ما بعد… بعد سورية

زهير قصيباتي (الحياة)

لم تعد المسألة في لبنان أيُّهما إرهاب: التكفير أو التخوين، أم كلاهما، والتفجير المزدوج في ضاحية بيروت أمس، يعطي لحديث الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله دلالاته الكاملة، التي لا تخرج عن دائرة المأزق. ولم تكن عابرة إشارته إلى مد اليد لكل اللبنانيين لأن المعركة «مصيرية»، لذلك على فريق 14 آذار أن يساهم في الإنقاذ وعلى فريق 8 آذار أن يفتح قلبه وعقله، ويتنازل، بالأحرى يتحلى بـ «المرونة». أليس هذا ما تعكسه التشكيلة الوزارية لحكومة «المصلحة الوطنية»؟

يذكر كثيرون أن فريق 8 آذار هو الذي شنّ حملة استباقية مع بدء تورط «حزب الله» في القتال داخل سورية إلى جانب قوات النظام، مكرراً اتهامه لتيار «المستقبل» بالضلوع في بيئة حاضنة للتكفيريين. وما دام هؤلاء هم العدو الأول الآن للبنان، كما يُفهم من حديث السيد نصرالله، كيف لفريق 8 آذار الانعطاف 180 درجة إلى شراكة أو حكومة مصلحة وطنية مع الذين اتُّهِموا بحماية ظهر ذاك العدو؟ وهل يبرر القلق على انتخابات الرئاسة اللبنانية وحده، تنازلات يصر «حزب الله» على أنها من بنات الخيال، فيما نصرالله يعلن «ما زلنا أقوياء» في لبنان والمنطقة ويبشّر بالنصر على الداء التكفيري؟

ما حصل في الضاحية واستهدف مجدداً الحضور الإيراني في لبنان، يُظهر أولاً أن لا علاقة للتفجيرين اللذين أوقعا شهداء، بمسار التشكيل الحكومي، أو مفاعيله الداخلية… بل ان التفسير الإيراني للحادث يميل إلى السذاجة في افتراض أن قبول معزوفة الأصابع الإسرائيلية والرد على تشكيل حكومة تمّام سلام (كأن نتانياهو سيُعلن الحرب عليها)، سيلقى سهلاً رحباً في عقول اللبنانيين ولدى القواعد الشعبية لـ «حزب الله».

وبعيداً من الغوص ايضاً في المبررات التي اعتبرها «تيار المستقبل» كافية ليقلب الصفحة أو يغيّر المسار 180 درجة، بعد استشهاد محمد شطح، وبصرف النظر عن واقعية طروحات تضرُّر القاعدة الشعبية لـ14 آذار بسبب ذاك التحول، وقبول المشاركة في حكومة مع الفريق الآخر… بعيداً من كل ذلك، لا يمكن إنكار حجم المرونة التي تحلّى بها «حزب الله» وتغنّى بها السيد حسن نصرالله. والسؤال الذي يُدرك جوابه تماماً، هو أن حكومة المصلحة الوطنية وحدها ليست كافية ولن تكون الأداة السحرية لتعطيل القنابل البشرية الجوّالة.

يعود «حزب الله» إلى معادلة المقاومة دفاعاً عن حدود لبنان، والأمن للجيش والقوى الأمنية اللبنانية، في مرحلة لا يقوى فيها أحد على خنق أشباح التكفيريين الانتحاريين، ولا على التمييز بين «عبدالله عزّام» و «جبهة النصرة» و «القاعدة». وإذا كان صحيحاً ما قاله السيد حسن من أن هؤلاء يستهدفون كل اللبنانيين، فالصحيح كذلك أن ما استدرجهم هو الانزلاق إلى وحول الحرب السورية وكوارثها، في صف نظام متهم بمصادرة اسم طائفة، حليفه الإيراني أيضاً متهم بمصادرة حق ادعاء الوصاية على الشيعة في العالم العربي، وحمايتهم. أبعد بكثير من مسألة الاستحقاق الرئاسي اللبناني والخوف من الفراغ الذي بات شبه مزمن في الحياة الدستورية اللبنانية، أن ينحو «حزب الله» إلى التهدئة في الداخل. فالجبهة السورية المترنّحة تحصد ضحاياها وبينهم لبنانيون من الحزب، وتحصد ارتداداتها لبنانيين لطالما كانوا في مربعات أمنية لا تُخترق، فحوّلتهم الجبهة المتمددة إلى مشاريع شهداء… ولكن ليصمد النظام السوري.

 ولكن ألم يقلها السيد حسن، أن الدفاع هو عن حدود لبنان ولكي لا يأتي الانتحاريون إلينا؟… وها هم بيننا، يقتلون سنّة وشيعة ومسيحيين، فتكتمل وحدة وطنية. كل ذلك لا يبخس حق اللبنانيين في التهليل لحكومة شُكِّلت «بمعجزة» كما قال رئيسها تمام سلام، ولكن ما الذي يقوى لبنان ومعه الحزب، على فعله لوقف أفواج الانتحاريين في قلب بيروت وضاحيتها والبقاع؟

الحال أن الصدام الروسي- الأميركي الذي انتقل من ساحات جنيف السوري إلى ساحة «ميدان» في قلب العاصمة الأوكرانية كييف، سيرجّح احتدام القتال في سورية، خصوصاً مع تلميح واشنطن إلى إحياء خيار منطقة الحظر الجوي انطلاقاً من درعا. سيشجّع ذلك النظام في دمشق على ضربات عشوائية، في حين يتوجّس من سيناريو المفاجأة: ينتظر المعركة من الجنوب (درعا) فتبدأ حول العاصمة، ويطبّق الأميركيون بعد خيبة جنيف، معادلة قلب موازين القوى، قبل تحريك قطار الحل. إذاً، مزيد من القتل وسفك الدماء لشق طريق التسوية، فيما لا يزال مبكراً التكهّن بقدرة الغرب على فرض مساومة مع الروس الذين يُفقِدهم الصواب انهيار قبضة حلفائهم في أوكرانيا.

أوكرانيا أولاً؟ حرب باردة بعد خيبة جنيف، وحرب ساخنة حول دمشق المنهمكة بيبرود، فيما لا يخلو من دلالة حديث البيت الأبيض الآن عن عدم حاجته إلى إرسال قوات برية الى الأراضي السورية، لأن البدائل متاحة.

يرجَّح أن بوتين تلقّى صاع سورية صاعين في أوكرانيا، بعدما ضمن لنظام الرئيس بشار الأسد شبكة حماية لثلاث سنوات، عززتها سمعة التكفيريين وممارساتهم. والأرجح كذلك أن إيران في قفص المفاوضات النووية، لم تعد طليقة اليدين في حماية النظام السوري، ولا حتى في تقديم «النصيحة» لتحصين القاعدة الشعبية لـ «حزب الله». فلا سياسة ولا تسويات في عز المواجهة، وأول من أثبت ذلك هو النظام الذي استدرج الانتحاريين من كل الطوائف. أما طهران فلا تملك إلا الدعاء لنجاح رهانها على جنيف الإيراني.