حراك الشارع وجمود الواقع

عرفان نظام الدين (الحياة)

لا يختلف اثنان على أن حراك «الربيع العربي» ألقى أحجاراً عدة في المستنقع الراكد وحرّك مياهه الآسنة لتفوح رائحتها الكريهة. لكنه لم يستطع تصريفها وفتح قنوات مياه عذبة تجري لتنظيفها وتكسر جمود الواقع المتحجر والمتجمد من تراكمات قرن من زمان التخلف والقهر وانتهاك حقوق الإنسان.

فمن المعيب أو المجحف اتباع سياسة الإنكار ورفض الاستماع إلى صوت الشعب ومطالبه المحقة في ظل الأوضاع المزرية التي يعيشها على مدى السنين، ما أدى إلى خراب البلاد وضياع العباد بين الفقر والذل والعيش بلا أمل وصولاً إلى ما شاهدناه مباشرة من فصول رحلات العار للهجرة إلى أي بلد في العالم وركوب أمواج الأخطار مهما كلّف الأمر، ولو أدى إلى الموت غرقاً في سبيل الوصول إلى شاطئ أمان يمنحهم الدفء والحد الأدنى من متطلبات الحياة الكريمة والحريّة والحقوق.

أمام هذا الواقع، لا مجال لمعارضة المطالب الشعبية ورفض الاستماع إلى صرخات المعذبين وأنين الأطفال، مهما كان السبب وأياً كانت الجهة التي تسببت بهذه المآسي العربية الدامية التي يُندى لها الجبين، فتسيل شلالات من الدم وتسير أنهار من الدموع وجبال من الأسى والألم والخجل من واقع مؤسف ليست فيه بارقة أمل.

ومهما كانت التسميات، «ربيع» أو «انتفاضة» أو «حراك شعبي»، فقد تعددت الأسباب… والمطالب واحدة تتلخص بكلمات بسيطة تنطلق من أبسط مبادئ حقوق الإنسان: حرية وكرامة، مشاركة وأمل، لقمة عيش كريم وفرص عمل، ومتطلبات الحياة الأساسية من تعليم وغذاء ودواء وماء وكهرباء. ولو لم تقع الاحتجاجات بالأمس، لكانت ستقع غداً أو في أي يوم لأن كل هذه الأمور مفقودة ولأن ما بُني على باطل فهو باطل.

والأسوأ من صمّ الآذان والإنكار، اعتبار الحل الأمني هو الوسيلة الوحيدة لوقف الاحتجاجات التي تحولت في بعض الدول حروباً مدمرة، أو وسيلة لقمع الشعوب ووقف انتشار التطرّف والتعصب لأن الإرهاب هو أحد منتجات الواقع، مع عدم إنكار عوامل التدخلات الخارجية والأسباب الأخرى، وهي متعددة، وأبرزها الجهل وسوء التوجيه وعدم فهم تعاليم الدين الإسلامي وقيمه الإنسانية ودعوته الوسطية ورفضه العنف والبغي والإكراه وقتل النفس البريئة.

ومع الاعتراف بكل هذه العوامل، لابد من التحذير من الانحراف عن الأهداف المشروعة والاتجاه إلى العنف والاعتداء على رجال الأمن الذين يقومون بواجباتهم في تنفيذ القانون وحماية المواطنين والأملاك العامة والخاصة. فقبل أيام، كنت في جلسة حوار مع مجموعة من الشبان المتحمسين للإصلاح ومحاربة الفساد وتغيير الواقع المرير، وغلبت الحماسة بعضهم ليطالب بهدم الهيكل واللجوء إلى كل الوسائل الممكنة.

وبعد الاستماع إلى وجهات النظر، قلت إنه ما من أحد يعارض المطالب المحقة، لكن الخلاف يدور على هذه الوسائل ومداها وعواقبها ووجوب تغليب العقل على العواطف والأخذ بالحسبان الحساسيات والخصوصيات الطائفية والمذهبية والعشائرية والحزبية في كل بلد على حدة. فأزمة النفايات في لبنان مثلاً، لم تكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير لأنها جاءت بعد تراكم الأزمات والصراعات الداخلية والخارجية وحال الجمود والشلل المستمرة منذ سنوات، لكن ما جرى في الحراك، ومن قبله في دول «الربيع» أدى إلى نتائج عكسية لأسباب عدة منها:

– غياب التخطيط، ومعه خريطة طريق، للحراك ومطالبه ووسائل التنفيذ ومراحله وتحديد السقف الواضح الذي سيجري الذهاب إليه بعدما تابعنا مسيرة التنازلات، من إسقاط النظام إلى إسقاط الحكومة ثم إلى استقالة وزير مغلوب على أمره والإفراج عن موقوف، فيما تصاعدت المطالب في دول الربيع من الحرية إلى إسقاط النظام لتبدأ بعد أقل من خمس سنوات تنازلات متلاحقة.

– عدم وجود تنسيق أو توافق بين مختلف الأطراف والفئات المشاركة وسط ضبابية مواقف وتنافس في المزايدة وخلافات على الظهور بمظهر قادة الحراك الشعبي. وتكرر المشهد في شكل أخطر في دول «الربيع»، ما تسبب بمصائب نتيجة الصراعات بين الأطراف المدنية الهامشية والعسكرية الناشطة في الميدان أفرزت عشرات الفصائل المسلحة المتباينة الأهداف والمشارب والأهواء.

– السماح للمندسين والانتهازيين بالدخول على خط الحراك وعدم ردعهم واستنكار ممارساتهم. أما في دول «الربيع»، فقد تم أولاً السماح بالعسكرة، ومن ثم التساهل في تسلل التنظيمات الإرهابية، ما أدى إلى تشويه صورة الثورة وكبح انطلاقتها، والإساءة إليها وإلى الإسلام بارتكاب ممارسات وحشية، من ذبح وإعدامات وهدم الآثار والمواقع الحضارية.

– عدم إعلان الالتزام باحترام الدستور والقوانين التي تحمي حياة المواطن وحقوقه مهما كانت الاعتراضات على بعض البنود، وهذا هدف يمكن تحقيقه بالنضال السلمي وليس بالعنف والغوغاء من باب الحرص على ما تبقى من أوطان وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعدما عادت عشرات السنين إلى الوراء وعمّ الدمار والفقر والجهل واليأس.

فقد مرت أجيال متلاحقة، قبل الجيل الحالي، بأزمات مماثلة، لكنها لم تكن تملك تلك الإمكانات المتاحة حالياً له لإيصال صوته، عبر البث الفضائي المباشر ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت اليوم المحرك الأول لأي حراك، مع التحفظ عن بعض الممارسات المنفلتة عن أي رادع وعلى بعض الإعلام الذي يلجأ إلى التضليل وتأجيج الفتن لغايات خبيثة أو للرغبة في الإثارة وتحقيق نسب إقبال أكبر يتباهى بها أمام منافسيه.

ولهذه الأسباب، يحتاج الجيل الثائر إلى الاستماع إلى نصائح المجربين والحكماء ليستدل على طريق الخلاص:

نظموا صفوفكم ووحدوا تحرّككم وانبذوا الخلافات والفتن، ولا تسمحوا للمندسين والمغرضين بالتسلل إلى ساحاتكم لحرفها عن مسارها. ولا تنجروا إلى العنف والتمادي في استخدام الشتائم البذيئة والاتهامات العشوائية، وحافظوا على الحراك السلمي الذي سيعطي نتائج أفضل وثماراً طيبة. فزعيم الهند المهاتما غاندي كان يمكن أن يدمر بلاده ويفني شعبه لو لجأ إلى العنف والعسكرة، لكنه تزعم حركة التمرد السلمية في وجه الإمبراطورية في عز جبروتها، فحقق الاستقلال وفتح الطريق أمام الأجيال لبناء دولة قوية ديموقراطية.

ولو لجأ نيلسون مانديلا إلى الثأر والانتقام بعد سنوات عجاف من السجن والعذاب، لتعرض شعبه من أبناء جنوب أفريقيا الأصيلين إلى الهوان والاضطهاد والتمييز العنصري من جانب المستوطنين البيض الذين كانوا يمسكون بكل المقاليد من حكم وسلطة ومزارع، بمن فيها من المواطنين السود. لكن الزعيم الحكيم آثر أن يلجأ إلى نهج التسامح والعفو وتحرير بلاده وشعبه في ظل نظام يقوم على المساواة والعدالة والديموقراطية، ما أدى إلى إنقاذ بلاده من حرب مدمرة وانهيار كامل ومذابح لا تنتهي، وتحويلها بالنضال السلمي إلى دولة قوية اقتصادياً وسياسياً.

والأمثلة كثيرة وتصب كلها في مقولة: العنف يولد العنف وتسلط الرعاع يؤدي إلى الدمار، وأن السلام هو الطريق السليم المؤدي إلى الإعمار. ولهذا، لابد من أن يعمل الجميع بقول الله عز وجل: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»، مع وجوب تحديد الأهداف والمطالب المتاحة، وفقاً لمبدأ «إذا أردت أن تطاع، فاطلب المستطاع»، حتى لا تؤدي المبالغة إلى تنازلات وتراجعات وخيبات أمل.

ولمناسبة الحديث عن هذه الحالات، أذكر مقولة ساخرة أطلقها الأديب والسياسي اليمني الراحل محمد أحمد نعمان تعبّر عن مرارة الواقع الذي عاشه بنفسه. فقد كان نعمان من أنصار الثورة اليمنية ضد حكم الإمام البدر، وتولى مناصب رفيعة خلال حكم الرئيس الراحل عبدالله السلال، أول رئيس للجمهورية، والذي كان مدعوماً بقوة من الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر الذي كان أرسل قوات مصرية إلى اليمن لمساندة الجمهوريين ضد الملكيين، لكنه تسبب بكارثة للجيش المصري خلال الحرب التي استمرت سنوات.

وبعد فترة مضطربة، اختلف السلال مع نعمان وقادة آخرين، وأرسلهم إلى مصر ليسجنوا هناك ويمضوا في الزنازين فترة من الزمن من دون أن يسمح لهم السجان بالذهاب إلى الحمام لقضاء حاجتهم، رغم كبر سنهم. وعندما أطلق سراحهم، أطلق نعمان مقولته الشهيرة :»كنّا نطالب بحق القول، فصرنا نطالب بحق البول»!

ومع هذا القول المعبر عن كم التنازلات وخيبات الأمل وحجم التنازلات في المطالب المحقة التي لا يحق لأي ظالم أن يمنعها عن المواطن المسكين الراغب في العيش الكريم والحرية التي لا حياة من دونها ولا كرامة، ومهما طال الزمان، فإن لكل ظالم نهاية ولا يضيع حق وراءه مطالب. ولم أجد كلمة أختم بها إلا صرخة تحدٍ على لسان الشاعر العربي (العراقي) الكبير الراحل محمد مهدي الجواهري في إحدى قصائده: «باقٍ وأعمار الطغاة قصار».