على مشارف الفوضى الإقليميّة!

رامي الريس (الجمهورية)

أغلب الظنّ أنّ هانز ليبتش (93 عاماً) لم يتوقع أن تقتحم الشرطة الألمانيّة منزله وهو على حافة الموت، بناءً على مذكرة اعتقال وتهم قيد الإعداد من مدعي عام شتوتغارت، لا سيّما أنّه أمضى نصف عمره في الولايات المتحدة الأميركيّة، التي وصلها عام 1956 وطُرد منها عام 1983، بعد اكتشاف ماضيه النازي.

الموقوف هو نازي سابق، وُلد في ليتوانيا عام 1919، وانضمّ إلى جهاز المخابرات النازية والميليشيات السياسية القوي (SS)، وقيل إنّه أحد أربعة متهمين لا يزالون على قيد الحياة ممّن شاركوا في إبادة اليهود في المعسكر الأكبر “أوشفيتز” بين عامي 1941 و1945، في حين نفى هو التهم الموجّهة إليه، قائلاً إنّه كان “طبّاخاً” في أحد المعتقلات التي أقيمت في بولندا، ولم يشارك في أعمال القتل الجماعي التي قادها أدولف هتلر، الذي اعتنق نظريّة تفوّق العرق الآري، معتبراً أنّ “تطهير” العالم من الأعراق الأخرى هو مهمّة سامية، وهو مؤتمن على تنفيذها.

مهما يكن من أمر، فإنّ المقصود بهذا الكلام ليس استعادة تاريخ ألمانيا النازية، التي قادت أوروبا والعالم إلى الحرب العالميّة الثانية والخراب، بقدر ما المقصود القول إنّ الغرب لا يزال حتى يومنا هذا يعيش عقدة “الهولوكوست”، التي قيل إنّها طاولت مئات الآلاف من اليهود في النصف الأول من الأربعينيّات وفي أثناء وقوع أكثر المعارك ضراوةً.

وإذا كان من غير المفيد الدخول في سجال تاريخي بين الذين ينكرون وقوعها وبين الذين لا يزالون يدفعون ثمن ذنوب أسلافهم تجاهها؛ ففي نهاية المطاف، يتحقق شيء من العدالة من خلال هذا الاعتقال، ولو طال الزمن.

لقد شهد التاريخ المعاصر العديد من المجازر التي مرّت من دون عقاب، ومجموعة لا بأس منها طواها النسيان، وتكاد لا تُذكر على صفحات كتب التاريخ. واليوم، تشهد سوريا بدورها مجازر لا تقلّ بشاعة عمّا كان يحدث في “أوشفيتز”، في حمص وحماة ومعرة النعمان وريف دمشق والقصير والبيضا وسواها من القرى والمدن السورية.

وإذا كان جانباً ممّا سمّاه النظام السوري منذ اندلاع الثورة في آذار 2011 “الحلّ الأمني” يطاول ما يُنعت بالمجموعات الإرهابيّة، إلّا أنّ مجازر عديدة وقعت مستهدفةً الأبرياء، ومن بينهم النساء والأطفال الذين لا يمكن إلصاق تهم الإرهاب بهم، فبعضهم يقعون كشهداء وضحايا في بيوتهم.

ثم، وللتذكير، ألم تترعرع بعض تلك “المجموعات الإرهابيّة” في أقبية المخابرات السوريّة وتحت أجنحتها؟ أليست هي الفرق التي كانت تنفذ عمليّات لحساب النظام السوري وحليفه الإقليمي في العراق؟ وفوق كلّ ذلك، هل يمكن إنكار حقيقة أنّ جانباً من المجازر التي تشهدها سوريا منطلقاتها تتقاطع مع نظرية تفوّق العرق الآري التي نادى بها هتلر، ولكن بمسمّيات مختلفة؟ أليست هذه الأعمال تستهدف أكثرية معيّنة من الشعب السوري؟

وفي الإطار ذاته، ألا توحي المناطق الجغرافية التي تقع فيها المجازر أنّها تستهدف “تطهيراً” وتهجيراً لأبنائها إفساحاً في المجال أمام بناء واقع ديموغرافي جديد يتماشى مع التطوّرات الميدانية، حيث بات واضحاً أنّ هناك استحالة استعادة النظام كامل السيطرة على كلّ الأراضي السوريّة، والعودة إلى مرحلة ما قبل اندلاع الأزمة السورية؟

من الواضح أنّ سوريا تتجه نحو الشرذمة التامة، إن لم يكن التقسيم، والمؤشرات السياسيّة والميدانيّة تثبت هذه النظرية. وهذا ربما يُفسّر جانباً من كلام الرئيس السوري بشار الأسد عندما قال إنّ سقوط النظام يعني أنّ “سوريا ستنتهي”، مؤكداً بذلك أنّ الخطوط التي رُسمت في 16 أيّار 1916، في اتفاقيّة سايكس- بيكو الشهيرة، ستخضع لإعادة ترسيم شاملة وفق منطلقات جديدة ومرتكزات مختلفة تماماً عمّا كان معتمداً في السابق، ومن أبرزها المعيار المذهبي.

من هنا، فإنّ الصراع المحتدم في سوريا بفعل إصرار النظام على مواصلة ما اصطلح على تسميته “الحسم العسكري” (وهو لم يؤدِّ يوماً إلى الحسم بل إلى عسكرة الثورة)، وبفعل تداخل العناصر الإقليميّة والدوليّة سيفتح الباب أمام مزيدٍ من التعقيدات التي فاقمتها الغارة الإسرائيليّة على سوريا في اعتداء موصوف بقطع النظر عن استهدافاته.

وأغلب الظنّ، على عكس ما تشيعه معظم تحليلات منظّري خط “الممانعة”، فقد يتحوّل النظام السوري في غضون أيّام قليلة ليكون المستفيد الأول من الغارات الإسرائيلية، لأنّها ستتيح له حشد الطاقات وتحويل الأنظار عن الوضع الداخلي السوري، كما ستقدّم له حججاً إعلاميّة وتنفيذية مهمّة لممارسة المزيد من الضغط على المعارضة واتهامها بالعمالة والخيانة، في الوقت الذي يتعرّض فيه “القطر” السوري للعدوان الإسرائيلي الغاشم… كما أنّ ذهاب المنطقة برمتها نحو الفوضى العارمة والشاملة أيضاً يفيد النظام السوري، الذي سينجح في إشعال الساحات المجاورة لتحقيق المزيد من الإرباك الكامل. والقاعدة الأسلم التي صار للنظام أن يعتمدها هي بكلّ بساطة: “أنا، ومن بعدي الطوفان”.

—————————————–

(*) رئيس تحرير جريدة “الأنباء” الالكترونيّة

Facebook: Rami Rayess II

Twitter: @RamiRayess

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (الجمهورية)

ماذا وراء دعوات جنبلاط الحواريّة؟

ماذا بعد تفجير الضاحية الجنوبيّة؟

ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة

الجيش: ماذا بعد صيدا؟

خامنئي- روحاني- قوروش!

عندما ستدير أميركا ظهرها!

تنظيم الخلاف السياسي: هل هو ممكن؟

عندما سيطوف البركان السوري على لبنان!

هل تخدم الفتنة منطق «الممانعة»؟

عندما تُنقذ إسرائيل النظام السوري!

تلاقي الأضداد بين لبنان وسوريا!

الثورات العربيّة وحقوق الإنسان!

في ذكرى الحرب: هل تعلّمنا الدرس؟

عندما تتداخَل ألسنة اللهب!

قبل السقوط في الفوضى الدستوريّة!

عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة

كيف نخرج من القرون الوسطى؟

الأرثوذكسي والشمبانيا!

سياسات التصفية والنتائج العكسية

التحوّلات العربية وسياسات الإنفاق!