القدس من دون مزايدات

جليل الهاشم

الإكتفاء بالرمزية الدينية لمدينة القدس قد يكون مضراً أكثر مما يفيد في الدفاع عن عروبتها وفلسطينيتها. ذلك ان الإغراق في هذا المنطق الديني على أهميته وقيمته ورمزيته يفتح الباب أمام إجتهادات دينية ولاهوتية وفقهية تجعل من المدينة معبراً الى الجنة أكثر مما هي مدينة فلسطينية عربية محتلة يهدد الإحتلال بطرد سكانها وإحكام سيطرته عليها.

لقد برع الصهاينة منذ قيام حركتهم الإستيطانية في نهاية القرن التاسع عشر بإعلاء النظرية الدينية ومحاولة تصوير القدس مدينة يهودية في السياق التاريخي وذلك ضمن مشروعهم المستمر لإقامة وتكريس ما يسمونه الدولة اليهودية. وفي المقابل لم تكن المدينة يوماً مكرسة لدين أو لمذهب معيّن كانت مثلها مثل مدن المشرق الأخرى تخضع لسلطات متنوعة ومتعاقبة من اليونانيين الى الرومان الى السلطة الإسلامية العربية خصوصاً الأمويين فإلى الصليبيين الفرنجة وصولاً الى الدويلات المتعاقبة في نهايات العصر العباسي ثم العثمانيين فإلى الإنتداب البريطاني مطلع القرن الماضي.

النقاش حول أولوية الحق الديني في المدينة تبقى له قيمة رمزية ولكنها ليست القيمة الحاسمة ففي النهاية وعلى أهمية المعنى الروحاني للقدس نحن أمام مدينة عربية محتلة تتعرض لمحاولة شطب نهائية من التاريخ العربي الفلسطيني للقول بأن اسرائيل اليهودية بما هي عليه من دولة إحتلال قد حققت الإنتصار الكامل عبر وضع اليد على القدس بالضربة القاضية.

قبة-الصخرة-القدس

من المهم جداً ان نشهد حالة التضامن الدولي والعربي والإسلامي ضمناً مع المدينة رفضاً لقرار الرئيس الأميركي لكن يجب التنبه الى المزايدات وعمليات البيع السياسي والإستفادة من الظروف التي تواكب عموماً معارك تضامنية من هذا النوع. فهناك من يرفع الصوت كثيراً ضدّ أميركا وإسرائيل ولكنه في الواقع يغطي أشياء أخرى لنأخذ القيادة التركية وهي من بين أكثر الأصوات ارتفاعاً ضدّ إسرائيل وأميركا ولكنها في المقابل تقيم علاقات متطورة جداً على المستويات الإقتصادية والعسكرية مع إسرائيل ورغم كل الخطابات التي تستجدي العطف الجماهيري باسم الإسلام والمسلمين فاق التبادل التجاري ما هو متوقع وبلغ مليارات الدولارات فيما التنسيق الإستخباري العسكري على أشده وهناك دول أخرى في المنطقة ترفع الصوت بقوة منذ عشرات السنين دفاعاً عم القدس لكنها لا تفعل سوى تمزيق الجبهة المفترضة في مواجهة الإحتلال.

السلاح العملي الوحيد الذي يفترض الرجوع اليه في هذه المعمعة التمسك بالقرارات الدولية وتحديداً للمبادرة العربية للسلام والبناء عليها في مواجهة سياسة الإحتلال وهمروجة دونالد ترامب. فمن هنا المدخل الى إبقاء القدس عاصمة الدولة الفلسطينية العربية ورمزاً للديانات السماوية وأتباعها.

(الأنباء)