Advertise here

المعلم الشهيد و"العزيم التقدّمي"

09 آذار 2024 17:22:33 - آخر تحديث: 19 آذار 2024 16:45:29

في الذكرى السابعة والأربعين لاستشهاد معلم مستنير وقائد وطني وعربي وإنساني كبير لا بد وأن نعقد الآمال، للخروج من التيه، على قراءات معمقة ومفعمة بالرؤيا من خلال تفسير تداعيات هذا الحدث الدرامي الجلل، في المشرق العربي خاصة، وكافة الاقطار العربية عامة.

كان لاستشهاد المعلم كمال جنبلاط أكثر من معنى، وأكثر من هدف، وأكثر من قضية.

يُعَدّ استشهاده ولا ريب شهادة حق في سبيل فلسطين، التي تخلى العالم كله عنها، فغدونا وحدنا في العالم، ولم يعد ليجدي إلاّ أن نترك لقدسها الشريف القول "إننا كنا لك أوفياء" تشبّهاً بما فعله أبطال أسبرطة حين نُقش على صخرة في مدينتهم لتبقى شاهداً على ذروة التضحية، وتؤرخ لشهادة جماعية كبرى، وقد عبّر كمال جنبلاط عن ذلك قبل استشهاده بسنوات قليلة، في مناسبة تأبين القادة الشهداء الثلاثة: كمال ناصر وكمال عدوان ومحمد يوسف النجار، شهداء الثورة الفلسطينية في بيروت العام 1973. لقد تخلى العالم كله عن فلسطين منذ أن انتقل جمال عبد الناصر الى الرفيق الأعلى، في لحظة تقاطع مصلحي بين الأمم في لعبة الأمم.

أما في الهدف فكان استشهاد المعلم علامة دالة، في غائيته النبيلة، على استمرار شعلة التضحية من أجل كسب شرف البقاء، لشعب وأمة يكتنزان ذخراً حضارياً فريداً، منذ فجر الحضارة، على هذه المساحة المشرقة بالتآنس والتفاعل البنّاء بين مختلف الثقافات حول البحر الأبيض المتوسط، تمكّن مريدوها من ترسيم فسيفساء معتقدية ما تزال قبلة الباحثين عن جمالية التنوع في الوحدة، وعن قدسية الديانات المؤسسة للأخوّة الانسانية، والعدالة، والمساواة، وحرية المعتقدات، واحترام الإختلاف، وفتح أفاق العقل باتجاه إبداعات العلوم والفنون، وسبر أغوار الكون القصية.

أما في القضية فلقد كان لهذه الشهادة رؤية مستقبلية متجسّدة في إنشاء مشروع إنساني جديد في المشرق العربي، يتخطى به المشارقة طقوسية الحرف في المعتقدات والإيديولوجيات والسياسات، نحو الارتقاء بإتجاه إجتماع معاصر ذي بعد علماني عرفاني في آن، ربما في هذا السياق لم يُفهم كمال جنبلاط حق الفهم كما ينبغي، أو أنه لم يكن ليراد لمشروعه التحقق من داخل ومن خارج، بسبب ما يتأشكل في العقل التاريخي العربي من توجّس وحذر حيال مفاعيل الفلسفة السياسية، التي تركن الى التأويل في مقاربة التراث، كأصالة تقافة، حيث أعاد المعلم، وعلى نحو لم يسبق له مثيل، إحياء مدينة الفارابي الفاضلة، وفصل مقال إبن رشد، ولكن على هدي انثروبولوجي حديث راصد لاتجاهات التطور في التجمع البشري وفي منحيي الوعي والحرية، من آفاق الأب اليسوعي بيار تيلار دي شاردان.

لذا لم يكن من المستغرب أن يرى بعض المستشرقين المعاصرين في كمال جنبلاط مثالاً حياً لرجل الدولة العقلاني عند العرب وواحداً من أساطين المعارف الموسوعية في العالم العربي، الذين يمتلكون رؤية استشرافية خلاّقة إلى المستقبل، في حين أنَّ بني قومه لم يتمكنوا من فهم مراميه الحقيقية لمواجهة التطور، الذي يتجاوز ما توقفوا عنده من اسهامات حضارية جُلّى، تعود إلى ما قبل القرن الرابع عشر الميلادي. لقد أدرك المعلم أن قطيعة حصلت بعد ذلك مع الهلينية وبالتالي مع العقل، بل مع توليفات بين الفلسفة والدين، وبين الحكمة والعلم، بين المجتمعات والافراد، بين السياسة والأخلاق، في النظرة إلى المسيل الحيوي لطبيعة الكون والإنسان الحافلة بتناغم تجاوزي، بين الثبات والتغير، بين الجزئي والكلي، بين الحياة والموت.

لذا وعلى الرغم مما يشوب هذه المرحلة الصعبة التي أطلق عليها اسم مرحلة ما بعد الحداثة، فإنه لم يزل هناك متسع لتثمير شهادة كمال جنبلاط المعلم الهرمسي، والاشتراكي الأخلاقي، والشرقي الاشراقي، والغربي الهليني، والعروبي العلماني، والمسيحي الغنوصي، والإسلامي العرفاني، والمفكر السياسي الانساني الحديث، الذي ما يزال طيف حدوسه ماثلا في المشهدية البادية لنا في كل ما يجري من أحداث على الساحات كافة، محلية كانت أم اقليمية ام دولية.

إنَّ اتساع ورحابة فكر المعلم الشهيد كمال جنبلاط يمكن أن يتيح لنا إحداث تثوير في المسألة التجمعية،  التي كان يجسدها الحزب كمصطلح وبنية، لنتقاطع في هذا الاتجاه تحديداً، مع من كان يخالفنا الرأي في الإيديولوجية والانتماء، فالأحزاب على حد تعبير كمال يوسف الحاج قوة هشة في مجتمعنا اللبناني، وكذلك نضيف في مجتمعنا العربي، تمَجّها سحنتنا المتديّنة وتمقتها عشائريتنا المتمكنة، كما أصبحت تمقتها الذائقة العصرية لتطور الوعي والحرية، وهذا ليس بمجهول، عند القادة الحزبيين الذين يواجهون جيلا جديدا ليس بصدد التسليم، كما كان يحصل من قبل، بصحة وقدسية الطروحات والصياغات الشمولية والسرديات الكبرى.

وبما أنَّ النظر إلى الظاهرة الحزبية يبدو ملتبساً ومحل جدال غير مجدٍ في الفهم والموقف والتفسير والتبرير، بين حق وباطل، بين مؤمن وكافر، بين عاقل وناقل، فإنه لا بد من العمل على تبديل المصطلح "الحزب" والبنية "التنظيم". ذلك أنه ينبغي النظر إلى ما أحدثه التطور الاتصالي المعلوماتي من تحولات تجمعية مختلفة كليّاً عما كانت عليه الحال في ما سلف من تشكّل حزبوي تقليدي أو حديث على حد سواء. لابد من النظر إلى مصطلح جديد وإلى بنية تجمعية جديدة تأخذ بعين الاهتمام ما فرضته وسائط التواصل الاجتماعي وغيرها من إبداعات الثورة الإتصالية المعلوماتية، من أجل إزاحة ما تراكم ويتراكم في الأذهان من رؤى سلبية تجاه كل ما هو حزبي. 

إنَّ إجراء مثل هذه النقلة النوعية النقدية التثويرية ليس ليتنافر مع فكر المعلم كمال جنبلاط الذي قدم الضمير على الحزب في الخيار الارادوي للمرء بين حزبه وضميره، كما أنه ليس ليبتعد عن الواقع الراهن الذي يتطلب الالتفات الى التحولات العالمية والاقليمية في كافة منحنياتها.
لذا وانطلاقاً مما سبق فإن خير وفاء لذكرى استشهاد كمال جنبلاط يكون في تعزيز النخبة العارفة من خلال ما يمكن تسميته "العزيم" الفكري لاستقطاب الاجيال الجديدة الشابة، التي تبحث عن نهج سوي للحياة المعاصرة تتمكن بواسطته من فهم معنى وجودها وادراك مسؤوليتها الاخلاقية وتفعيل طاقاتها، من أجل بناء حياة مستقرة وبناء الانسان. وهذا الدور منوط إطلاقه بالقيادة الحالية التي يمثلها الزعيم الشاب الأستاذ تيمور وليد جنبلاط، في متابعة تفعيل ما أرساه المعلم من تحكيم النخبة العارفة، للحؤول دون "حكم البلداء" كما أسماه المعلم كمال جنبلاط ويسميه اليوم آلان دو نو "حكم التفهاء، Mediocracy" بعد مضي نصف قرن على الاستشراف الكمالي لحال السياسة التي تخلو من الاخلاق، والثقافة التي تخلو من المسؤولية والرسولية الانسانية.

إن الأمل يحدو كل من تبقّى من الرعيل الأول الذي ناضل مع المعلم كمال جنبلاط ومن تلاه ممن ناضلوا مع القائد التاريخي الفذ، الربّان الوليد، بأن يبدأ الزعيم الشاب الاستاذ تيمور جنبلاط في تأسيس "العزيم التقدمي" إستناداً إلى المثالات الفضائلية للشخصية التجمعية، التي أرساها المعلم الشهيد كمال جنبلاط، ليصار من خلال هذا العزيم، بمعناه الذي يعني السير بشدة وقوة نحو تجمع سياسي مختلف، إلى الخلوص بمعنى النجاة، والتخلص بمعنى التبرؤ، من تسوّد التفاهة واستبداد البلاهة في حكم الناس وإدارة المؤسسات العامة والقطاعات الحيوية في المجتمع والدولة. فبذلك يكون إحياء ذكرى استشهاد المعلم كمال جنبلاط إحياء لقيم السلام والعدل والحرية، وفتحاً لآفاق جديدة من مشارف رؤية الحقيقة الممتدة إلى ما لا نهاية، في كل مسار من مسارات تجليات العقل على مدارات تاريخ الحضارة والانسان في كل مكان.

 
هذه الصفحة مخصّصة لنشر الآراء والمقالات الواردة إلى جريدة "الأنبـاء".