“القصير”: مَكسَر حروب ولاية الفقيه أم جرحها الغائر؟

بشار العيسى

ما يخسره الفرس بالحروب يستعيدونه بالسياسة ، هذه مأثورة اصبحت معروفة عن الفرس، وما تشيّعهم منذ القرن العاشر الميلادي سوى واحدة من استرجاعهم  بالسياسة ( المذهبية) ما خسروه بالإسلام، دولة دين عربي الهوية.

وليس صدفة أن يكون جدّهم “نظام الملك” ابو علي حسن الطوسي بكتابه المرشد للإدارة “سياسة نامة” قد سبق “ميكيافيللي” صاحب كتاب (الامير) بأربعة قرون في تنظيم فلسفة السياسة والسيطرة وتنظيم الادارة وصوغ التحالفات، لمساعدة الحكام على تمكين سلطانهم بتفادي الوقوع في محظور الجهل والغرور وتلغيم العقل، فالسياسة علم إدالة الدولة لا التسريع بالسقوط والهلاك.

نسوق هذه المقدّمة لتبيان المخفي في الحرب التي بدأت ايران فارس الشيعية اخذ زمام المبادرة فيها لمواجهة ثورة الشعب السوري ليس لإسقاطها وحسب بل ايضاً اقتناص فرصة تاريخية من منظور “ولاية الفقيه” لدرء تكرارها او انتقالها الى العراق وأرض الفقيه  ودولته ( ايران) باستغلال الفرصة (التي تنبأ بها الخميني لرفيقه آنذاك ابي الحسن بني صدر وهما عائدان من باريس في رحلة العودة لإقامة دولة إمام الزمان سنة 1979 : أن العثمانيين السنة، حكموا اربعمئة سنة وحان اليوم دورنا )، لإقامة وتوسيع دولة امام الزمان الشيعية في جغرافيا الشرق الاوسط ليس للقضاء على الدويلات السنية الشكلية القائمة في أهم جغرافيا تتحكم بالسيطرة على معابر البحار وطرق المواصلات والثروات بل لمنع حركة الشعب الايراني (المحتملة كالخضراء) من اجل الكرامة والحرية، من التفكير مجددا بالانتفاض على ولاية الفقيه، عبر حروب وصراعات مذهبية تحتكر الشعب لمحرقة الولاية.

سيدخل شهر أيار 2013 التاريخ من بابه الاوسع اذ فيه تمّت نقلة نوعية لتداعيات الثورة السورية، التي دخلت بدورها التاريخ كأطول وانبل ثورة على اكثر من صعيد. لقد انتهى الصراع بين قوى الثورة والسلطة الحاكمة عن ان يكون صراعا محلياً من اجل الحرية والكرامة ضد سلطة مازالت تحتكر منذ اكثر من خمس واربعين سنة لفئة معينة من الشعب السوري.

تتمثل النقلة النوعية في الصراع السوري، بتجاوز مستويات القتل والتدمير كل الخطوط الحمر التي تحدّث بها بعض من يُعتبر من القائمين على أمور الكون والمنطقة لقد اصبحت الخطوط الحمر والمعايير المنطقية لأي صراع على السلطة وراء الجميع لقد دخلت ايران الحرب بكل قواها وحلفائها وتعمل لنقلها الى الجوار التركي واللبناني وتهدد الاردني والسعودي، بعدما خرقت السلطة مستقوية بالموقفين الايراني والروسي، التفاهمات الطبيعية للصراع على اساس موازين القوى وشرعة العلاقة بين السلطة والشعب .

مع تفجيرات “الريحانية” التركية التي أتت لا لتغطي على مجازر “جديدة الفضل”  و”بانياس” بل لتهدد بهما،  لقد خلعت سلطة الاسد وايران وحزب الله الاقنعة وكشفوا عن الذراع المذهبية التي لهم في تركيا – اردوغان، كشفأً عن المستور الاقليمي الفاعل في الساحة السورية بتبريرات مذهبية لصالح مناطق نفوذ لطموحات مذهبية في ظل مهزلة التفاهمات الدولية.

 انتهت الحرب على الشعب السوري، فلم تبقَ في اطار الصراع على السلطة بل تعدته الى صراع او حرب قوى اقليمية مذهبية على شعب في اطار دولة لفرض ارادة اقليمية مذهبية لإخضاع الاقليم ( دولا وجماعات) لسيطرة مذهبية لدولة امام الزمان.

وما الحرب على “قصير” المكشوفة بين بلدة سورية لا تتجاوز في تعدادها السكاني اربعين ألف نسمة تتحصن فيها قوى محدودة للجيش الحرّ يحجر على تزويده بالسلاح والمقاتلين، بقوى شيعية (ايرانية ولبنانية وعراقية) فضلا عن جيشين للسلطة واحد فئوي التشكيل بإشراف ايران وحزب الله يغرف من قرى علويي الجبل “النصيري” ومناطق انطاكية، وجيش السلطة الرسمي لا لأنها تشكل  قوة مركزية للجيش الحر، بل لان موقع البلدة الجغرافي يشكل “عقبة” أمام مشروع دولة “كانتون” شيعي- اقليمي، يربط بلاد العلويين، حيث معقل السلطة الحليفة لإيران التي تشكل حلقة وصل بين مناطق تمركز شيعة تركيا وشيعة لبنان. لهذا تبرّر معارك “قصير” ضراوتها العبثية فاحشة التكاليف والخسائر، لدرجة ان قوة مثل حزب الله اللبناني يقامر بسمعة سنين ومصالح مئات آلاف الشيعة اللبنانيين وتضحياتهم (وسط صمت النخب الثقافية لهذه الطائفة الذين ما انفكوا يصدحون بصوت المظلمات التاريخية لفلاحي التبغ لجبل عامل الرمز الشعبي لليسار والمقاومة) في معركة تحولت فيها بين ليلة وضحاها من شعب مقاوم الى قوة مرتزقة تأتمر بأمر دولة ايران لولاية الفقيه الاستعمارية للسيطرة. بعكس ثقافة المقاومة التي برّرت بها افعالها وغلوّها وتماديها في الرذيلة المذهبية بوسائط شيطانية.

كما كشفت نقلة الحرب على “قصير” اثر سلسلة مجازر تجاوزت كل معايير التصفية السكانية وجرائم انسانية، عن عجز بالتواطؤ لعلم تتسع مساحته العربية والدولية بطغيان روسي فاجر ونفاق امريكي مراوغ، لقد غدا العرب والعالم اسرى حقائق ميدان تجاوزت جرائمه كل خيال في انتهاكات يومية لحقوق الانسان وشرعة الامم بحكم اولوية مصالح تفرضها قوة ذي حظوة دولية وسطوة اقليمية (اسرائيل) وأهوائها الاستراتيجية،. والتي تتغير خطوطها وعلاماتها على خارطة المصالح كل يوم ومع كل تصريح لقادة اسرائيل المسكونين بهوى ومزاج “يهوه” فائض الدلال والغنج قصير القامة والقدرة.

اليوم والسوريون والعالم ينتظرون الولادة المشوّهة لمؤتمر جنيف الثاني لحَمل مَسخ لليلة فجور تساكن امريكي روسي، تراوغ السلطة وحلفاؤها بالصفقة التي ينتظرونها، يبدو ان ممثلي المعارضة الخارجية وكأنهم “سكارى وما هم بسكارى” فئة هنا، وشريحة هناك، وكأن الامر لا يعنيهم لا الحرب في “قصير” ولا المؤتمر في جنيف فالقوم منشغلون بالصراعات والتفاهمات والتصفيات والخلطات التي يريدون بها ترتيب بيت داخلي يخصّهم لا الشعب السوري.

 لقد استطاع النظام خلق شروخ وتشوهات في ما يسمى جسد المعارضة “مجلس وطني” جوّال، مثل قربة مثقوبة و”ائتلاف” وجبات سريعة و”هيئة تنسيق” شيطانية تمدّ السلطة بما تحتاجه وما لا تحتاجه وينوب عنها “المنبر( القطب) الديمقراطي” حين تفشل هيئة التنسيق، و”تيار بناء الدولة” حين يفشل المنبر والهيئة، وهكذا دواليك فلدى النظام من بين صفوف المعارضة جيش بل طوابير خدمة نائمة واستخبارات ما شاء الله………….

922913_10200793652459906_1475581612_n

سيكتب التاريخ يوما، بأحرف صغيرة هامشية، لقد تمّت على أيدي حفنة سمّت نفسها كوادر ومثقفي سوريا في المهاجر، عملية شيطانية في بيع الوهم لقوى الثورة الشبابية، عن ضرورة خلق ممثلية خارجية ترافق الجيوش والدول الى اسقاط الاسد، فتخلّت جموع ايام الجمع، من خلال بضع لافتات، عن تمثيلها لثورتها لصالح مجلس رُكّب عربيا وتركيا برعاية امريكية، بمسمى المجلس الوطني السوري أدار الظهر لقوى الثورة وشعاراتها وبدأ بالتصارع فيما بين مكوناته، من خلف اجندات قوى اقليمية وعربية ودولية بمرجعية التمويل المالي إثر سلسلة من المؤتمرات التي تم وما تزال تتم تمويلها بمال غير معروف المصدر لتجار ودول بغير شفافية ،وبدون برنامج انتقالي او رؤية سياسية مستقبلية; اي دولة سورية سنبني؟

هل ستكون الحرب على “قصير” مرحلة جديدة لوعي الثورة لذاتها؟ وترد كيد اللاعبين كلهم الى نحورهم بتغيير معادلات القوة والشرعية بمرجعية استعادة قوى الثورة لقرار وتمثيل شعبهم، ودفع الآخرين الى جدار متهدم، أم التلاشي في منازعات اقليمية ومناطقية تقول وداعا لسورية 1920؟!

 هذا ما ستفرزه نتائج المعركة في أصغر قرية سورية لأعقد جغرافية اقليمية.