روسيا لم تعد ضيفاً طارئاً

رائد جابر (الحياة)

أن تدعى روسيا إلى إقامة قاعدة عسكرية على البحر الأحمر، لمواجهة «عدوانية» الولايات المتحدة في المنطقة، مؤشر جديد إلى طبيعة التغييرات التي شهدتها التوازنات الدولية خلال العامين الأخيرين.

وإعلان الرئيس السوداني عمر البشير استعداد بلاده لاستضافة وجود عسكري دائم للروس في المنطقة، فسر في موسكو بأنه نتيجة منطقية لـ «النجاحات الروسية» في سورية ودليل على تبدل المزاج الإقليمي لجهة السعي إلى «الاستقواء» بالقوة الروسية الصاعدة إقليمياً ودولياً. وهو أمر يلبي طموحات الصقور في مطبخ القرار الروسي، الذين يرون في آليات التدخل المباشر وفرض وقائع جديدة، بديلاً أكثر جدوى من سياسة «القوة الناعمة» التي نادت بها الديبلوماسية الروسية لسنوات.

لذلك، لم يكن مستغرباً أن تسارع أوساط روسية إلى إعلان ترحيب بالفكرة، واستعجال عرضها في شكل رسمي على شكل مسودة اتفاق بين البلدين. هذه الحماسة مفهومة. لأن تعزيز وجود دائم في أفريقيا يشكل وفقاً لخبراء حلقة مكملة للوجود العسكري الروسي في قاعدتي حميميم وطرطوس، وفي حوض البحر المتوسط عموماً. إذ من الصعب نفي الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن بالنسبة إلى روسيا الساعية إلى «عودة كاملة» إلى الشرق الأوسط، خصوصاً أن الاتحاد السوفياتي كانت له قواعد مماثلة في الصومال وفي إثيوبيا.

ويخدم التطور أن يحقق هدف تعزيز الموقف الروسي في المواجهة القائمة مع الولايات المتحدة. لكن في المقابل، ثمة محاذير لا يمكن موسكو أن لا تضعها في الحسبان وهي تبحث عن موطئ قدم في البحر الأحمر؛ بينها التكلفة الباهظة لتحرك من هذا النوع، في ظروف الأزمة المالية الحالية، ومساعي ترشيد النفقات. لكن الأهم، حساسية الوضع في المنطقة وحرص روسيا على تجنب استفزاز لاعبين إقليميين مهمين، وهذا أمر يفسر مسارعة القيادة العسكرية الروسية إلى إجراء اتصالات مع بلدان في المنطقة في إطار درس آفاق تطبيق الفكرة، أو الخيارات البديلة إذا دعت الضرورة للتخلي عنها.

في مستوى أوسع من الإقليم، فإن التعامل مع الرئيس البشير يفاقم مشكلات روسيا مع المنظمات الدولية ومع الغرب. واستضافة الرئيس السوداني في سوتشي على رغم الملاحقة الدولية ضده، وتوقيع عقود تجارية وعسكرية معه، شكلا تحدياً روسياً مفهوماً لقرارات المحكمة الجنائية الدولية، التي لا تخفي موسكو معارضة آليات عملها وأحكامها. لكن الذهاب نحو توسيع التعاون إلى درجة إقامة قاعدة عسكرية دائمة من شأنه إثارة عاصفة من الانتقادات، حول طبيعة تحالفات الكرملين إقليمياً ودولياً.

ومهما كان مصير المبادرة السودانية، لجهة انتقالها إلى مسار التطبيق العملي، إذا اتخذت موسكو قرار خوض المغامرة الجديدة في المنطقة، أو مراوحتها حبيسة في الأدراج لحين توافر الظروف الملائمة، فهي جاءت في التوقيت المناسب لكل من الخرطوم وموسكو.

ومسألة توسيع الوجود العسكري الروسي في المنطقة باتت خلال العام الاخير مطروحة في شكل نشط على أجندة الكرملين، في المحادثات مع أكثر من طرف إقليمي. والوجود في سورية لم يعد مرتبطاً بتطور مسار التسوية في هذا البلد، وغدا نقطة ارتكاز أساسية في السياسة الروسية إقليمياً ودولياً. لذلك، فإن الحديث عن تقليص محتمل للقوات الروسية في سورية مع حلول نهاية العام، يقتصر على «القوة الفائضة» عن حاجة موسكو لحماية وجود دائم في القاعدتين الروسيتين وفي المنشآت الأخرى حيث تنتشر قواتها.

والمنطق الروسي يقوم على أن الانتشار العسكري أساس تعزيز الدور السياسي. وبهذا المعنى تحديداً، فإن جزءاً من النخبة السياسية والعسكرية الروسية بات يروج لفكرة أن روسيا لم تعد «ضيفاً طارئاً» في المنطقة، مع كل ما يغير ذلك من معادلات التعامل مع جار قريب ودائم.