عن إشكالية السياسة والنبوءة السياسية

د. قصي الحسين

يثير كتاب “الخيال السياسي”(**) مسألة من أعقد المسائل وأكثرها إشكالية في التاريخ السياسي والنبوءة السياسية، حين قال بالارتباط القوي بين التاريخ والسياسة، وبأنه من الضروري استلهام أحداث الماضي في فهم الحاضر السياسي والتنبوء بالمستقبل. إذ التاريخ بنظره لم يكن في يوم من الأيام شكلاً من أشكال الأدب التخيلي، ولو أن هناك مجتمعات لا تفرق بين التاريخ والخيال.

ذلك أن العلاقة بين التاريخ والخيال، إنما هي علاقة تبادلية، وأن هناك صلة ما” بين الرواية والتاريخ تندرج في إطار العلاقة بين المادية التاريخيّة وتجلياتها في سياق التمثيل السردي للحياة السياسية. ولا شك أن الحكاية التاريخيّة تنفصل عن الأدب التخيلي، لأنها تحتاج إلى نوع مختلف من المصداقية تجافي بمنطقها “الأسطرة الكاذبة” التي عول عليها السياسيون في مكان ما وزمان ما، بغرض السرقات السياسية الشبيهة إلى حدّ ما بالسرقات الأدبيّة والشعرية.

ويعتبر ما كتبه الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي في “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، من أهم ما كتب في هذا المجال، حيث طرح إشكالية السياسة والنبوءة السياسية، في إطار ما كان يخطط له الإسرائيليون الصهاينة منذ مؤتمر بال في سويسرا لتبرير احتلال فلسطين، بحيث عرض بحثاً تاريخياً وشهادات متناقضة لأشخاص كانوا يعملون في المعتقلات الألمانية في اثناء محاكمة النازيين، وقسم هذه الأساطير، إلى أساطير دينية: تتحدث عن أسطورة الأرض الموعودة وعن شعب الله المختار، وعن اسطورة يهودا والتصفية العرقية. ثم تحدث في المقابل عن الأساطير السياسية: مثل معاداة السامية وعدالة محاكمة نورنبيرغ، واسطورة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وعن جماعات الضغط اليهودية في الغرب التي كانت تنادي بمثل هذه الأكاذيب وتمارسها كحقيقة زائفة لتبرير معجزة إسرائيل الخرافية.

وإشكالية السياسة برأينا، يجب أن لا تكون تحت أي ظرف من الظروف نوعاً من التنبؤ أو التنجيم السياسي، بحيث تبدو لعبة موظفة بدهاء، سخرت زوراً وبهتاناً في خدمة توجهات غير نزيهة، ترمي إلى التأثير الواسع في الرأي العام، حتّى يندفع في الطريق المضللة الذي يريده هؤلاء المتنبؤون الكذبة، لغرض التشويش أو الترويج لكثير من التحليلات السياسية المؤدلجة، والتي تقف وراءها منافع ومصالح فئات وطبقات وسلطات، أكثر من كونها عملية مهنية، تتوسل العلم والأخلاق ولو في حدود دنيا من الرصانة والتدقيق.

وفي هذا المجال، يقول رينيه جيرار في كتابه “كبش الفداء”، عن أن ظاهرة السياسة والنبوءة السياسية، إنما هي عبارة عن لافتة تحمل الكثير من الدلالات الصحيحة والمضللة في آن. فهو يقول إنه في سياق الروايات غير القريبة من الحقيقة، تتحول الروايات الأخرى القريبة من الحقيقة إلى أمر محتمل، والعكس يصح أيضاً. إذ لا يمكن النـزوع إلى التخيل الذي يمارس لمجرد إشباع تلك الرغبة والتلذذ بها. ويضيف قائلاً: “نحن نعترف طبعاً بالأمور الخيالية، ولكنها هنا ليست أي خيال، بل هي خيال خاص لبشر يريدون إشباع رغبة في العنف”.

فالخيال السياسي، إذا تحول إلى تنبوء، إنما يضيع صاحبه في موقف دقيق وحرج جداً. إذ على من يشتغل سياسة، أن يعزله عما يشوبه، وينير فيه الجوانب الملتبسة وما فيها من غموض الحقائق، تماماً مثلما يبين حاجة الحاكم والمحكوم إليه، ويشرح كيف يمكن للسياسة أن تكون أفقاً للنبوءة السياسية والتنبؤ السياسي، من حيث التمييز بين الإيهام والإبهام والإلهام.

يتشابه الخيال مع النبوءة، يقول عمار علي حسن، في جوانب عديدة، وفي مختلف أنماطها. وبمعنى أدق عنده، لا تأتي القدرة على التنبؤ إلاّ كصاحب خيال علمي خصب. غير أن التمييز يقع برأينا بين السياسة المبنية على أسس واقعية وغيرها المتصلة بما يسمى النبوءات السياسية.

والنبوءات السياسية، بإشكالياتها المتعددة، إنما تجعلها من نوع النبوءات المحققة لذاتها، وهي التي تحدث بالفعل في الواقع المعاش. والنبوءات الهازمة لذاتها، مثل توقع اندلاع حرب أهلية، فتنتفض أجهزة الدولة لتفادي هذا المنـزلق الخطر. والنبوءات في حدّ ذاتها، وهي تلفت انتباه الناس إلى موضوعات معينة وتقدح الذهن في التفكير بها.

وأخطر ما في النبوءة السياسة، أن تقوم على الخوارق أو على الإلهام الديني، أو على أعمال السحر والتنجيم. إذ تخرج وتنبتّ في هذه الحالة عن التفكير العلمي ذي المنهج المحدد الصارم. فالتنبؤ السياسي، هو برأينا علم المستقبل والدراسات المستقبلية التي تفتح آفاقاً لـ”عمل الفكر والخيال في دراسة مستقبلات ممكنة Possible future”. وهو ما يؤدي إلى توسيع نطاق الخيارات البشرية، مما يعزز القدرة على استشراف المستقبل، إذ النبوءة السياسية هي بكل تأكيد علم المستقبل أو المستقبلية Futurology لا علم التضليل والتلصص السياسي.

* أستاذ في الجامعة اللبنانية

(**)  عمار علي حسن: الخيال السياسي، سلسلة عالم المعرفة العدد 453، اكتوبر 2017.

اقرأ أيضاً بقلم د. قصي الحسين

كمال جنبلاط البيئي وإلتقاط البرهة!

مجتمع البستنة

الدكتور اسكندر بشير التجربة والرؤيا الإدارية

 ساق الحرب

جائزة إدلب

جميل ملاعب والقدس: تأبيد الرؤيويات البصرية

جسر السلام: ثوابت كمال جنبلاط الفلسطينية التاريخيّة

القتل السري عن كمال جنبلاط والقتل السياسي

حين السياسة بمفعول رجعي

ترامب والتربح من الصفقات

عن النظام يأكل أبناءه الفوعة وكفريا نموذجاً

مصطفى فروخ وطريقه إلى الفن

 الرئيس القوي

 د. حسين كنعان وأركيولوجيا القيافة والثقافة والسياسة

 ضياء تلك الأيام

 عن كمال جنبلاط والفرح بالعمل

 تتجير السلطة

تيمور جنبلاط بصحبة والده في السعودية زيارة تاريخية إحيائية

 كوفية تيمور ومليونية القدس وجه آخر للاضطهاد والإحتلال

تجديد “نسب الخيل لابن الكلبي” ونسخ لمخطوطاته التراثية الثلاث