إلى أدونيس

ثائر التيماني

أنباء الشباب

صبّ ماءً مغليًّا على العصفور في قفصه.
لم يكن أيّ عصفور.
هل الببغاء عصفور؟
أيطير؟ لم أرَ ببغاءً يطير (بنوب)
هل فعل ذلك انتقامًا؟ وممّن؟

لا يذكر محدثي ما إذا شعر بلذّة عند صبّه الماء المغلي على طائر هو أيضًا لم يرَ مثيلاً له إلاّ في ما ندر.
سيعود والده إلى المنزل، كعادته يخرج من جيبه كيسًا امتلأ بالنقود. لم تكن النقود سوى من عملة الألف ليرة. ولا يذكر محدّثنا أنه رأى أبيه يخرج غير تلك الفئة النقدية من العملة التي يكرهها. في الواقع هو بات يكره المال وأصحاب رأسه كما يقول.

يجلس أباه عند حافّة السرير ويبدأ بتنظيم وريقات الألف ليرة ليضع الأكثر حداثة منها في النصف ويبدأ بوضع الأقل جودة تحتها. ينتهي من العملية ويعدّها. ونادرًا ما كان يعطي ابنه ألف ليرة واحدة.
دأب جليسنا على جمع كل المال الذي أعطاه إياه والده وأحرقه في يوم لم يكن ليستمتع خلاله بأي شيء آخر. وامتنع عن أخد المال من أبيه مرة أخرى.

– هل كنت كئيبًا لتقدم على فعلٍ كهذا؟
– لا.
والده يلقي نظرة على الطائر من بعيد. لم يره يتقدم وينزل القفص… القفص عالٍ لسببٍ ما. صاحبنا استعان بكرسيٍّ ذي يدين وقف عليهما بعد ان تعذّر وصوله للقفص واقفاً على بطن الكرسي. انزل القفص قبل ان يصب الماء عليه ثم ينشف أرضيته البلاستيكية ويضع الببغاء في الشمس لمدة لا تزيد عن الوقت المتبقي لعودة الوالد من تجواله.

الوالد يرى الببغاء ملقى على أرضية القفص. عرف أنه قد مات وبأن أحدًا لن ينادي إسمه بعد الآن. إبنه يدعوه بابا وزوجته لا تجرؤ على النظر في عينيه فما بالك بمناداته بإسمه؟
في الشارع لا يعرفه أحد وهو لم يبدِ رغبةً بالتعرف على أحدٍ أبدًا.
عقدت أمه صفقة الزواج وكان قد تم كل شيء قبل أن يأتي إلى البيت القديم ذي الدار الفسيحة والنافورة، ويسلخ البنت عن حياتها الهادئة رغم الانشغال والتعب.

من دون التفوه بكلمة واحدة، نظر إلى الرجل الأكبر سنًّا في الغرفة.
الكل يقف بعد أن كانوا بانتظاره في بيت جبليٍّ وقد فرشت الطاولات بما لذّ وطاب من المأكل والمشرب.
نظر الرجل في عيني كبيرهم وقال: أيهن لي؟
أشار الكهل بيمناه وكأنه يبعث بالهواء نحو الرجل الواقف على عتبة الباب ولم يتخطاها نحو الداخل (اللهم إلا ببضعة بوصات).
تقدمت بنتٌ من البنات. رأسها منخفض إلى الأسفل. انشغلت بوخز نفسها بالإبرة التي كانت في جيبها وقتئذٍ. مدّت يدها إلى جيبها وراحت تغرز الإبرة في لحمها.

تنقلت عينا الرجل بين الوجوه قبيل قوله كلمة الوداع ورحيله. لحقته البنت. تنفس الجميع الصعداء.
الآن سيتلوا أحدهم آية قرآنية بصوت خافت. وقد لوحظت ملامح الغيظ على النصراني الذي حاول إخفاءها بابتسامة وهزّة رأس بعد انتهاء الأخير من تلاوة آية لن نعثر عليها في القرآن مهما طال بحثنا عنها، وذلك لكثرة ما ابتدع فيها. ولكنه أصاب في المحافظة على النغمة ليبدو كلامه شبيهًا.

مشت خلفه إلى سيارة أقلتهم إلى منزله. تقسم السيدة لإبنها، والذي بالمناسبة هو محدثنا، أنها لم ترى عينيه لمرة واحدة.

الأب ينظر إلى الببغاء. هل يدرك فعلة ابنه؟
هل يحاول إيجاد تفسيرٍ لموته ؟
يمسك الببغاء من رجلها ويلقيها في راحتي ابنه الواقف إلى الوراء قليلاً.

– كنت قد تدربت على تلك اللحظة. ألاّ أبدي انفعالاتٍ مصطنعة وحضرت جوابًا كتبته على ورقةٍ أحملها معي.

– ماذا حل بالببغاء؟
– لا أعرف. لاحظت عدم وجوده وفكرت أنه رحل من تلقاء نفسه أو أنه من شدة مرضه تمدد على بطنه بحيث لا نراه. وحاولت إلقاء نظرة سريعة عليه ولكن ارتفاع القفص منعني من ذلك.

بعد انتهائه من القراءة يبتسم ابتسامة نصفية ويقهقه قبل أن يفلت منه السعال ويبصق على الارض. “كم كنت ساذجاً؟! ” يقول.

الوالد يبسط الببغاء على راحتي ولده وينهره بركلة.
“قل لـ “الغسالة” بأن تنتفه وتقليه وأحضر لي العرق.”

أكل الرجل ببغاءه بنهم. والإبن توارى عن الأنظار.

في الليل، يقف الوالد فوق فراش ابنه الواطئ وينظر إلى وجهه البريء قبل أن يصب الزيت الحامي عليه من مقلاة.
الصرخة تعلو وتهز الحي بأكمله. الإبن لا يمسح وجهه بغطاء اللحاف. يبلعط صارخًا النار من حنجرته. يحفّ وجهه بالأرض في سجودٍ يشبه وضعية الصلاة إلاّ أنه لم يكن يصلي.

ألقى الوالد بالمقلاة على ظهر الصبي. اصطدمت بظهره وانقلبت على الأرض بينه وبين الفراش فأحرقت بطنه لجهة اليمين. “هنا أنظر”. ومشى الوالد فيما يشبه مشيته يوم أخذ “الغسالة” زوجةً له في ذلك البيت الجردي الكبير.

لم يتوقف الولد عن الصراخ من شدة الفزع والألم. والوالدة ترقد رقدتها الاخيرة.

– لا أعلم لماذا قتلها قبل أن يصب الزيت علي. ربما أدرك بأنه لو لم يفعل لنهشته بأسنانها.

كل هذا قاله لي صديقٌ لا أعرفه على مقعدٍ خشبي قبالة البحر في ليلة باردة دخّن خلالها ما يزيد عن طاقة صدره للإحتمال، مستفيدًا من مخزوني من السجائر. قال لي كل ذلك بعد أن سألته: ماذا حدث لوجهك؟

(أنباء الشباب، الأنباء)

اقرأ أيضاً بقلم ثائر التيماني

هباء

وهم كوتارد

ماذا عن؟