تاريخ اليمن له تاريخه

د. قصي الحسين

في كتاب رئيس وزراء اليمن السابق ووزير خارجيتها لفترة طويلة في الستينيات من القرن الماضي: “خمسون عاماً في الرمال المتحركة”، قصتي مع بناء الدولة الحديثة في اليمن، والذي أصدره صاحبه عن دار النهار في العام 2000، يقول الأستاذ محسن العيني، مستذكراً: “ولدت في بداية الثلاثينيات في قرية الحمامي التي تبعد نحو خمسة عشر كيلومتراً عن صنعاء، كنت الخامس بين سبعة من الأخوة. في السن السابعة توفيت الأم ثم الأب ثم الأخ ألأكبر. ومن رعي الأغنام، إلى أكل الحبوب العفنة، ومذاق الرمل أهون من مذاقها، إلى الجفاف والمجاعة، انتقلنا إلى قرية المساجد التي لا تبعد عن صنعاء كثيراً. والتحقنا كأسرة بمكتب الأيتام، التي أنشأها الإمام يحي، وشاركنا في تشييع المئات من الموتى، ضحايا الجوع والأمراض والأوبئة. وشاهدنا من مكتب الأيتام المجاور لقصر غمدان، ترحيل الأستاذ الزبيري وأبو طالب إلى المعتقل في الأهنوم، وكانا من طلائع الأحرار المعارضين للإمام.

كانت صنعاء محاطة بالأسوار. تقفل أبوابها السبعة عند الغروب حتى الفجر. تعيش في ظلام دامس. وحدها دار الشكر ودار السعادة، حيث يعيش الإمام وأسرته ودار الضيافة، تضاء بالكهرباء من مولد صغير. شوارعها غير معبدة ولكنها نظيفة. أصحاب الحوانيت ينظفون أمام دكاكينهم ويرشون الماء مانع الغبار. لا فنادق ولا مطاعم في صنعاء، بل “سماسر” متواضعة للمسافرين مع دوابهم. والسيارات محدودة. الراديو غير موجود. كانت صنعاء عالمنا وحدها. والخارج هو عدن وجيبوتي وبر السودان ومصر والعراق. وحتى الحرب العالمية الثانية لم يكن يسمع بها أهل صنعاء بل أهل اليمن جميعاً. وكان يختفي الكبريت أو الكاز الذي يستخدم للإضاءة بحجة أن البحر مغلق. وأما المدرسة المتوسطة فقد افتتحت لأول مرة تحت إشراف وزير المعارف سيف الاسلام عبدالله الذي أقنع والده وأسرته بضرورة نشر التعليم واستقدام المدرسين. وإرسال البعثات التعليمية إلى المعاهد العربية.

yemen

وكان الناس يسمعون كلمات: الظلم والطغيان والاستبداد والحرية والتعليم والإصلاح والعدل، وعندما وصل وفد أميركي برئاسة الكولونيل إدي، أهدى إلى الإمام يحيى محطة إذاعة صغيرة، كنت نواة إذاعة صنعاء.

وأول بعثة علمية للتلاميذ تشكلت سنة 1947. تم اختيار أربعين طالباً من مدارس صنعاء وذمار والحديدة وتعز للدراسة في لبنان. وقد سمح للبعثة بمواصلة السير إلى عدن، حيث نزل الطلاب في مدرسة أبناء أمراء المحميات وحكامها وكان طلابها في عطلتهم الصيفية. وتعرفوا إلى دور السينما لأول مرة (فيلم عنترة وعبلة) وشاهدوا أنوار الكهرباء طوال الليل. والسيارات تسرح وتمرح في شوارعها المعبدة، بعد معاناتهم من الظلام الدامس في صنعاء وتعز والحديدة وسائر مدن وقرى اليمن الشمالي.
وكانت صورة الطالب المصري في أذهان البعثة هي المثال. طالب التلاميذ بالطربوش. فوعدهم ممثل الإمام به فور نزولهم من الباخرة في السويس حيث يسلمه لهم ممثل السفارة اليمنية. وتحركت السيارات إلى القاهرة. وحسب التلاميذ زجاجات الكوكاكولا التي قدمت لهم زجاجات خمر. وقد ركبوا القطار إلى صيدا عبر فلسطين. وكان آخر قطار. وقد توقف القطار مرات في الطريق، بسبب وجود بعض المتفجرات. وكانوا يقولون إن اليهود اليمنيين هم الذين يحاولون وضعها.

ويقول محسن العيني: “كان علينا أن نعيش مأساة فلسطين من أولها. فقد كانت صيدا قريبة من الحدود”. وأن افواج اللاجئين كان يهتم بها الأستاذ معروف سعد، المسؤول عن القسم الداخلي في كلية المقاصد. وسمعنا عن فوزي القاوقجي وجيش الانقاذ. وبدأ اليمنيون العاملون في فلسطين ولبنان يترددون علينا، وينضمون لجيش الانقاذ بقيادة القاوقجي. وكانت نشرات الأخبار تتحدث عن انتصارات الجيوش العربية على العصابات الصهيونية، وعن الغارات الجوية التي تقوم بها الطائرات العربية التي تعود دائماً إلى قواعدها سالمة. وحتى الإذاعة المدرسية في كلية المقاصد كانت تشارك في إثارة الحماسة. وكانت بعهدة الدكتور محمد المجذوب ويذكر العيني: “وقد حصلنا على شهادة الابتدائية وتسلمناها في احتفال كبير حضره الرئيس رياض الصلح”

وفي شباط/ فبراير 1948، اغتيل الإمام يحيى واثنين من أبنائه وبعض أحفاده. وأعلن الميثاق الوطني المقدس، وحكومة الدستور وإمامة السيد عبدالله الوزير.واهتزت اليمن والعواصم العربية. وتوجه وفد من الجامعة العربية إلى الرياض، في طريقه إلى صنعاء، حيث طال انتظاره هناك. وأعلن الأمير أحمد ولي العهد إمامته على اليمن باسم الناصر لدين الله. وتمكن من تأليب القبائل للثار من قتلة أبيه “الشيخ المسن”. وأباح لهم صنعاء، فحاصروها واقتحموها ونهبوها واعتقلوا رجال الحركة، وساقوهم إلى مدينة حجة، حيث قطعت رؤوسهم الواحد بعد الآخر. وقد سحبت البعثة من لبنان لنـزول الزبيري من الرياض إلى بيروت. فكان أن رحلت إلى بني سويف في صعيد مصر، فحلوان في ضواحي القاهرة. وأخذ أفراد البعثة هناك يتطلعون إلى العمل السياسي. وبدأ التمرد على رئاسة البعثة وعلى السفارة وعلى الحكومة. وعلى كل نظام حكم يسبغ على نفسه صفة القداسة.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث