نشأة مبدأ ” المواطنة” في مصر/ د.وليم قلادة

المرحوم الدكتور وليم سليمان قلادة ،باحث ومفكر مصري، له العديد من المؤلفات حول قضية المواطنة والأقباط في مصر ناهيك عن تاريخه النضالي السياسي في خدمة قضايا الشعوب.

مقدمة

حقوق الانسان نوعان: الحقوق المدنية والحقوق السياسية. الأولى تهدف الى ضمان مجال شخصي لكل عضو في الجماعة يمارس فيه بحرية نشاطأ خاصاً دون تدخل من الغير أو من الدولة طالما انه لم يرتكب ما يخالف القانون. مثل حرية الرأى وحرمة المنزل وحق الملكية.

أما النوع الآخر من الحقوق فهو أكثر فاعلية-اذ تضمن لصاحبها المساهمة الايجابية في ممارسة السلطة العامة في بلده-من خلال المشاركة في مؤسسات الحكم السياسية والقانونية والدستورية.

ولا تكون صفة المواطنة الا لمن تكون له-طبقاً للدستور والقانون، هذا النوع الثاني من الحقوق اي ان المواطن هو الذي يشارك في حكم بلاده. اما الافراد المقيمون على ارضها والذين يجبرون على الانصياع للأوامر الصادرة دون ان يسهموا بشكل ما في اعدادها واصدارها – مثل الاجانب، هؤلاء السكان-مع امكانية تمتعهم بالحقوق المدنية- لا يمكن اعتبارهم مواطنين. أي أعضاء أصلاً في الجماعة السياسية يساهمون في توجيه حياتها.

هكذا يمكن القول بأن النوع الاول من الحقوق هي حقوق الانسان بصفة عامة. اما النوع الثاني فهى حقوق المواطن.

ويعتبر وعي الانسان بأنه مواطن أصيل في بلاده وليس مجرد مقيم يخضع لنظام معين دون ان يشارك في صنع القرارات داخل هذا النظام-هذا الوعي بالمواطنة يعتبر نقطة البدء الاساسية في تشكيل نظرته الى نفسه والى بلاده والى شركائه في صفة المواطنة:

فعلى اساس هذه المشاركة يكون الانتماء الى الوطن ومن خلال المشاركة تأتي المساواة، فلكل مواطن نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات فلصفة المواطنة ركنان: المشاركة والمساواة.

ومن ثم يأتي جهد الشخص في إطار الجماعة السياسية لممارسة صفة المواطنة والتمسك بها، والدفاع عنها. وحين تنجح الجماعة في حركتها الوطنية والدستورية، أي حين تنجح الجماعة في استخلاص حقوق المواطن والمواطن تتبدى “اللحظة الدستورية”: فتتحول الأرض الى “وطن”، والإنسان الذي يحيا عليها ويشارك في صياغة حياتها الى”مواطن”. حينئذ يسجل مضمون هذه اللحظة في وثيقة هي “الدستور”.

واللحظة الدستورية هي التعبير عن “الشرعية” التي سندها حركة الجماعة، والمطلوب إذن أن يعيش المجتمع في لحظة دستورية دائمة، ذلك أنه كي تتواصل الحياة في المجتمع على أساس مبدأ الشرعية، لابد أن ينطوي قانون أو لائحة أو قرار أو عمل يصدر عن السلطة، بل عن أي مواطن أو مجموعة من المواطنين-لابد أن ينطوي هذا كله على مضمون اللحظة الدستورية، فيكون استعادة لحضورها وإستمراراً لها.

ونحن نتابع نشأة مبدأ ” المواطنة ” في مصر في قسمين-الأول، نخصصه لأصول المبدأ والثاني لمسار الحركة التي جاء المبدأ ثمرة لها. ونحن نمضي في هذا المسار خلال القرن التاسع عشر الذي حققت فيه الحركة إنجازات تاريخية حاسمة، لم تجد بريطانيا من سبيل لمواجهتها إلا بإحتلال مصر. لتبدأ صفحة جديدة من الحركة الوطنية والدستورية.

1-  الأصول: الحركة الدستورية

تبزغ اللحظة الدستورية حين تنجح الجماعة في حركتها الوطنية والدستورية.

إن كلمة “حركة ” هنا مقصودة وهامة ذلك النظام الدستوري الأصيل والفعال لا يقوم في جماعة مجرد إعلان مبدأ أو نص موضوع أو مستورد من المكان أو الزمان-كما انه ليس نتيجة تستخلص من بناء نظري. بل إن هذا النظام لا تصبح له قوة وفاعلية إلا إذا كان تسجيلاً لإنجازات حركة تجري على صعيد الواقع-تسود فيها العناصر ذات الوعي والارادة -من أجل إستخلاص حقوق المحكومين. وإذ تصل الجماعة من خلال حركتها إلى إجماع، يصير التعبير عنه في نص.

وإذن -فلا يكفي ا لقول بثبوت الحقوق السياسية لأعضاء جماعة معينة وجود “نصوص” تقرر ذلك في وثيقة خاصة كالدستور أو اعلانات الحقوق. فقد لوحظ ان العديد من الدول لها دساتير تتضمن نظماً سياسية مثالية، وقوائم لحقوق يفترض ان يتمتع بها رعايا تلك الدول-في حين ان هذا أبعد ما يكون عن ما يطبق في الواقع. ومن ثم جاءت التفرقة بين “الدستور-البرنامج” Constitution-Programme  الذي يتضمن شئياً مرجواً في المستقبل القريب أو البعيد، ولا ينظم علاقات حقوقاً والتزامات كأنه بالفعل- وبين “الدستور- القانون” -constitution loi الذي يعبر عن حقيقة واقعية، فيكون من الطبيعي ان تطبق احكامه بانتظام واضطراد كما هو الشأن في قواعد القانون الوضعي. والرأي انه لا يسوغ إطلاق اسم “الدستور” بالمعنى الفني لهذه الوثيقة الا على هذا النوع الأخير. اما مجرد تجميع نصوص برنامجية لتكون “دستوراً” فإنه يكون مسخاً للمفهوم الأصيل لهذه الوثيقة لأنها لم تأت تعبيراً عن حركة تمت في الواقع.

وإذن فلكي نتبين نشأة مفهوم المواطنة في مصر علينا ان نتابع الحركة الدستورية المصرية، لكي نعرف متى وكيف بزغت اللحظة الدستورية المنطوية على اقرار مبدأ المواطنة صفة لكل مصري.

وثمة حقيقة أساسية في التاريخ المصري وهي ان “الانفصال القاطع” بين الحكام والمحكومين استمر على مدى مئات- آلاف السنين ان خطأ أفقياً حاسماً – حاجزاً يقسم المجتمع المصري الى شريحتين: أعلى الخط الفاصل يجثم الحكام، يتمسكون بأسانيد يمارسون على أساسها اخضاع المحكومين ويبررون بها في مواجهتهم سلطتهم بما يضمن بقاء هذه السلطة في ايديهم واستمرار تداولها فيما بينهم طبقاً للنظم التي اقاموها لتأييد مراكزهم. هذه الاسانيد والنظم التي يقيمون شرعية الحكم طبقاً لها هي مضمون “وفقه[1] الحكام”.

وأسفل الحاجز يقر المحكومين “أهل الأرض”[2] بجميع مكوناتهم – ولهم ايضاً مفاهيمهم وتوجههم وعلاقاتهم بعضهم البعض وبالحكام. وهم ليسوا قابعين أسفل الحاجز في سكون بل ثمة حركة تتراكم مقوماتها الجغرافية والانتاجية والحضارية والفكرية- ينهض بها المحكومون وتنطلق من شعورهم بالظلم الذي يمارسه عليهم الحكام فيرفض المحكومون الخضوع لفقه الحكام ويصممون على اختراق حاجز السلطة واحتلال مراكز الذين يحكمونهم بالقهر ويقوم بين المحكومين عقد اجتماعي صريح أو ضمني يقرر حقوقهم والتزاماتهم في المستقبل على اساس المشاركة والمساواة. وتمضي الحركة قدماً وتنجز في هذا التوجه خطوات متتالية وان في بطء شديد هذه المقومات والمفاهيم والتوجهات والعلاقات وآليات الحركة -هذا كله هو مضمون “فقه المحكومين”.

ويبدو واضحاً ان تكوين كل شريحة على جانبي هذا الحاجز ومفاهيمها والعلاقات في داخلها ووظيفتها واهدافها ونظرتها الى نفسها والى الآخر والى البلد الذي تقيم فيه -هذا كله يختلف نوعياً عن ما لدى الشريحة الأخرى. وغني عن البيان ان الفرق بين الشريحتين جعل شعور أهل الأرض المحكومين المصريين بالوحدة والتميز والخصوصية أمراً طبيعياً.

وحين تنجح الحركة الدستورية-الوطنية في اختراق حاجز السلطة ليجلس المحكومين معاً في مراكز السلطة ويتبدى اجماع الشعب حول منطلق لمشروع وطني للنهضة، ويبدأ إعمال مضمون العقد الاجتماعي الذي قام بين المحكومين أثناء حركتهم- فثم “اللحظة الدستورية”- لحظة الحق في التاريخ المصري، تتحول فيها الارض الى “وطن” ويتحول الانسان الذي يحيا عليها ويشارك في حركتها الى “مواطن”. وحينئذ يسجل انجازات هذه اللحظة في وثيقة هي الدستور الذي يعبر عن الاجماع الوطني.

وكما راكم أهل الارض معاً أثناء فترة القهر والكفاح فقه المحكومين فإنهم يصيغون بعد نجاح حركتهم “فقه المواطنة” بعنصريها الأساسيين: المشاركة والمساواة.

ويمكن ايجاز التاريخ السياسي المصري في عبارة واحدة: انه مسار اختراق المحكومين لحاجز السلطة وجلوسهم في مراكز الحكام.

اذن فالنظام الدستوري وجوهره مبدأ المواطنة هو تعبير عن حركة المحكومين لعبور حاجز السلطة. فيكون السؤال المطروح هو متى تم هذا العبور الذي أدى الى نشأة مبدأ المواطنة-وكيف…

وفي حقيقة الأمر فإن العلاقة بين مكونات الجماعة المصرية- الاقباط والمسلمين، لم تحدد في العصر الحديث على اساس نصوص مسبقة أو في صياغات مجردة، أو عن طريق فحص مباشر لهذا الموضوع بين هذه المكونات. فالحقيقة التي يكشف عنها التاريخ المصري ان هذه العلاقة أفصح عنها مسار الحياة العامة المشتركة التي مارستها الجماعة كلها في المجال الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي وهي حركة لها عمقها التاريخي والوجداني والحضاري المتأصل في مقومات الكيان المصري. فالمواطنة في مصر سندها ليس النص أو النظرية بل الحركة التي قامت بها الجماعة بكل مكوناتها.

إننا نفتش عن الجذور الدفينة للحركة الدستورية – الاصول الجنينية لمفاهيمها، في طبقات الوجدان والوعي التاريخي لدى المصريين. فالظلم والحرمان من الحقوق قديم في مصر وايضاً الرفض والمقاومة والسعي الى التغيير. إن العمل لإقامة جماعة يتحقق فيها العدل “لأهل الأرض” لم يتوقف قط من جانب المصريين، نعم ان مسيرة الشعب مضت ترسب في صبر وأناة أسس هذا المستقبل على مدى قرون مستطيلة ولكن الاستمرارية لم تنقطع والمسعى لم يفشل. لابد اذن من الالتصاق الشديد بالأرض الصلبة التي للخبرة التاريخية- وبدون ذلك يظل الدستور قشرة فوقية موضوعة على سطح المجتمع وليس ثمرة نابعة من أرضية متغلغلة جذورها في اعماقها. على الد ارس ان يمتحن خبرة حركة الجماعة واصولها ومراحل تطورها- ومن ذلك كله يستخلص اسس التنظيم الدستوري وفي الجوهر منه مبدأ المواطنة هذا- وان نضوج التجربة المصرية ورسوخها هذا كله يأتي من أن كل مرحلة من مراحلها تستغرق فترة زمنية مستطيلة تتراكم فيها خبرة المرحلة وئيداً-حتى إذا جاءت مرحلة جديدة لم تدخلها مصر من فراغ أو تدخلها كصفحة بيضاء مستسلمة لمن يضع فيها ما يشاء بإرادته المطلقة، بل تضم ما تكتسبه من جديد  إلى الذي لديها من قبل. ولا يتم هذا في تراكم سكوني لطبقات جامدة مصمتة، بل يحدث تفاعل حيوي بين القديم والموروث وما يأتي بعده ليتحد به فيصبح بدوره جزءاً من الموروث. ليكون التغيير الذي يتحقق بهذا التدرج الوئيد الثابت الخطى – تركيباً مصرياً متميزاً بذاته.قادراً على الارتباط في كيانات أكبر يفرز فيها آثاره الحضارية كنموذج رائد لاحترام حقوق الإنسان ووحدة البشرية.

هكذا تأتي لحظة الحق في مسار الحركة الدستورية المصرية. هذه هي اللحظة الدستورية المصرية. هذه هي اللحظة الدستورية التي تمثل ” القمة في تاريخ تطوري طويل ومعقد للغاية”.

هذه اللحظة هي البؤرة التي منها تصدر، وإليها ترجع، ولها تخضع – كل تفصيلات الحياة الدستورية للكيان المصري الموحد. وهي المعيار المرجعي الذي يتجه نحوه مسار الحركة، وعلى أساسه تقيّم الأحداث والنظم. وهي العنصر الأساس في الذاكرة الوطنية الذي يجب أن يكون حاضراً في كل قرار أو فعل من جميع مؤسسات الجماعة، وفي العلاقات بين مكوناتها وأعضائها.

ومن ثم يتقن المواطنون ” ملكة الحكم ” وأن تتأصل في علاقاتهم بالحاكم وببعضهم البعض “الأخلاق الدستورية”-حسبما عبر لطفي السيد.

ومن المسلم به أن النظام الدستوري بالمفهوم الصحيح-أي الذي هو نتيجة لحركة من المحكومين لإختراق حاجز السلطة وإقامة نظام شرعي – هذا النظام يتعين أول كل شيء أن يصدر عن مفهوم للإنسان يحفظ له كرامته ويضمن حقوقه في مختلف المجالات. فحركة المحكومين تنطلق أساساً في مواجهة نظام يهدر كرامة الإنسان والأرض وينفي حقوقهما وتجهد لإقامة نظام جديد يصحح الأوضاع.

ومن المعروف أن وعي البشر في مصر يستمد الجزء الأكبر فيه – من الدين. ويتضمن التراث الديني المصري-  وكذلك الممارسة الدينية للمصريين تقديراً خاصاً للإنسان – تترتب عليه في مجال السياسة والحكم نتائج هامة.

لذلك يكون من الطبيعي أن يكون المدخل للتعرف على حركة المحكومين المصريين في مختلف مراحلها – هو متابعة ذلك التراث وهذه الممارسة.

ولقد عاش المصريون ستة قرون مسيحية يمارسون دينهم في إطار الكنيسة القبطية.

ثم وفد الاسلام الى مصر حوالي منتصف القرن السابع الميلادي.

ونتابع ما رسبه الدينان في اعماق الوجدان المصري من مفاهيم بشأن الانسان والأرض والجماعة.

2-  الأصول: الكنيسة القبطة

نبدأ بمرحلة تعمق فيها الانفصال بين الحكام والمحكومين، وذلك منذ غزو الرومان لبلادنا ودخولها ضمن الامبراطورية الرومانية. وجرى أثناء ذلك مجىء المسيحية الى مصر واعتناق المصريين لها. حوالي متنصف القرن الأول الميلادي.

ومنذ أن اعتنق المصريون المسيحية، إلتأم المؤمنون المحكومون في جماعة منظمة هي “الكنيسة القبطية” – أقدم مؤسسة شعبية في مصر، ومازالت مستمرة دون انقطاع ما يقرب من عشرين قرناً تؤدي مهمتها وهي كيان مستقل له رئاسته وتنظيمه المكتمل والمكتفى بذاته داخل مصر.

كان الانفصال بين الحكام والمحكومين كاملاً: عنصرياً ودينياً وطبقياً ولغوياً وحضارياً. واستمر هذا الانفصال بعد ان الحقت مصر بالقسم الشرقي البيزنطي من الامبراطورية الرومانية. واستوعبت الكنيسة القبطية الكيان المصري كله: الأرض والشعب. وصاغ المصريون رؤيتهم لانفسهم ولأرضهم ونهضوا للمقاومة – ذلك كله تم في اطار مؤسستهم الشعبية، التي كانت الحاضنة الوحيدة للوجدان المصري والتطلعات المصرية ستة قرون كاملة. كانت هذه الفترة هي مرحلة التكوين والتنشئة للشعب المصري.

في هذا الحضن الرءوم تربى المصريون وتعلموا ومارسوا حياة رفيعة المستوى في مختلف المجالات وصمدوا في مواجهة الاضطهادات القاسية من الرومان الوثنيين ثم البيزنطيين. وكان من الطبيعي بالنسبة لشعب مقهور يحكمه الاجانب محروم من ان ينتظم كجماعة سياسية- أن تكون المؤسسة الدينية الشعبية هي مجال نشاطه ومصدر وعيه. هذه هي بداية فقه المحكومين.

كانت الكنيسة القبطية في الوعي الشعبي مرادفاً لمصر، ورجالها هم المعبرون عن صوت مصر. وعبر هذه القرون الطويلة كانت مصر ولاية – مستعمرة تابعة لدولة عظمى – ولكن لها كنيسة مستقلة. ويقرر الدارسون ان الكنيسة المصرية أصبحت لدى المصريين رمزاً للاستقلال القومي في غياب الاستقلال السياسي. لذلك يكون من الطبيعي ان تستقر في الوجدان المصري، بوعي أو في العمق الدفين- أمنية: ان تصبح مصر، ككنيستها، مستقلة غير تابعة. هكذا عاشت الكنيسة القبطية في العقل الجمعي المصري رؤياً مستقبلية للدول المصرية المستقلة ذات السيادة.

وللإنسان في عقيدة الاقباط مكانة كبيرة، ومن ثم أهمية هذا العنصر في مسار حركة المحكومين. فمن المسلم به ان أي نظام دستوري أصيل لابد ان يبني على مفهوم للإنسان يحفظ له كرامته ويضمن حقوقه.

إن الكتاب المقدس يجعل مجيء الإنسان كمالاً للجمال الذي استقر في الخليقة ونما فيها يوماً بعد يوم، يقول سفر التكوين انه بعد أن خلق الله الإنسان “رأى الله كل ما عمله، فإذا هو حسن (جميل) جداً” (31:1) لأن الله كما يقول هذا السفر خلق الانسان على صورته ومثاله وفي المسيحية يبلغ تقدير الله للانسان الى حد ان كلمة الله ظهر في شكل انسان.

وفي تراث الكنيسة القبطية للإنسان “قيمة عظمى” حتى ان ” من يعرف نفسه يعرف الله…” ويقرر الدارسون ان الفلاح المصري وجد في المسيحية تعبيراً عن كرامته ووعياً بها كان منذ زمن بعيد قد فقده” ولهذا فإن “مصر كانت واحدة من البلاد التي كان اقتتال المسيحية فيها عاماً وبحماس.

وكما سبق القول فقد استوعبت الكنيسة القبطية أرض مصر والقت عليها بردة دينية منعمة بالحب والبركة، حين أراد سفر التكوين ان يمدح أرضاً قال عنها:” كجنة الرب، كأرض مصر” (10:13) وترجم الاقباط ذلك في ممارساتهم الدينية، فطقوس الكنيسة في كل قداس تتضمن صلوات من أجل أرض مصر ونيلها وزرعها وثمارها وشعبها. والحديث الى الله يمضي شعراً كله أوصاف خلابة، الأرض فيها عروس تفرح بمجىء النيل، تتزين له آثار الحرث والاعداد كي يأتي ويلبسها تاجاً أخضر رائعاً تسعد به من أول السنة الى أن يتحول في النهاية ثمراً وليداً مباركاً.

وفي ثلاث مناسبات كل عام تصلي الكنيسة صلاة اللقان، وهي كلمة تعني إناء يملاً بماء النيل – تصلي الكنيسة لتحل البركة في النيل. واستمراراً لاعتبار أرض مصر هي جنة الرب تطلق الكنيسة على النيل اسم أحد انهار الجنة التي وردت في سفر التكوين.

هكذا أسبوعاً في اثر أسبوع، بل اكثر من مرة في الاسبوع الواحد-في كل قداس، ومن عام الى عام تفيض قلوب الاقباط تضرعاً من أجل بلادهم وشعبها وفي أقدس اللحظات يقدمون بشأنها صلوات مفعمة حباً وإخلاصاً.

هذا نموذج مما يقدمه معهد التدريب الأساسي، الكنيسة المصرية، المدرسة الأولية – التي انتظم فيها المصريون جميعاً ستة قرون كاملة. والمدلول الانساني التربوي واضح: فالكنيسة القبطية تعمق حب الوطن في نفوس أبنائها، وتعبر عن هذا الحب في لحظات الاخلاص والتعبد والضمير النقي الذي يقف أمام الله فاحص القلوب والسرائر.

3-  الأصول: مع الاسلام

وحين يحل العام 640 م يصل عمرو بن العاص ويدخل الاسلام الى مصر. ويبدأ شعبها منذئذ يمارس حياة التعدد الديني-المسيحية والاسلام.

ولقد كانت بداية حياة المجتمع التعددي الوئامي في مصر – ذلك اللقاء التاريخي بين عمرو وبنيامين بابا الكنيسة القبطية الثامن والثلاثين. لقد سجل المؤرخان عبد الرحمن بن عبد الحكم وساويرس ابن المقفع هذا اللقاء الودي. كما حفظ الكتاب الذي يضم يوميات أخبار القديسين ويقرأ أثناء الصلوات في الكنيسة حفظ ذكراً طيباً لعمرو.

 ويحفظ الإسلام للإنسان الكرامة ويضمن حقوقه جاء في القرآن الكريم “ولقد كرمنا بني أدم..” ويصل هذا التقدير الى حد ان الله تعالى طلب من الملائكة ان تسجد له:” واذ قال ربك للملائكة اني خالق بشراً… فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين… واذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا…”

والانسان في الاسلام خليفة الله، جاء في القرآن الكريم: قال ربك اني جاعل في الارض خليفة… كما انه حامل الامانة: إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان…”

ويقرر العلماء ان الآيات التي تمجد الانسان وتعلي مرتبته تتناول الانسان لذاته لا لإعتقاده وقبل ان يصبح مسلماً أو نصرانياً أو يهودياً أو بوذياً.

ولقد اعتز الفكر الإسلامي المصري بالأرض المصرية وبشعبها منذ بداية اتصاله بهما، يتجلى هذا الاعتزاز بوضوح مبهر في الكتاب الاول الذي يتضمن وقائع فتح مصر، فتوح مصر واخبارها، الذي كتبه عبد الرحمن بن عبد الحكم.

ولقد بدأ ابن عبد الحكم تقليداً سيظل يتبعه المؤرخون المصريون جيلاً بعد جيل وهم ان يستفتحوا تأريخ بلدهم بذكر “فضائل مصر” يبدأ المؤرخ الأول هذه الفضائل بنص لصحابي جليل هو عبدالله بن عمرو يحتفي به بعنصرى الخصوصية المصرية الرئيسيين: الأرض والشعب.

فعن أرض مصر قال: “من أراد ان يذكر الفردوس أو ينظر الى مثلها في الدنيا – فلينظر الى مصر حين تخضر زروعها وتنور ثمارها”.

هنا تتبدى الاستمرارية في الوعي بالخصوصية المصرية، فلقد رأينا التراث المسيحي يعتبر أرض مصر كجنة الرب. بل اننا نقرأ في التراث الاسلامي المصري ان النيل هو أحد انهار الجنة.

وعن شعب مصر يقول عبدالله بن عمرو: “قبط مصر أكرم (الناس خارج الجزيرة العربية) كلهم واسمحهم يداً وأفضلهم عنصراً وأقربهم رحماً بالعرب”.

وتظل هذه الاقوال تترد لدى المؤرخين جيلاً بعد جيل، بل يضيف اليها الخلف اكثر مما قاله السلف. ففي القرن الحادي عشر للهجرة يورد واحد من اكابر العلماء قول عبدالله بن عمرو عن الاقباط ويضيف اليه انهم من ذرية الانبياء.

ويوردالمؤرخون المتأخرون القول بأن النيل ينبع من الجنة-ويضيفون إليه أن ماءه عسل. بل يبالغ واحد منهم فيقول أنه ” لولا دخول (ماء النيل) في البحر المالح وما يختلط به منه، لم يستطيع أحد شربه لشدة حلاوته “.

ويستمر هذا التقليد لدى رفاعة الطهطاوي في القرن التاسع عشر في كل كتبه. فهو يورد ما قاله السابقون، ويضيف إليه. فلديه أن مصر هي ” أم الدنيا ”  ” أم أمم الدنيا ” ويؤكد الطهطاوي البردية الدينية التي يلقيها التراث على مصر فهو يورد حديثاً يقول ” حب الوطن من الإيمان “

ويقول إنه ” عندنا معشر الإسلام : حب الوطن شعبة من شعب الإيمان ” ويصوغ هذا الحديث في قصائد وأناشيد عديدة.

وهنا ترد الوثيقة الدستورية الهامة التي وضعها الرسول في المدينة ويعرفها التاريخ بإسم “الصحيفة”. هنا نجد التطور الإسلامي الأصيل للمجتمع التعددي الوئامي، فلقد كان في المدينة المسلمون-المهاجرون والأنصار من ناحية، والقبائل اليهودية من ناحية أخرى :

تبدأ الصحيفة ببيان الحقوق والإلتزامات المتبادلة بين المسلمين وبعضهم البعض فتقول إنهم ” أمة واحدة “. ثم تستخدم الصحيفة المصطلح نفسه لبيان العلاقة بين المسلمين واليهود فتقول ” إن اليهود… أمة مع المؤمنين – لليهود دينهم وللمسلمين دينهم… ” وبعد أن قررت الصحيفة مبدأ وحدة الأمة تورد تفصيل المبدأ ببيان الحقوق والواجبات المتبادلة : التعاون في الإنفاق والنصرة ” على من حارب أهل هذه الصحيفة ” وتضيف مبدأ الشورى بين مكونات  الأمة فتقول ” وإن بينهم النصح والنصيحة “.

وللأسف فإن ظروف الحياة في المجتمع المديني لم يكن وئاماً بل صراعاً. وكما يقول د.محمد سليم العوا إنه لولا نقض يهود المدينة عهدهم لبقيت الصحيفة مطبقة.

ولكن في مصر-أخذ التعدد الديني صورة أخرى هي نقيض نوع الحياة في المدينة.

في نص من القرن الثاني الميلادي منسوب إلى عميد مدرسة الاسكندرية، وضع الكاتب المعلم المنهج الذي لن يحيد عنه الأقباط قط، يقول إن المسيحيين لا ينعزلون في أماكن مقصورة عليهم، ولا يتكلمون لغة خاصة بهم، ولا يرتدون ملابس تميزهم عن سائر الناس. ولا يتبعون أسلوب حياة غير مألوف. يعيشون وسط جميع الشعوب،وبينما هم يمارسون العادات المحلية في ملابسهم وطعامهم وطريقة معيشتهم-يظهرون الأخلاق المميزة لحياتهم، يؤدون واجباتهم كمواطنين، يطيعون القوانين الوضعية ولكنهم في سلوكهم يسمون على القوانين.

نجد تطبيقاً لهذا المبدأ في ما حفظه العهد الجديد  من مسلك القديس بولس الرسول، حيث نجده وهو الرسول المسيحي البارز يتمسك بصفته كمواطن روماني وبما يترتب على هذه الصفة من الحقوق.

تدعو المسيحية المؤمنين بها إلى عدم التخلي عن إنتماءاتهم الوطنية والسياسية، بل عليهم من ناحية – التمسك بحقوقهم المستمدة من النظام المدني القائم، ومن ناحية أخرى أن يؤدوا إلتزاماتهم نحوه.

فعن الناحية الأولى : يتكرر في سفر أعمال الرسل تمسك بولس بجنسيته كمواطن روماني، في إحدى المواجهات بين بولس واليهود، أمر القائد جنوده أن يدخلوا بولس إلى الثكنة وأن يستجوبوه تحت جلد السياط ليعرف سبب الهتافات الصاخبة ضده.فلما مدوه للسياط قال بولس لقائد المائة الواقف : ” أيجوز لكم أن تجلدوا مواطناً رومانياً عن غير أن تحاكموه “. فذهب قائد المائة إلى الأمير وأطلعه على الأمر. وقال : ” أتعلم أية مخالفة كنا سنرتكبها لو جلدنا هذا الرجل – إنه روماني الجنسية ” فجاء الأمير بنفسه إلى بولس وسأله : ” أأنت حقاً روماني ” فأجابه : نعم. فقال الأمير : أنا دفعت مبلغاً كبيراً من المال لأحصل على الجنسية الرومانية. فقال بولس : وأنا حاصل عليها بالولادة.

 يقول سفر الأعمال : ” وفي الحال إبتعد عنه الجنود المكلفون بإستجوابه تحت جلد السياط، ووقع الخوف في نفس الأمير من عاقبة تقييده بالسلاسل بعدما تحقق إنه روماني”(29-24 :22)

وتشبه هذه الواقعة أخرى، حدثت في مدينة فيلبى، حيث أمسك الولاة بولس ورفيقه وأمروا أن يضربا بالعصى فجلدوهما كثيراً وألقوهما في السجن. وإذا لم يكن على الرسولين مأخذ قرر الولاة الإفراج عنهما. فلما وصل خبر الإفراج إلى بولس قال : ” جلدونا جهراً بغير محاكمة ونحن مواطنان رومانيان وزجوا بنا في السجن – أفلآن يطلقون سراحنا سراً – كلا، بل ليأتو هم أنفسهم ويخرجونا ” فنقل الجلادون هذا الكلام إلى الحكام. فلما عرفوا أنهما رومانيان خافوا. فجاءوا إليهما يعتذرون، ثم أطلقوهما وطلبوا إليهما أن يرحلا عن المدينة ” ( أعمال 16: 22-24، 35-40).

4- الأصول: مقومات الكيان المصري

في زمن الأزمة، يحتاج الإنسان – شخصاً وجماعة – إلى إعادة تذكر البديهيات، التي يكون مجرد طرحها في الزمن السوى تزيداً لا حاجة للناس اليه – لأن هذه البديهيات مستقرة في اعماقهم وتوجه تصرفاتهم وتكون عناصر وعيهم.. اما السلوك في زمن الازمة فإنه يكشف عن اضطراب في استقرار البديهيات في وجدان البعض – ومن ثم يكون تذكرها واحداً من أهم العوامل المؤدية الى تصحيح التوجه وبالتالي الى الخروج من الازمة. وفي مقدمة البديهيات يحتاج البعض الى تذكرها تأتي “مقومات الكيان المصري” – نعني بذلك العوامل التكوينية – المادية والمعنوية – التي صنعت منذ فجر الزمان، وفي العصور الحديثة – الكيان المصري. فالمتابع المتأني للتاريخ المصري يجد أمامه معطيات طبيعية وبشرية وثقافية وتنظيمية مستمرة ومتطورة، تراكمت على مدى العصور فأصبحت هي العناصر التكوينية للكيان المصري: اندمجت هذه المقومات وتفاعلت ونشطت وولدت طاقة كانت هي قوة الدفع والمحرك الدائم للحركة المصرية في كافة مجالات الحياة، بحيث انه يمكن النظر الى انجازات هذه الحركة على انها التعبير الطبيعي المكافىء لمقومات الكيان المصري.

هذه المعطيات تستقر- أكثر عمقاً وتأصلاً من المفهوم التقليدي للبنية التحتية.

تضم هذه المقومات: الجغرافيا، والبشر، والمشروع الجماعي، وقيام الدولة، والحضارة، والتعددية الدينية، والتاريخ.

هذه المقومات كلها يستوعبها رضا أهل الأرض بالحياة المشتركة، فثمة تطابق ارادة أعضاء الجماعة للعمل على تحقيق هدف موحد. بهذا يتحول التجمع الى مجتمع واع متضامن يوجه التحديات موحداً ويتغلب عليها. والمهم هنا ان هذا الرضا ليس مجرد واقعة حدثت وحسب بل ان الرضا يتواصل ويجري دوماً اقراره وتدعيمه بالحياة المشتركة. فليس الامر وحسب تقاليد وصلت من الماضي- بل ثمة التطلع الى المستقبل والاعداد لمجيئه: ان النظرة المشتركة الى الماضي تكون هي التعبير عن التصور الموحد للمستقبل. فالمجتمع في جوهره ظاهرة ذات طبيعة معنوية تنطوي على الوعي الجمعي الذي يستوعب الجماعة كلها.

نتوقف عند عنصر هام من هذه المقومات هو التعددية الدينية على ارض الوحدة.

ان المطلق بحسب تعريفه يستبعد اي مطلق آخر. وفي مصر وبعد دخول الاسلام وفي اطار العوامل الموضوعية التي تشكل مقومات الكيان المصري، وايضاً مسار الحركة المصرية ومع الاعتراف الذي يبديه الاسلام بالمسيحية والسماح لمعتنقيها بالبقاء على دينهم والقيام بنشاطهم الاجتماعي والاقتصادي والاداري في الحدود التي يرسمها نظام الدولة في هذه الظروف امكن الشعب المصري ان يبدع اسلوب حياة لا يستبعد فيه مطلق مطلقاً آخر. واتيحت فرصة لهذا التعايش ان يستمر وان تتأصل جذوره بل وان يواصل تطوره الى مزيد من الامتزاج والوحدة بين مكونات الشعب. ومن ثم:

أولاً: تزايد اقتناع الشعب مع تواصل حركته الوطنية والدستورية بعدم جدوى الجدال الديني.

ثانياً: رسخت مقومات الكيان المصري، مع تواصل التحديات الخارجية والداخلية اقتناعاً لدى مكونات الجماعة كلها بضرورة- بحتمية، الانصهار معاً في وحدة حقيقية تعني ان المواجهة في المجتمع لن تكون بين عقائد مطلقة بل هي تعني ان اديان الجماعة تقف متجاورة متعاونة ملتحمة تواجه كلها التحديات والمشاكل التي يتعرض لها المجتمع وتهدد بالخطر جميع مكوناته بلا استثناء. كما ان ظروف الحياة الاقتصادية والانتاجية والاجتماعية صنعت حياة مشتركة تلتحم فيها مكونات الجماعة وتتعاون.

ثالثاً: أفرز تعايش المطلقين والوحدة بين اتباعهما مساحة مشتركة من المفاهيم والقيم والاهداف- يمكن ان يواصل في اطارها المصريون المسلمون والمسيحيون حياتهم في امتزاج يتطور الى وحدة من خلال العمل المشترك: مفهوم الانسان وكرامته وحقوقه وحدة الجماعة الاعتزاز بالوطن، الحرية، المساواة، العدل… فصارت هذه المساحة المشتركة هي الخلفية المرجعية العامة لجميع أبناء مصر ومن خلالها بزغ مفهوم المواطنة وفي اطارها قام البناء الدستوري والسياسي.

هذه المساحة المشتركة ليست بديلاً عن الدين بل انها:

أ- تتغذى في مضمونها من الدينين الاسلامي والمسيحي.

ب- تضمن الاصالة لكل مكون في مكونات الجماعة وهو يؤدي دور في مختلف مجالات العمل الوطني ان يتمكن من ان ينسب هذه المساحة الى نفسه والى تراثه دون تعارض مع الآخر او تجاهل له.

ج- ثم ان هذه المساحة المشتركة تحث كلاً من مكوني الجماعة على ان يواصل ممارسته الدينية كاملة. بل ان هذه الممارسة هي التي تهيىء الشخص والجماعة الدينية للقيام بواجباتهما طبقاً لمفاهيم المساحة المشتركة وقيمها واهدافها. وهذه الممارسة هي التي تعبىء – وتنشط طاقة الابداع والمثابرة على مزيد من تطور المجتمع وتجاوز الواقع الراهن. ومن ثم يكون المنهج العام لهذه الممارسة الدينية الاسلامية المسيحية معاً هو ان الدين يساهم في تكوين الانسان والانسان يصنع العالم بعقله ووجدانه وإرادته.

وبناء على ذلك يكون هدف العلاقة بين الدينين – ليس استبعاد الآخر أو استيعابه، ولكن بالأحرى ابراز الركائز الفكرية المستمدة من الدين –أي من الدينين لدعم هذه المساحة المشتركة وتأكيد الرضا العام وبالنظام الوطني-السياسي والدستوري المشيد على أرضها.

إن “اللحظة الدستورية” التي بزغ فيها مبدأ “المواطنة” في الواقع المصري-هذه اللحطة جاءت نتيجة للحركة المصرية متعددة الجوانب. وبها بدأت الحياة الدستورية والسياسية الحديثة.

واذا كان من المسلم به ان التعددية ركن أساسي في هذه الحياة، فإنه وفي حقيقة الامر- يمكن القول بأن الصورة الأولى للتعددية في الواقع المصري هي التعددية الدينية منذ منتصف القرن السابع الميلادي. كانت هذه التعددية هي المدرسة الاولية – معهد التدريب الاساسي الذي تعلم فيه المصريون حتمية وجود الآخر، واكتشفوا ان هذا الاخير جدير بالاحترام ولابد من التعاون معه لانجاز المشروع المشترك.

وقد أظهر مسار التاريخ المصري الحديث والمعاصر نتيجة هامة-وهي ان النجاح في ممارسة أنواع أخرى من التعددية تعني على وجه الخصوص التعددية السياسية يتوقف على نتيجة ما جرى في المدرسة الاولية للتعددية ايجاباً وسلباً. أي ان حصيلة هذه المدرسة تنتقل الى المراحل التالية للتعددية. ان احترام الآخر الديني هو الشرط الضروري لاحترام الآخر السياسي. خاصة وان مسار التاريخ المصري أثبت لكل طرف في التعددية الدينية ان الآخر الديني جدير بالاحترام وذلك من خلال الممارسة التي تجري على صعيد الواقع العملي – وليس كنتيجة مستمدة من البحث النظري المجرد.


[1]  فقه (بفتح الغاء وكسر القاف) الشيء فقهاً أي فهمه.

[2]  التعبير الذي استخدامه عمرو بن العاص عن المصريين في رسائله الى الخليفة عمر بن الخطاب.