة لما تشهده المنطقة منذ سنوات. كتبت عنها أول مرة معتقداً أنها محصورة بفلسطين. تناولت في مقالات وكتب سابقة جانباً من جوانب الإرهاب الإسرائيلي والاحتقار الإسرائيلي لأبناء الشعب الفلسطيني، وتجاوز كل القوانين الدولية وأخلاقيات مهنة الطبّ، والقواعد الإنسانية في التعاطي، وذلك من خلال استخدام أجساد الأسرى الفلسطينيين حقول تجارب لشركات الأدوية الإسرائيلية، أو من خلال سرقة أعضاء من أجساد المرضى الفلسطينيين الذين يعالجون في المستشفيات الإسرائيلية، أو افتعال عمليات أو استغلال عمليات معينة لسرقة أعضاء وبيعها وزرعها في أجساد مواطنين إسرائيليين! هي فضيحة بكل ما للكلمة من معنى وخروج عن كل الأخلاقيات والسلوكيات المحيطة بمهنة الطب. مات عدد كبير من الفلسطينيين بسبب هذه السياسة. ولم يتمكن أحد بل لم يبادر أحد أصلاً إلى إدانة إسرائيل وفضحها باستثناء كتابة ونشر معلومات من وقت لآخر من قبل أهالي من تعرضوا لمثل هذا الاعتداء غير المسبوق.

لاحقاً، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق راجت عملية بيع «كُلى». وفتحت مكاتب سمسرة في عدد من الدول العربية، والسبب هو الحاجة والفقر في إحدى أغنى الدول! نعم بدأت العملية. بيع «كُلى». استغلها تجار يشترون الكلية بمبلغ معين، يأتون بالمريض إلى مكان ما. تجري عملية في جسد مريض آخر، وهكذا دواليك حتى أصبحنا أمام شبكة متكاملة العناصر من «مرضى» وهميين، أو أشخاص صحتهم جيدة، ولكن الفقر دفع «التجّار» إلى إقناعهم ببيع «الكُلى»، وانضم إليهم سماسرة وأصحاب «علاقات واسعة»، هنا وهناك لديهم خبراتهم وممارساتهم، ومراجعهم «الطبية» ومراكز الاستشفاء الخاصة المعروفة وغير المعروفة!

اليوم، جاء دور سوريا. عدد من أبنائها باع «كُلاه». بعض منهم عرض بيع أجزاء من الكبد أو الرئة لمواجهة البؤس المعيشي! المأساة السورية دفعت الناس إلى بيع قطع من أجسادهم. فتحت صفحات على «فيسبوك» لتسهيل عمليات التواصل وإدارة لعبة البيع أو مهنة البيع. باتت مواقع التواصل الاجتماعي، مواقع التفكك الاجتماعي والتفكك الجسدي من خلال بيع أعضاء أو جزء منها، وبالتالي التعامل معها وكأنها قطع غيار! ثمة من راجع مؤسسة «فيسبوك» فكان الجواب: «العروض عبرنا غير مخالفة لمعاييرنا، فهي لا تحرض على العنف ولا تنشر صوراً غير لائقة»، لكنها تقوم بأعمال تبرّر«تقدمها» و«وتفوقها»! إنها تساهم في الإتجار بالبشر وأعضائهم بكل بساطة. عملية تدميرية لمجتمعات وليس عملية جراحية! هي عملية «جرحية» و«جرمية»! وقد كشفت منظمة «الأونروا» أن معدل الفقر والحرمان في سوريا ارتفع إلى 82.5% في نهاية 2014 بعدما كان 64.8% في 2013، وهذا أدى إلى ظهور «العصابات المجرمة العابرة للحدود إلى حيز الوجود للإتجار بالبشر»! كما ورد في تقرير المنظمة. إنه إتجار بالجملة بالبشر، وإتجار بالمفرق بأعضاء أجسادهم.

وفي آخر المعلومات، بروز هذه الظاهرة في لبنان، وتحديداً في مخيم البداوي في الشمال، حيث نظم فلسطينيون تحركات واعتصامات احتجاجاً على تقليص خدمات «الأونروا»، وتفاقم الأزمة الاجتماعية في صفوفهم، الأمر الذي دفع بعض أبنائهم إلى اختيار طريق أقرب إلى الانتحار، عندما لجؤوا إلى بيع أعضائهم، ومنهم ابن مخيم نهر البارد الفلسطيني محمد موعد الذي أعلن استعداده لبيع كليته لدفع بدل إيجار متأخر لمنزله أربعة أشهر!

وإذا استمرت الأمور على هذا المنوال، وهي ستستمر وللأسف، فإننا سنشهد حالات مماثلة في مصر والسودان والصومال وليبيا واليمن وأماكن أخرى، وربما هي موجودة لكننا لم نعلم بها، ولم يسلّط الضوء عليها.

أغنى الأمم، وأقدر الأمم. «وخير» الأمم. أصبحت أمة يتفكك جسدها فتتفكك دولها ومؤسساتها وأجساد أبنائها. تباع كقطع الغيار بالمفرق في السوق السوداء أحياناً وفي الأسواق «الحرة» عموماً. أمة يدفن أبناؤها أحياء، أو يغرقون في البحار. تلفظهم أمواجها على الشواطئ. تتناثر أجسادهم أشلاء بالمتفجرات والبراميل والقذائف البعيدة المدى والمتطورة. أمة يقطع بعض أبنائها رؤوس «إخوانهم». يبيعون نساءها، وتسحب أنظمة بلعوم هذا أو ذاك لأنه قال كلمة أو أنشد نشيداً، وتقطع لسان آخر للسبب ذاته، وكل ذلك باسم الدين والديموقراطية والحرية وهي ممارسات لا تمت بصلة إلى الدين أو الديموقراطية والحرية. عيب على العالم والعرب. عار على العالم ما نراه!