الثورات العربيّة وحقوق الإنسان!

رامي الريس (الجمهورية)

كشفت تقارير صادرة عن منظمات حقوق الإنسان السوريّة أرقاماً مخيفةً، ولو لم تكن مفاجئة، عن أعمال القتل والتعذيب والاعتقال في سوريا التي تفاقمت بشكل كبير وغير مسبوق منذ اندلاع الثورة السوريّة في آذار 2011. وإذا كان من المعلوم أنّ النظام السوري سبق له أن أفرغ منهجيّاً المجتمع السوري من نخبه المعارضة من خلال سياسات التصفية الجسديّة والإغتيال السياسي والإقامة الجبرية والإعتقال التعسفي والنفي والإبعاد ليتمكّن من الإمساك بمفاصل الدولة والاقتصاد والمجتمع كلها، إلّا أنّ ذلك لا يُقارن بأيّ شكل بالواقع المستجد بعد الثورة.

وأشارت التقارير إلى أنّ ما لا يقل عن 2300 شخص قضوا تحت التعذيب منذ بدء الأزمة السوريّة من بينهم نحو 80 طفلاً، ولم يتخطّ عدد الثوار المسلحين منهم نسبة الـ 5 في المئة، ما يدحض النظريات التي يقول بها النظام عن محاربته للمجموعات “الإرهابيّة”، ويدّل على أنه لا يميّز في سياسات القتل المنهجي، أي من أفراد المجتمع سواء أكانوا أبرياء أم مسلّحين، من دون أن يبرّر له ذلك أساساً أسلوب التعاطي مع الثوار.

كما كشفت التقارير أن ما لا يقلّ عن 160 ألف شخص تم اعتقالهم وزجّهم في السجون كمعتقلين سياسيّين من دون أيّ إجراءات قانونيّة، في بلد عاشَ أربعين عاماً ونيّف تحت سلطة “قانون الطوارئ”، وعندما أعلن رفعه لم يكن سوى خطوة شكليّة لم تترجم فعلياً على الأرض، لا بل مورس عكسها تماماً. ويُضاف إلى هؤلاء المعتقلين السياسيين ما يزيد عن 194 ألف موقوف لدى السلطات السوريّة، أيضاً من دون تهم أو استنابات قضائيّة أو أي إجراء آخر، بل مجرد اقتحامات للبيوت والمنازل وسحب المواطنين منها.

أما المفقودون ومجهولو المصير، فيتخطى عددهم الـ 60 ألفاً، في ظل غياب أيّ قدرة عمليّة على التحقق من بقائهم على قيد الحياة أو تصفيتهم في المعتقلات.

وبلغ العدد الإجمالي للقتلى منذ إندلاع الثورة نحو 70 ألف قتيل، أي بمعدل مئة قتيل يومياً! وهذه الأرقام، عدا عن كونها تعكس مدى الانحطاط الأخلاقي لدى النظام وربما بعض فصائل المعارضة التكفيريّة أو المتطرفة، فإنها تعكس في جانب آخر منها مستوى الانحطاط أيضاً لدى المجتمع الدولي برمّته الذي يقف متفرجاً أمام هذه الأزمة المستفحلة من دون أن يحرّك ساكناً.

إن مراجعة عميقة لسياسات الدول والعلاقات الدوليّة وتشابك المصالح وتقاطعها يؤكد أن الاهتمام الفعلي بملف حقوق الإنسان يقع في قعر لائحة الاهتمامات الدوليّة، وأنه يمكن، بكل بساطة، التغاضي عنه لا سيّما إذا حصل التجاوز في دولٍ ترتبط بعلاقات وثيقةٍ مع الغرب. وهذا ما حصل مع مصر أيّام الرئيس السابق حسني مبارك، وما حصل أيضاً مع سوريا أيّام الرئيس الراحل حافظ الأسد وخلفه.

فعندما عقدت الولايات المتحدة الأميركيّة صفقة “الخطوط الحمراء” مع كل من سوريا وإسرائيل عام 1976 لتمهيد الدخول العسكري السوري إلى لبنان (كما أثبتتها وثائق رسميّة فرنسيّة من أرشيف وزارة الخارجيّة) بهدف الإطباق على الحركة الوطنيّة اللبنانيّة والثورة الفلسطينيّة، لم تنظر إلى السجل الأسود للأسد الأب في حقوق الإنسان وهو الذي صفّى جميع معارضيه قبيل وبعد ما سمّاه “الحركة التصحيحيّة” التي لم تكن أكثر من حركة انقلابيّة للإمساك التام بزمام الحكم والسلطة في سوريا.

والأمثلة على ذلك كثيرة وكثيرة جداً. عندما تتعارض مصالح الغرب مع الأنظمة، يتم التلويح بورقة حقوق الإنسان المنسيّة في الأدراج. طبعاً، ليس المقصود بهذا الكلام إيجاد المبررات السياسيّة لنظريّات المؤامرة التي إزدهرت في العالم العربي على مدى عقودٍ طويلة، وهددت فيها الشعوب للإطباق على حرية الرأي واستدامة الأنظمة الديكتاتوريّة القمعيّة.

فشعارا المؤامرة والممانعة كانا في طليعة العناوين التي استخدمتها بعض الأنظمة العقائديّة لمصادرة الحريات وحقوق الإنسان وإجهاض كل المحاولات الديموقراطيّة الخجولة التي حاولت أن تتحرّك من هنا أو هناك.

ووضع الشعوب العربيّة بين خيارَي الديكتاتوريّة أو الفوضى ليس مقبولاً. بمعنى أن تكون الشعوب العربيّة أسيرة أنظمة قمعيّة لا تراعي حريّة الرأي وتمارس القهر والتعذيب وحتى الساديّة لكي لا تقع في الفوضى.

هذا يفترض أن الشعوب العربيّة قاصرة عن إدارة شؤونها الوطنيّة، وهو غير صحيح حتى ولو أدّت بعض الخلاصات الرئيسيّة من المراحل الأولى لما بعد الثورات في بعض البلدان العربيّة إلى تغليب جانب من هذه الرؤية، ولكن من المفيد التذكير أيضاً بأنّ كل الثورات عبر التاريخ تتطلّب استقامة ظروفها وانتظامها مراحل طويلة من العمل والجهد والعقلانيّة.

حقوق الإنسان؟ لا يمكن أن تكون مجرد تقارير تُوضع في الأدراج!

اقرأ أيضاً بقلم رامي الريس (الجمهورية)

ماذا وراء دعوات جنبلاط الحواريّة؟

ماذا بعد تفجير الضاحية الجنوبيّة؟

ثورة لاستعادة الثورة المسلوبة

الجيش: ماذا بعد صيدا؟

خامنئي- روحاني- قوروش!

عندما ستدير أميركا ظهرها!

تنظيم الخلاف السياسي: هل هو ممكن؟

عندما سيطوف البركان السوري على لبنان!

هل تخدم الفتنة منطق «الممانعة»؟

عندما تُنقذ إسرائيل النظام السوري!

على مشارف الفوضى الإقليميّة!

تلاقي الأضداد بين لبنان وسوريا!

في ذكرى الحرب: هل تعلّمنا الدرس؟

عندما تتداخَل ألسنة اللهب!

قبل السقوط في الفوضى الدستوريّة!

عن حقوق الإنسان والديموقراطيّة

كيف نخرج من القرون الوسطى؟

الأرثوذكسي والشمبانيا!

سياسات التصفية والنتائج العكسية

التحوّلات العربية وسياسات الإنفاق!