قيامة القدس على ابواب ذكرى الإنتفاضة الأولى/بقلم المهندس محمد بصبوص

 

في مثل هذا اليوم، في الثامن من كانون الأول من العام 1987، أي منذ ثلاثين عاماً، إنطلقت الإنتفاضة الفلسطينية الأولى التي عرفت بـ”انتفاضة الحجارة” إثر قيام شاحنة يقودها مستوطن من “أشدود” بدهس مجموعة من العمّال الفلسطينيّين على حاجز “إريز” الذي يفصل قطاع غزة عن فلسطين 48، ما أدى إلى استشهاد أربعة فلسطينيين و جرح آخرين.

كانت هذه الشرارة الأولى التي كللت نصف قرنٍ من القتل والقهر والتشريد والنفي والإضطهاد، بالإضافة إلى وضع اقتصادي مزرٍ دفع العديد من الفلسطينيين للعمل في فلسطين 48 في ظروف مأساوية، ما اضطرهم إلى تقاضي رواتب تقل بأضعاف عما يتقاضاه نظرائهم الإسرائليين، وإلى انعدام أي شكل من الضمانات الإجتماعية، لا بل كانت الأنظمة تسمح بطرد العامل الفلسطيني دون دفع أجره، بالإضافة إلى ما تجرعه هؤلاء من إذلالات وإهانات يومية على حواجز العبور.

و من الأسباب الأساسية التي فاقمت شعور القهر والغضب لدى الفلسطينيين، كان احتلال القدس منذ عشرين عاماً (من 1967 إلى 1987) وإعلانها عاصمة أبدية للكيان الغاصب، مع ما ترافق من إجراءات قمعية في منع او تقنين دخول المصلين إلى الحرم الشريف مع ما ترافق من حركة واسعة من الإستيلاء على أراضٍ واسعةٍ و مصادر مياه وبناء ممنهجٍ للمستوطنات.

سريعاً إنتقل لهيب الإنتفاضة المباركة من “جباليا” ليعم كامل قطاع غزة وصولاً إلى جبل النار (نابلس) ومخيم بلاطة لتنتشر في كل بقاع الضفة الغربية. و قد أخذت منحاً تصاعدياً في المواجهة حين  نشر صحافي صور جنود يكسرون أذرع فلسطينيين عزل باستخدام الحجارة في مدينة نابلس عملاً بما هدد به رابين من قبل قائلاً “سنكسر أيديهم وأرجلهم لو توجب ذلك”.

رغم محاولات إخمادها، صمدت الإنتفاضة وتأججت وخلقت قوة دفع هائلة لحركات التضامن من خلال تظاهرات واعتصامات عمّت أرجاء المعمورة وأدت إلى كشف زيف الإعلام الإسرائيلي وإلى حركة تضامن وتعاطف غير مسبوقة مع حقوق الشعب الفلسطيني وعدالة قضيته. وبفضل هذا الصمود أصدر مجلس الأمن القرار رقم 605 الذي يشجب السياسات والممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، وبصفة خاصة قيام الجيش الإسرائيلي بإطلاق النار مما أدّى إلى مقتل وجرح المدنيين الفلسطينيين العزّل، وطلب من إسرائيل التي تمثل السلطة القائمة بالاحتلال أن تتقيد فوراً وبدقّة باتفاقية جنيف المتعلقة بحماية المدنيين وقت الحرب.

شكل هذا القرار الإنتصار السياسي الأول ودفع بالإنتفاضة رغم طابعها الغير مسلح، إلى تطوير نفسها سريعاً، فاستطاعت أن تنتظم من خلال إنشاء لجان محلية داخل المخيمات والبلدات عملت على توفير الحد الأدنى من مستلزمات صمودها وتوجيه حركتها وسرعان ما توحدت هذه اللجان ضمن هيئات أوسع على اتصال بمنظمة التحرير الفلسطينية، وعملت على صياغة أهدافها السياسية التي شملت الثوابت الوطنية ومنها إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، تفكيك المستوطنات، وعودة اللاجئين دون قيد أو شرط، بالإضافة إلى المطالب الوطنية التي نصّت على إخلاء سبيل الأسرى من السجون الإسرائيلية، وقف المحاكمات العسكرية الصورية والاعتقالات الإدارية السياسية والإبعاد والترحيل بكل أشكاله، لمّ شمل العائلات الفلسطينية من الداخل والخارج، وقف فرض الضرائب الباهظة على الفلسطينيين، وقف حلّ هيئات الحكم المحلي المنتخبة وإتاحة المجال أمام تنظيم انتخابات محلية ديموقراطية للمؤسسات في البلاد.

بفضل التضحيات الغالية و الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني استمرت الإنتفاضة المباركة حوالي الست سنوات ارتقى خلالها 1200 شهيد، وجرح 90 ألفاً، و تم تدمير ما يزيد عن 1200 منزل، واقتلاع أكثر من 140 ألف شجرة من الحقول والمزارع الفلسطينية. أما عدد المعتقلين فزاد عن 50 ألف أسير من الضفة والقطاع وفلسطينيي ال48. وقد تمكنت الإنتفاضة من تحقيق بعض الأهداف التي كان أهمها الانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية، غزة وأريحا أولاً وتواصل مع باقي الـمدن باستثناء القدس ومدينة الخليل، مما يتنافى مع اتفاق اوسلو، الإعتراف الإسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي للشعب الفلسطيني، إنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية وتشكيل المجلس التشريعي الفلسطيني ثم اجراء أول انتخابات رئاسية وتشريعية فلسطينية.

منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، لم تهدأ السياسة الإستيطانية التوسعية للكيان الغاصب يوماً، بل تمادت بعمليات القضم، والإستيلاء على الأراضي الفلسطينية، والتطوير المستمر للمستوطنات وبناء جدار الفصل العنصري، هذا عدا عن ممارسات القتل والقمع والترهيب بحق الفلسطينيين، أما الأخطر فيكمن في السياسة المستمرة لتهويد مدينة القدس ومحاولات طمس معالمها التاريخية.

في السادس من كانون الأول، أطلّ الرئيس الأميركي مصرحاً بأنه قد “حان الوقت للإعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل” وبإعلانه عن نقل سفارة الولايات المتحدة من تل أبيب إلى القدس، قائلاً “لا يمكن حل المشاكل بنفس المقاربة الفاشلة، مشددا على ان اعلانه سيكون بمثابة مقاربة جديدة تجاه النزاع الفلسطيني الإسرائيلي”،

و قد بدا واضحاً أنَّ أول غيث هذه المقاربة الجديدة تمخض بهذا الإعتراف ليعود الراعي الأميركي (الغير منحاز) ليلعب دوراً محورياً في حل النزاع العربي الإسرائيلي من خلال مقاربة “ناجحة”.

كان الأجدى بالراعي الأميركي أن يعود لتقييم كافة المقاربات الفاشلة التي قام بها الكيان الصهيوني بتشجيع ومباركة من الراعي الصالح منذ العام 1948 وحتى تاريخنا هذا وينظر ملياً إلى ما انتجته هذه المقاربات خلال 60 عاماً.

عود على بدء، فبعد الإعلان الأميركي، أضحت المنطقة على أعتاب مخاض عسير سوف يرسم حتماً ملامح مستقبل جديد، مستقبل مشرق يقارع أعداء الشمس، مستقبل تخطه انتفاضة رابعة، انتفاضة “زهرة المدائن”.

قبضات أحرار قدرهم أن يكونوا رأس حربة لهذه الأمة وقوة دفعها، أشبال يعيدون ترتيب الأولويات، وزغاريد تعيد تصويب البوصلة إلى القضية الأم، ثوار يعيدون الإعتبار إلى مدينة الصلاة عاصمة أبدية.

 

* عضو مجلس قيادة الحزب التقدمي الإشتراكي