اللغةُ العربية واللغات الأجنبية ومستقبل الأمة

د.ناصر زيدان

منذ صدور تقرير منظمة التربية والثقافة والعلوم التابعة للأُمم المتحدة “اليونسكو” في العام 2006، وذكرت فيه أن لغات عديدة في العالم مُهددة بالانقراض، ومنها اللغة العربية، تسارعت المساعي من قبل الجامعة العربية، ومن وزارات التربية والثقافة في عدد من الدول العربية، ومن بعض الجامعات والهيئات العلمية والفكرية، لعقد الاجتماعات العلمية، والمؤتمرات بهدف تعزيز مكانة اللغة العربية، والدفاع عنها، ووقف مسار الانحدار الذي تسلكهُ جراء الاهمال الذي تواجهه، وسط أجواءٍ من الارتباك و الضياع والفوضى على الساحة العربية، لا سيما في الوسط الثقافي والعلمي.

عُقد ما يزيد عن 13 مؤتمراً مُتخصصاً منذ العام 2006، في عدد من الدول العربية، بهدف تدعيم اللغة العربية في مواجهة تحديات العصر، لا سيما التحديات التقنية. كان آخر هذه الاجتماعات مؤتمر “اللغة العربية وتحديات البقاء” الذي عُقد في القاهرة في 8 و 9 نيسان 2015، بدعوة مُشتركة من مُجمَّع اللغة العربية والمعهد العالمي للفكر الاسلامي.

أبرَزَ المؤتمر وقائع مُخيفة عن تراجع إستعمال اللغة العربية في عدد من الدول العربية، وأصدر توصيات تؤكد على ضرورة تكثيف تدريس اللغة في المدارس والجامعات، ووقف ثقافة الانبهار بمصطلحات اللغات الاجنبية، وإستخدامها مُجتزأة، لا سيما منها الانكلوفونية.

لا يبدو أن المقصود من توصيات ذاك المؤتمر، وغيره من الندوات العلمية المُتخصِصة باللغة العربية إقفال النوافذ والأبواب أمام تعلُّم اللغات الاجنبية، خصوصاً الانكليزية والفرنسية، بل العكس فقد عكست توصيات معظم هذه الحلقات أهمية الانفتاح على تعلُّم اللغات الأُخرى، ولكن ليس عن طريق اهمال اللغة الأم.

اللغةُ ليست وسيلة تواصل بين الناس فقط، إنها تعبير عن حضارة وتاريخ وتراث، فمثلاً: القمر بالفرنسية “مؤنت” والشمس “مُذكر” بينما في العربية على العكس. والشعوب والامم غالباً ما تُسمَّى على إسم لغاتها، كالعرب نسبة للُّغة العربية، والفرنسيين نسبة للغة الفرنسية، وغيرهم كذلك.

واللغة العربية تتمتع بميزة إستثنائية، لكونها لُغة القرآن الكريم، ومن أحرفها العربية نشأت العديد من اللغات الأخرى، كالفارسية، والطورانية والافغانية….

قديماً قِيل: “ما ذُلَّت لغةُ شعب إلاَّ وذلّ”، والشاعر والمفكر العربي “أدونيس” قال: إذا ما إندثرت لغةُ العرب، إندثرت حضارتهم.

مجموعة من التحديات الوجودية تواجهُ اللغة العربية، لا يُمكن إهمالها، أو القفز فوقها، وهي بالتأكيد ستؤدي إلى تراجع مُخيف في مكانة هذه اللغة.

أولاً: إن إعتبار اللغة العربية، لغةُ للدين والقرآن فقط، وهي لا تتلاءم مع تطور التقنيات العلمية والعالم الرقمي، فرضية خاطئة، ومَن يروِّج لهذه المُقاربة، لا يمتلك الحس القومي. وعلى العكس من ذلك، فإن العربية كانت لُغة الطب والفيزياء والرياضيات وعلم الفلك، وهي تحتاج لبعض عمليات التحديث، لتعود إلى مكانتها المُتقدِّمة، عن طريق إستحداث إبتكارات، وتطوير بعض الشكليات والمفاهيم التي لا تتعارض مع جوهرها، وتلك الخطوات حصلت مع لغات علمية عديدة تستخدم الاحرُف اللاتينية، ومنها الفرنسية والانكليزية.

ثانياً: إن تغييب اللغة العربية بالكامل عند الاغلبية الساحقة من الجامعات الخاصة في الدول العربية، مؤشِرٌ مُقلِق، ولا يعني ذلك إرتفاع في مكانة هذه الجامعات أبداً، لأنه يُشكِّل خطراً كبيراً على مُستقبل لغة الامة، ويحطُّ من مكانتها بين اللغات الأُخرى، وقد يؤدي إلى خسارة الاثنين معاً.

ثالثاً: لعلَّ المطلوب الاستفادة من تطور الحضارات الأُخرى، ولغاتها. بل إن تعلُّم اللغات الاجنبية ضرورةٌ علمية، فألإمام علي بن أبي طالب قال: “من البلاغةِ ان تُخاطب كُل قومٍ حسبَ ما يفهمون”. ولكن أن يصِل الأمر ببعض هذه الجامعات إلى إتلاف مخزونات رفوف مكتباتها من الكتُب باللغة العربية، وإستبدالها بكُتب باللغات الأجنبية، ذلك يُشكِّل طعنةً للغة الأُمة، وإنحدار إلى مُندرجات مُتدنِّية لا تخدم مُستقبل القيمين على هذه الجامعات أنفُسهم.

رابعاً: ليس للعامية قاعدة يمكن أن تستند عليها – لا سريانية، ولا فينيقية – بل إنها مُجرَّد لهجاتٍ محلية تداوي الخطأ بالخطأ، والمطلوب التخفيف من إستعمالها ما أمكن، خصوصاً أن بعض الأسماء والكلمات بدأت تُكتب كما تُلفظ، وذلك دخولٌ غير مُستحب في مجهول لا يُعرفُ أين يمكن أن يصل في المُستقبل.

إن المُسارعة إلى نعي اللغة العربية من قبل المُنبهرين بالنموذج الغربي، خطأٌ مُميت، وهو نعيٌ غير مُباشر للأُمة. ومَن يفترض أنه يستطيع بناء حضارة بلُغةِ غيره، فهو واهم، بينما تعزيز مكانة اللغة العربية في الوسط الاجتماعي والعلمي وفي ميادين الإنتاج والأعمال، هو الحل، مع مواكبتهِ بالترجمات التي تستفيدُ من الإنجازات الأجنبية، وتُفيدها في آنٍ واحد.

لقد رفض الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إلقاء خطابه أمام الجمعية العامة للأُمم المتحدة إلاَّ باللغة العربية، وبُذِلت جهود جبارة لفرض العربية لغةٌ سادسة مُعترف بها في أروقة الأمم المُتحدة. فالمسؤولية القومية مُلقاة علينا جميعاً للحفاظ على لغة الامة، وأن نتجنَّب المساهمة بسقوطها من دون أن نربح اللغات الأُخرى، وذلك قبل فوات الأوان.