انسحاب أميركا من أفغانستان يحتّم الحسم في مصر قبل سورية

طوني فرنسيس (الحياة)

العام المقبل (2014) سيشكل محطة مفصلية في تاريخ الحضور الأميركي العسكري القتالي في الشرق الأوسط، حيث ستقوم الولايات المتحدة بسحب قواتها نهائياً من أفغانستان، بعد أن سحبتها في وقت سابق من العراق، لتبقي على حضور رمزي في منطقة الخليج، إضافة إلى حضور تقليدي في البحار المحيطة.

في المرحلة السابقة أدى الانسحاب من العراق، وقبله غزو هذا البلد، إلى تعزيز النفوذ الإيراني فيه بما لا يقاس، وتجسد هذا النفوذ تحكما بالإدارة العراقية ممثلة بحكومة نوري المالكي وتغلغلا في نواحي حياة البلاد الأمنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعبر التحالف مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد وبوجود حزب الله الموالي في لبنان بات ذلك النفوذ يغطي منطقة شاسعة ويغري بمد اليد إلى الخليج (البحرين نموذجاً) وأطراف الجزيرة العربية (حوثيو اليمن وانفصاليوه)، وها هو الآن يطمح إلى المزيد بعد الانسحاب الأميركي المتوقع من أفغانستان، حيث ستتصارع الأطراف القبلية والجهادية لملء الفراغ، وسيكون لإيران حصة كبرى، إلى جانب قوى إقليمية أخرى (باكستان المتوترة والهند المنشغلة بها، وروسيا التي لن تترك حدودها الجنوبية متفلتة ولو عبر دول الاتحاد السوفياتي السابق وورثة أحمد شاه مسعود في الشمال الأفغاني).
بدت المعركة في سورية بالنسبة إلى إيران عنصراً حاسماً في سياق استراتيجي قوامه احتمالات ما بعد 2014، ومع زجها إمكانات ضخمة واستنفارها الأنصار في لبنان والعراق في حرب مصيرية، لم يعد بقاء الأسد أو رحيله مقياساً، أصبح الهدف الإمساك بسورية بوصفها الممر الإلزامي نحو لبنان والبحر المتوسط وللوقوف على حدود «القضية المركزية» بالنسبة إلى العالم العربي (فلسطين) بما يتيح فتح بازار آخر يجري الحديث بشأنه في حينه.

يضيء هذا السياق التمايز الصارخ بين موقفي القيادة الإيرانية والسورية الرسمية من الحدث المصري. ففيما وقفت إيران إلى جانب الإخوان المسلمين في مصر، رحبت قيادة الأسد بتولي الجيش المصري قيادة العملية السياسية في بلاده. حصل ذلك وسط إعادة ترتيب للأوراق وتظهير للمشهد جعل من تجربة الإخوان في مصر عامل فرز للقوى، وضع أميركا والاتحاد الأوروبي وتركيا وإيران من جهة، في مركب الإسلام السياسي ممثلاً بتنظيم الإخوان المسلمين، والسعودية ودول مجلس التعاون الخليجي (عدا قطر) وروسيا من جهة أخرى، في مركب الدفاع عن السلطة التي منعت «الجماعة» من «أخونة» مصر والتفرد بقرارها.

تحولت مصر منذ 30 حزيران (يونيو) إلى العنوان الأبرز في سـياسـات العالم والشرق الأوسط، ورغـم المجزرة الدمويـة الدائـرة في سورية بـدا أن العالم ينتظر نهـاية الصراع على الـسـلطة في الـقاهـرة قبل أن يـقوم بخـطوته التالية. لم تعد سورية أولـويـة للحــسم بـقـدر ما هـي (ولـو مؤقـتـاً) ســاحـة للاســتنزاف. فـيها تقـاتل إيـران دفـاعـاً عـن نفوذها، وإليها تهرع التـنظـيمـات «الـجهـاديـة» وعناصر الإرهاب والمـغامرة، يلتقون جميعاً في قتال لا يجد «المجتمع الدولي» سبباً لوقفه ما دام أطرافه جميعاً (بما في ذلك أركان النظام) مدرجين على لوائحه للإرهاب. وسيمر وقت قبل أن يعيد الفاعـلون البحث في حلول تأخذ مطالب الـشعب السوري ومصالحه في عين الاعتبار، وحتى تحـين تلـك اللحـظة لا بد من إعادة تحديد الأحجام والأوزان ووقـف الاختلال في المقايـيـس المسـتمـر منذ غـزو بـغداد، وأولى الخـطوات… منع سقـوط القاهرة في حضن تنظيمات يتراوح ولاؤها بين أنقرة وطهران.

تحول مجلس التعاون الخليجي بقيادة المملكة العربية السعودية إلى قاطرة لمعارضي أخونة الحياة السياسية المصرية (… والعربية). وللمرة الأولى منذ الانقطاع عام 2008 قام الأمير بندر بن سلطان المسؤول السعودي الرفيع بزيارة إلى موسكو التقى خلالها حصرياً رئيس الدولة فلاديمير بوتين. قيل الكثير عن الزيارة ونتائجها، بعضه قريب من الواقع وبعضه من نسج الخيال، لكن ما لم يتم التركيز عليه هو الالتقاء السياسي الموضوعي بين الجانبين في فهم الدور السلبي لتنظيم الإخوان وضرورة مواجهته، وفي ضرورة دعم الشعب المصري للخروج من تداعيات تجربة محمد مرسي. هذا الخرق الذي سجلته الديبلوماسية السعودية استند إلى موقف صلب اتخذه الملك عبدالله بن عبد العزيز وترجمته السعودية ودول مجلس التعاون في مساعدات مالية ومادية فورية إلى مصر وتابعته المملكة في سلسلة مواقف من أبرزها ما أعلنه وزير الخارجية سعود الفيصل إثر زيارته إلى فرنسا عشية اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الذين يلوحون مع أميركا بوقف المساعدات الى مصر. قال الفيصل رداً على «الإخوان» في أميركا وأوروبا :»إن الأمة العربية والإسلامية غنية بأبنائها وإمكاناتها ولن تتأخر عن تقديم يد العون لمصر، فمصيرنا واحد وهدفنا واحد، فكما تنعمون بالأمن والهدوء فلا تستكثروا علينا ذلك… إن المواقف الدولية إذا استمرت فلن ننساها في المملكة ولن ينساها العالم الإسلامي والعربي…».

رأى البعض في مصر تعليقاً على التضامن السعودي والخليجي مع بلادهم: «إنها الدول نفسها التي وقفت إلى جانبنا في حرب 1973»، وشبهوا قرار الدعم السعودي في مواجهة محاولات الحصار الغربي (والتركي الإيراني) ، بقرار الرياض قطع إمدادات النفط خلال الحرب المذكورة، وذهب البعض الآخر إلى الدعوة لإعداد العدة لاستقبال جماهيري لبوتين في حال قرر القيام بزيارة إلى القاهرة…

لم يعد الخلاف بين المجموعة العربية ممثلة خصوصاً بدول مجلس التعاون (زائد المغرب والأردن) وبين أميركا وأوروبا خافياً على أحد، وإذا كانت مصر عنواناً له الآن وسورية عنواناً آخر، فإن في جوهر هذا الخلاف تكمن المهادنة الغربية للسياسة الإيرانية التي تهدد ما تسميه أميركا منطقة عمل القيادة المركزية الوسطى الممتدة من أفغانستان إلى المغرب العربي، ومن ضمنها العراق وسورية ولبنان والجزيرة العربية. وتعرف المجموعة العربية المذكورة أن موقع مصر اللاحق ودورها سيكون عاملاً حاسماً في إعادة رسم ملامح العالم العربي بما فيها ملامح بلاد الشام ومستقبلها، وتركيزها الآن على بلاد النيل من دون إغفال سورية، محاولة استباقية لمنع ضياع قلب العالم العربي فتضيع عندها الأطراف جميعاً.